مواقف الفلاسفة شسترمان ودانتو ولامارك ضمن فلسفة الأدب
شسترمان: لا فرق بين الفلسفة والأدب
دانتو: الفلسفة نوع من الأدب
لامارك: لا يختلف الأدب عن العلم
حسن عجمي
نرصد في هذا المقال مواقف الفلاسفة شسترمان ودانتو ولامارك ضمن فلسفة الأدب. ونسأل السؤال الأساسي: ما الذي يميز بين الأدب والفلسفة والعلم؟ تختلف المواقف الفلسفية وتتنوع، لكنها تتفق على أن تتفلسف. فاللايقين أساس الفلسفة وملهمها.
يؤكد الفيلسوف ريتشارد شسترمان أن مهمة فلسفة الأدب كامنة في تقديم تعريف موضوعي لماهية الأدب. لكن إذا كانت الفلسفة نوعاً من الأدب, إذن يصعب القيام بمهمة فلسفة الأدب لوقوعها حينها في الدور المرفوض منطقياً. فإذا كانت الفلسفة أدباً، بذلك حين تقدّم الفلسفة تعريفاً فلسفياً للأدب, تكون الفلسفة قد قدمت تعريفاً أدبياً للأدب أي تكون قد عرّفت الأدب بالأدب, وهذا دور كتعريف الماء بالماء. من هنا, يستحيل تقديم تحليل موضوعي للأدب من قبل الفلسفة، في حال كانت الفلسفة نوعاً من الأدب. وعلى أساس أن مفهوم الأدب مفهوم واسع يتضمن أجناساً كتابية ولفظية عدة ومختلفة, من الصعب نكران أن الفلسفة هي أدب. يطرح شسترمان أدلة عديدة على صدق موقفه، منها مثلاً أنه من الخطأ التمييز بين الفلسفة والأدب من خلال اعتبار أن الأدب خطاب خيالي بينما الفلسفة ليست كذلك. هذا لأن العديد من الأعمال الأدبية ليست خيالية وتهدف إلى معرفة الحقائق Edited by: Garry L. Hagberg and walter Jost: A Companion to the Philosophy of Literature. 2010. Blackwell Publishing.
يضيف شسترمان أننا لا نستطيع بحق التفريق بين الفلسفة والأدب من خلال القول إن بعض الفلاسفة كالفيلسوف سقراط لم يكتبوا نصوصاً فلسفية بل عبِِّروا عن فلسفتهم من خلال الأحاديث الشفهية. وهذا لأن الأدب يتضمن أيضاً الآداب الشفهية. أما أن نعتبر أن الفلسفة ليست مجرد أدب لكونها طريقة في الحياة بدلاً من أن تكون مجرد خطاب، فهذا لا يساعدنا حقاً في التمييز بين الفلسفة والأدب لأنه, كما يقول شسترمان، لتكون الفلسفة طريقة حياة لا بد من أن تكون خطاباً أدبياً لتصمد بعد موت مبدعها ولتكون مرجعاً للسلوك الحياتي. من هنا، يستحيل التمييز بين الفلسفة والأدب. أما الفيلسوف آرثر دانتو فيشير إلى أن الأعمال الفلسفية تتنوع وتتخذ أشكالاً أدبية مختلفة منها التأملات والتعليقات والحوارات والمقالات والأشعار إلخ وتحمل في ثناياها المجاز والخيال الأدبي. كما أن الفلاسفة استعانوا بكتابة الروايات والمسرحيات ليعبّروا عن فلسفاتهم. على هذا الأساس تمتزج الفلسفة بالأدب والعكس صحيح ما يجعل الفلسفة نوعاً من أنواع الأدب, وبذلك لا فرق جدياً بينهما (المرجع السابق).
كل هذا يدعم موقف السوبر حداثة القائل بأن من غير المحدّد ما هو الأدب وما هي الفلسفة, إذن من الطبيعي أن لا يوجد ما يميز حقاً بينهما. هكذا تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية اعتماداً على مبدأ اللامحدّد الحاكم لكل الكون وظواهره. من المنطلق ذاته، لا يوجد تمييز حق بين الأدب والعلم كما سنرى.
