السيناريو المرعب
منصف المرزوقي
جل أعمالنا مبنية على توقعات للمستقبل، وبقدر ما تكون قريبة من التخمين الصحيح، تتحسن قراراتنا لمواجهة أنجع مع الواقع وأخطاره. المشكلة أن المستقبل صعب التنبؤ به. كم من توقعات ساذجة كذبتها الأحداث وأصحابها يتناسون عاملا مهما.
هكذا يفاجأ هذا الدكتاتور أو ذاك بالحبل حول عنقه لأنه ظنّ المستقبل امتدادا للحاضر، أو يحبط معارض آمن ظن أنه لا بد للّيل أن ينجلي فإذا به يتزايد حلكة وبالقيد يتزايد استعصاء على الكسر.
ومع ذلك لا بدّ مما لا بدّ منه، فإما توقعات غامضة مبنية على مخاوف أو أوهام تزيد من تخبطنا، وإما توقعات مبنية على معطيات صلبة نعتبرها أرجح الاحتمالات نأخذ على ضوئها قراراتنا لنستبدلها إن تغيرت الأحداث.
وفي حالة الأمة، أي توقعات جدية مطالبة بالانطلاق من أول شرط توفر بعض حظوظ صحتها أي أدق تشخيص ممكن من رؤوس أقلامه ما يلي.
لم يعد هناك من حاجة للتدليل على أن الاستبداد الذي يتحكم في رقابنا اليوم جد مختلف عن استبداد ما بعد الاستقلال الأول. هو لا عقائدي، لا وطني، لا مستقل، خصخص مؤسسات الدولة للتسلط والإثراء والبقاء خارج النقد والمحاسبة، لا هدف له غير التأبيد في السلطة (وتوريثها) بكل الوسائل حتى العمالة وإشراك الأجهزة العسكرية والبوليسية في الغنيمة لتبقي على الوضع ولو بثمن يربو على مائتي ألف قتيل كما حصل في الجزائر.
وهذا يعني أننا نواجه تحالفا متينا وخطيرا بين طبقة سياسية متورطة إلى العنق في كل أنواع الجرائم، من سرقة المال العمومي إلى التعذيب إلى العمالة إلى تزوير الانتخابات، مع جهاز بوليسي لم تعد مهمته حماية المجتمع من الجريمة المنظمة وإنما حماية الجريمة المنظمة من المجتمع، أضف لهما جيشا لم تعد مهمته حماية الوطن من أعداء الخارج وإنما حماية النظام من أعداء الداخل.. كل هذا في ظل حماية إسرائيلية غربية.
ولا شكّ أنه يوجد داخل أجهزة بعض الدول الغربية الحامية لوكلائها بعض من يظنون أنفسهم ميكيافيلات العصر، وهم يعملون على مزيد من تعفين الوضع الداخلي العربي، لأن ذلك يضعف خصما قد يهددهم تماسكه ونهوضه.
هم لا يفهمون أنه إذا شبت النار في طابق في العمارة فإن كل الطوابق مهددة وليس فقط بإزعاج الدخان.
ثمة سياسة إسرائيل التي أصبحت لغة الطب العقلي هي الأكثر تلاؤما لوصفها، والعالم شرقه كغربه شبه مجمع على صورة دولة مصابة بالشيزوفرينيا والبارانويا والعصاب.
للأسف، المجانين الذين يحكمونها جالسون فوق حزمة من القنابل الذرية، ولا أحد يعرف متى تدفعهم حالتهم العقلية المتردية لما لا يتدارك، وكل أنواع الحروب سواء ضد العرب أو إيران متوقعة منهم في أي لحظة. بهذا تكتمل صورة البركان الذي نجلس عليه جميعا.
أما بالنسبة لتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، فما الذي يمكن لهذا النص المقتضب إضافته في هذا الموضوع باستثناء إحالة القارئ مرة أخرى على تقرير 2009 للإنماء الدولي للأمم المتحدة أو دعوته لتخيل وضع ستين مليون عربي الذين يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، أو حالة الملايين من الشبان العاطلين، ومنهم مئات الآلاف من المتعلمين وكلهم مخيرون بين الانتحار أو الهجرة إلى بلدان ليست بعيدة عن إطلاق النار على قوارب الموت والجوع العربية والأفريقية.
كل هذا في إطار انهيار الطبقة الوسطى وتوسّع الهوة بين من قيل عنهم إنهم أغنى الأغنياء ومن لا يملكون إلا أسمالهم، في ظل أزمات اقتصادية عالية متلاحقة كأمواج المحيط، ناهيك عن الكارثة البيئية التي تنذر بمزيد من التصحر والجفاف وانهيار الزراعة وعودة شبح المجاعة داخل مدننا السرطانية.
فليس أكثر عمى ممن لا يريد أن يرى ولا أكثر طرشا ممن لا يريد أن يسمع ولا أكثر غباء ممن لا يريد أن يفهم. إنه حال معارضات تصرّ على المشاركة في “انتخابات” صورية لتوسيع رقعة الحريات شيئا فشيئا كما تدّعي.
هي تتصرف كما لو كنا في تمش ديمقراطي، حقا بطيء لكنه موجود، أو كما لو كنا في ديمقراطيات جنينية يجب الصبر على طول نضجها، والحال أننا أمام عصابات نهب وسلب وتسلط وعمالة لا تخشى شيئا قدر حرية التعبير الفاضحة لفسادها، ولا تهرب من شيء قدر الهروب من الانتخابات الحرة والنزيهة لأنها ستكنسها كنسا.
ولن تسمح أبدا بوجود قضاء مستقل لأن فيه إدانتها، وستواصل نهجها الانتحاري إلى آخر لحظة، شعارها الإصلاح شريطة ألا يصلح شيئا، والمصالحة لكن مع النفس والعميل.
كم هو مضحك مبك أن نراها تتخابث مع الخبثاء وكأن بوسع الأرانب خداع الذئاب، مصرّة على تجاهل قانون أثبته التاريخ ألف مرة، أنه لا معارضة تحت دكتاتورية، وإنما مقاومة إما مدنية وإما مسلحة.
والأغرب أن يتشدق أصحابها بالاعتدال والوسطية وخاصة الواقعية، والحال أن إنكارهم للواقع المخيف هو خاصيتهم الفكرية الأولى.
عن عجز منظمات المجتمع المدني، عن فرض التغيير حدث ولا حرج، وكل تقاريرها تنتهي في سلة المهملات، شعار الطغاة كلامك يا هذا في النافخات زمرا.
لا فائدة من الحديث عمّن يبحثون عن حلول مشاكلنا في كبرى العواصم الغربية، فهم لا يستأهلون حتى هذا السطر.
عندما يعتبر المرء العوامل الأربعة وتفاعلها وبشيء من معرفة التاريخ، لن يجازف كثيرا بالقول بأن كل متطلبات كارثة عظمى موجودة، وأن الاحتمال الأرجح في العقدين القادمين هو السيناريو التالي.
– تفاقم التعفن على مستوى الدولة الاستبدادية العاجزة عن كل إصلاح، والانحطاط على مستوى مجتمع عاجز عن التحرك والتفكك على مستوى نخب سياسية عاجزة عن الفعل.
– اندلاع حروب أهلية قاسية بين إرهاب الدولة وإرهاب المجموعات المسلحة، تعطينا الجزائر واليمن والصومال والسودان والعراق بعض نماذجها، علما بأننا نفتعل أن هذه الحروب حرائق منعزلة ولا تدلّ على أن الوطن العربي غابة من الحطب اليابس ترتفع الحرارة داخلها يوما بعد يوم، والمستقبل شبه المؤكد اشتعال الحرائق في كل مكان.
– وقوع ثورات دموية رهيبة تشهد التنكيل بالمنكلين مع تمكن أنظمة أصولية أو قومية من الحكم ستشن في الداخل حربا لا هوادة فيها على أفكار وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارها جزءا من الإرث الغربي الكريه، ولا بأس من رمي الرضيع مع ماء الحمام القذر.
– تصاعد حدة المواجهات ثم حروب حتمية مع إسرائيل وحتى مع الغربيين ونهايتها خراب شامل للمنطقة.
مرة أخرى لا شيء في أن هذا التوقع ثابت ومؤكد، كل ما في الأمر أننا أمام أكثر الفرضيات احتمالا نظرا للوضع ولدروس التاريخ.
طبعا يمكننا رفضه كأضغاث كوابيس، فيعود المتسلط لطمأنة نفسه بخصوص جبن الشعوب واستكانتها إلى الأبد له ولورثته، ويعود المعارضون للتشهير الطوباوي بغياب الحريات والإشهار لأشخاصهم وأحزابهم إبان مواسم الدجل الانتخابي، والاعتصام بحبل الأمل أن يهدي الله السلطان أو أن يكون الخلف أحسن من السلف.
يمكن لملايين الشباب مواصلة البحث عن حلول فردية عبر التدخلات العائلية والقبول بفتات الأسياد. يمكن للحالمين أن يتصوروا أن للغرب قدرة استبدال عملائه الحاليين الذين انتهت صلاحيتهم، بجيل أذكى أو أخبث يمكنه المحافظة على نفس النظام والمصالح ببعض التنازلات الشكلية.
المصيبة أنه لا شيء في كل هذه “الحلول” قادر على إلغاء الحقائق المرعبة، آه لو كان رفض المريض لمرضه أو لتكاليف العلاج يبعد شبح الموت!
السؤال إذن ما المطلوب لإجهاض سيناريو مرعب بداهة كل الأحداث حبلى به؟
لنعتمد منهجية تصفف ما يجب فعله وذلك بغض النظر عن قابليته للتحقيق.