الأدب والجمال
أما الفيلسوف بيتر لامارك فيناقش القضية الأساسية في فلسفة الأدب فيسأل: ما الذي يجعل النص نصاً أدبياً؟ ترتكز نظريته على المزايا الجمالية الكامنة في الأعمال الأدبية وكيفية اختبارها من قبل المتلقي. لكنه يبدأ بعرض المذهب التقليدي في فلسفة الأدب الذي يقول إن الأدب هو الذي يعبِّر عن الواقع إما بشكل مباشر أو غير مباشر. وُلِـد هذا الاتجاه مع أفلاطون وأرسطو وازدهر عبر العصور في صيغ مختلفة. لكن تواجه هذا المذهب الفلسفي مشكلة قاتلة مفادها التالي: إذا كان الأدب يعبِّر عن الواقع، وبما أن العلم تعبير عن الواقع، إذن لا فرق بين الأدب والعلم. هكذا يفشل هذا الاتجاه الفلسفي في التمييز بين الأدب والعلوم، بينما المطلوب هو تقديم تعريف للأدب يميّزه عما ليس بأدب. من هنا، لا بد من البحث عن نظرية أخرى قادرة على تحليل الأدب بنجاح. هذا ما يحاول أن يقدّمه بيتر لامارك في كتابه «فلسفة الأدب» Peter Lamarque: The Philosophy of Literature. 2009. Blackwell
يسعى الفلاسفة إلى تقديم تعريف لمفهوم الأدب فيسألون: متى يكون النص نصاً أدبياً؟ فثمة نصوص قانونية وقضائية وتقريرية وعلمية إلخ من المفترض أن تختلف عن النص الأدبي. من هذا المنطلق، لا بد من تحديد الظروف الضرورية والكافية التي بفضل تحققها يتحقق النص الأدبي ويوجد. تسلّـم المدرسة الفلسفية المهيمنة بأن للأدب ماهية، لذا تهدف إلى تحديد ماهية الأدب فتتساءل: ما هي هذه الماهية؟ يجيب لامارك عن هذا السؤال قائلاً: الأدب هو الذي يطرح فضاء منسجماً وأساسياً قادراً على إحداث المتعة الجمالية وتصوير الصفات الجمالية وتجسيدها وخلق تقدير جمالي وقيمة جمالية. بالنسبة إلى بيتر لامارك، ينجح هذا التحليل للأدب في التعبير عن ماهية الأدب الحقيقية، لأنه يتمكن من التعبير عن أن الأنواع الأدبية المتنوعة كالرواية والقصة والشعر إلخ هي حقاً آداب؛ فكلها تمتلك العناصر الجمالية والقدرة على الإمتاع الجمالي. وبذلك، من منظور لامارك، يكتسب تعريفه للأدب قدرة تعبيرية ما يجعله تعريفاً مقبولاً. بالإضافة إلى ذلك، يقول لامارك إن تقدير العمل الأدبي على أنه أدب يعني تصوره على أنه نتاج مصنوع من أجل غاية. وتكمن هذه الغاية في إحداث وعي عالٍ بشكل النص وبنيته وفي تَوقُع انسجام النص وترابطه الداخلي وعرضه لموضوع مثير، إما من خلال السرد أو العواطف المتخيلة أو المجاز وتَوقُع أن يطوِّر النص مبادئ أو مضامين تمثّـل قيمة تستدعي التأمل في مسائل إنسانية عالمية. على ضوء هذا التفصيل الفلسفي، العمل الأدبي بالنسبة إلى لامارك هو العمل الذي يملك هذه الأهداف بالذات (المرجع السابق).
العلم والأدب
لكن تعاني نظرية لامارك من مشكلة مدمرة ألا وهي التالية: العلم أيضاً يمتلك عناصر جمالية ويُحـدِث إمتاعاً جمالياً وقيماً جمالية، ويطالب بأن يُقـدَّر جمالياً وهو على صلة وثيقة بالتأمل في المسائل الإنسانية والعالمية. من هنا، إذا كان العمل الأدبي هو مجرد عمل يتضمّن بنيات جمالية ويُنتِـج إمتاعاً جمالياً وقيماً جمالية ويلزمنا بتقديره جمالياً، إذن لا يختلف الأدب عن العلم بالنسبة إلى نظرية لامارك. لكن تهدف نظرية لامارك إلى تمييز الأدب عما سواه. بذلك تفشل نظريته في الأدب. الآن، لا بد من تقديم مثل على أن العلم يتصف بالجمال وبصناعة الجمال. هذا ما يؤكده الفيزيائي لي سمولن خصوصاً حين يشرح نظرية الأوتار العلمية.
بالنسبة إلى نظرية الأوتار، يتكوّن الكون من أوتار وأنغامها. فمع اختلاف تذبذب الأوتار تختلف مواد الكون وطاقاته. لكن، كما يوضح لي سمولن، نظرية الأوتار لا تؤدي إلى أية نتائج جديدة، وبذلك لا يوجد اختبار علمي يرينا ما إذا كانت صادقة أم كاذبة على ضوء صدق أو كذب نتائجها. ورغم أنها لا تخضع للاختبار العلمي، العديد من الفيزيائيين يقبلون بها ويعملون على أساسها من جراء جمالها فقط Lee Smolin: The Trouble With Physics. 2006. Houghton Mifflin Harcourt . فنظرية الأوتار تتمتع بعناصر جمالية فائقة لكونها تصوّر العالم على أنه أوتار وأنغامها تماماً كأوتار الآلات الموسيقية وأنغامها، وبذلك تثير لدى العلماء الحس والإمتاع الجمالي فتقـدَّر من قبلهم جمالياً. وبسبب أنها نظرية علمية، هي إذن بلا شك تلزمنا بالتأمل في المسائل الإنسانية والكونية؛ فالإنسان أيضاً أوتار وأنغام لكونه جزءاً من العالم. على هذا الأساس، تملك نظرية الأوتار العلمية الخصائص نفسها التي لا بدّ للعمل الأدبي أن يملكها لكي يكون أدباً بالنسبة إلى بيتر لامارك. وبذلك نظرية لامارك لا تتمكّن من التمييز بين الأدب والعلم. هكذا تتهاوى نظرية لامارك في محاولة تحديدها للأدب وتمييزه عما سواه.
بالإضافة إلى ذلك، يعتمد العلم على السرد والخيال والمجاز والشعور والحدس. من هنا، من الخطأ تحليل الأدب من خلال تلك المفاهيم، لأن حينها نفشل في تمييز الأدب عما ليس من المفترض أن يكون أدباً كالعلم. لننظر إلى النظرية النسبية لأينشتاين. بالنسبة إلى النظرية النسبية، بينما الجاذبية هي انحناء الزمكان (جمع الزمان والمكان)، المادة هي اضطراب الزمكان. أما قانون أينشتاين الشهير 2E=MC فيعني أن الطاقة تتحوّل إلى مادة والعكس صحيح. تضيف نظريته أن الزمن نسبي بحيث يختلف مع اختلاف السرعة؛ فزمن المُراقِـب لقطار يسير يختلف عن زمن الجالس في ذاك القطار. لذا يقول أينشتاين إنه إذا سافر الأب بسرعة هائلة إلى الفضاء وقريبة جداً من سرعة الضوء ومن ثم عاد إلى الأرض سيغدو حينها أصغر من ابنه Richard Wolfson: Simply Einstein. 2003. Norton & Company. كل هذا سرد، أما تصوّر سفر الأب وعودته فيعتمد على الخيال. بذلك في العلم سرد وخيال.
من جهة أخرى، ساهم أينشتاين في بناء نظرية ميكانيكا الكم ّ لكنه رفضها قائلاً إن الله لا يلعب بالنرد. فبالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ، من غير المحدَّد سرعة الجسيم ومكانه في آن كما من غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم كالإلكترون جسيماً أم موجة، وما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. هكذا تعتبر ميكانيكا الكم ّ أن الكون غير حتمي بينما نظرية النسبية لأينشتاين تؤكد أن الكون حتمي أي محكوم بقوانين حتمية وليست احتمالية. لذا رفض أينشتاين ميكانيكا الكم ّ من خلال مجاز رائع في الجمال مفاده أن الله لا يلعب بالنرد (المرجع السابق). هذا يرينا أن العلم يعتمد على المجاز أيضاً. كما أن العلماء يعتمدون على شعورهم وحدسهم تجاه النظريات العلمية، وعلى ضوء مشاعرهم وحدسهم يحكمون عليها. هذا ما حدث مع أينشتاين حين بنى نظريته؛ فحدسه وشعوره بأن النظرية النسبية بسيطة ومنسجمة وجميلة أظهرا له ضرورة أن تكون نظريته صادقة (المرجع السابق). هكذا للشعور والحدس أدوار مهمة في العلم وصياغته. على أساس كل هذا، لا نستطيع بحق أن نميّز الأدب عن العلم من خلال مفاهيم الشعور والحدس والجمال والخيال والمجاز والسرد، ما يدعونا إلى طرح فلسفة السوبر حداثة ونظرتها إلى العمل الأدبي.
الآن، بما أنه يستحيل علينا تحليل الأدب من خلال المفاهيم السابقة، وبما أن تلك المفاهيم هي وحدها المتاحة لنا كي نعرِّف العمل الأدبي، إذن من غير المحدَّد ما هو الأدب، كما تقول السوبر حداثة بالضبط. فإما أن نعرِّف الأدب من خلال ما يمتلك من عناصر موضوعية مرتبطة به، وليس بالضرورة بناؤه كالسرد والمجاز وصفات الجمال والخيال، وإما أن نعرِّف الأدب من خلال تأثيره فينا كمتلقين كأن نعرِّفه على أنه ما يثير فينا مشاعر الجمال والمتعة والدهشة. لكن في الحالتين يبقى الأدب غير مختلف عن العلم لأن العلم يملك العناصر الأولى كما يثير فينا مشاعر الجمال والمتعة والدهشة. من هنا، لا نتمكن من تحليل العمل الأدبي وتمييزه عن غيره كالعلوم. وبذلك من غير المحدَّد ما هو العمل الأدبي؛ فلا فرق حقيقياً بين الأدب والعلم كما لا فرق حقيقياً بين الأدب والفلسفة.
بالنسبة إلى السوبر حداثة، من غير المحدَّد ما هو الكون، لكن رغم لامحددية الكون من الممكن معرفته، لأن من خلال لامحدديته من الممكن تفسيره. من هذا المنطلق، تقول السوبر حداثة إنه من غير المحدَّد ما هو الأدب وما هي ماهيته، ولذا تفشل النظريات المختلفة في تحديد العمل الأدبي وتعريفه. هكذا تفسِّر السوبر حداثة لماذا تفشل التحليلات المتنوعة للأدب، بذلك تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية فمقبوليتها. وبما أن السوبر حداثة لها هذه القدرة التفسيرية، إذن توصلنا إلى معرفة؛ لقد أوصلتنا هنا إلى معرفة لماذا تفشل النظريات المختلفة في تحليل الأدب. هكذا تنجح السوبر حداثة في الجمع بين إمكانية المعرفة ولامحددية الحقائق والظواهر كلامحددية العمل الأدبي. بالفعل، السوبر حداثة تختلف عن الحداثة وما بعد الحداثة. فبينما الحداثة تصرّ على أن الكون محدَّد ولذا من الممكن معرفته، تقول ما بعد الحداثة إن الكون غير محدَّد ولذا من غير الممكن معرفته. لكن السوبر حداثة تختلف عنهما لأنها تؤكد أن الكون غير محدَّد ورغم ذلك من الممكن معرفته. إنه زمن السوبر حداثة حيث اللامحدَّد يحكم العالَم من دون أن يلغي إمكانية المعرفة.
السفير الثقافي