نظريا الحلّ المثالي أن تتمكّن من السلطة حكومات خلاص وطني، تنبثق من جبهات ديمقراطية واسعة وممثلة تكونت على أساس سياسي لا عقائدي، لا لإصلاح الاستبداد وإنما لتعويضه، تشرع حالا في الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي طال تأخيرها، تبعد شبح العنف الداخلي بهذه الإصلاحات والحرب الخارجية بالتفاوض الجدي والمدعوم بالقوة الداخلية لسلام عادل وشامل.
مثل هذا الحل غير وارد إلا بنجاح إستراتجيات منها:
– تجند الشباب للمقاومة المدنية باستعمال هذه الهبة الإلهية التي هي تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، والهدف ليس جمع مليون إمضاء لتسوّل نفس المطالب المعلقة منذ نصف قرن، وإنما لتنظيم مليون مظاهرة واعتصام، وفي هذا وحده ما يجعل أنظمة هشة تنهار كصرح من الورق المقوى. – قيام القيادات المتوسطة في الجيش والشرطة بشق عصا طاعة أنظمة فقدت كل شرعية وهيبة ومصداقية، مع التنبيه إلى أنها ستسهر من هنا فصاعدا على استقلال الوطن وحرية المواطن في اختيار من يحكمه دون أن تحكم هي، وقد أخذت العبرة من الماضي.
– انعقاد المؤتمرات الديمقراطية الوطنية بلدا بلدا (ثم في يوم ما على صعيد الأمة) تحت إشراف قيادات شابة للاتفاق على عقد سياسي جديد قوامه دستور يخرج من العموميات ليضع بمنتهى الدقة آليات حفظ المال العمومي وحماية الحريات الفردية والعامة، واستقلال القضاء، والتداول السلمي والسريع على السلطة والدفاع عن استقلالية القرار الوطني والقومي.
– تعهد هذه المؤتمرات بعدم المتابعة في حالة عدم إهدار الدم، لكن مع تحميل المسؤول الأول وأقرب المقربين إليه المسؤولية الجنائية عن كل القتلى شخصا شخصا يسقطون برصاص عصابات موالية أو برصاص قوى الأمن الباقية على الطاعة.
– فتح أوسع قنوات التواصل والحوار الممكنة مع قوى المجتمع المدني في الغرب، لتعرية المكيافليين المساندين للاستبداد العربي، وفضح قصر نظرهم وهم يتركون للأجيال الغربية المقبلة فاتورة هائلة من الضغينة المؤدية حتما إلى نوع أو آخر من صدام الحضارات.
– فتح أوسع قنوات التواصل والحوار مع القوى السياسية والثقافية اليهودية المناهضة للصهيوينة داخل وخارج إسرائيل.
وقد اتضح أن الحرب الأزلية لن تنتهي بحلّ الدولتين، أي بإسرائيل إمبريالية ذرية مهددة لسلم المنطقة والعالم، و”بانتوستانات” فلسطينية ممزقة الأوصال غير قابلة للعيش، وإنما البديل الوحيد لكي لا تحرث القنابل الذرية يوما المنطقة قيام دولة واحدة ديمقراطية عبرية عربية تصبح في المستقبل عضوا شريكا في اتحاد الشعوب العربية الحرة.
والآن وقد وضعنا الأهداف المثالية والإستراتيجيات المثالية، تجب العودة إلى إشكالية قابليتها للتحقيق.
ماذا عن العوائق؟ يا إلهي ما أكثرها، طاعة الأجهزة العسكرية والبوليسية العمياء لكل من يحكم ولو كان بغلا.. شراسة أجهزة القمع.. التعصب الديني والعرقي.. اللاوعي عند قطاعات كبيرة من مجتمع جل أفراده يلهثون وراء لقمة العيش.. الخوف المزمن من السلطة..
استقالة الشباب واعتباره التكنولوجيا وسيلة للتسلية لا أدوات لتغيير الحياة.. الحواجز النفسية والعقائدية بين طيف المعارضات السياسية.. غلبة العقائدي على السياسي والشخصي على الجماعي والذاتي على الموضوعي.. دون نسيان أهم فاعل في التاريخ، الغباء.
آه! مؤكد أنني نسيت كثيرا من العوامل، لكن إن تضافرت عقولنا فسنكتشف بعضها إلا تلك التي ستفاجئنا جميعا فنلطم وجوهنا لأننا لم ننتبه لها وهي كالأنف في الوجه.
أي إحباط سيصيبنا ونحن نضع من جهة الأخطار الخارقة التي تهددنا وفي المقابل برّ الأمان الذي نريد الوصول إليه، وبين الحالتين هذا الكم الهائل من العراقيل!
تقول ما الفائدة من فكر يؤشر على أخطار رهيبة ولا يقدم لها إلا حلولا مستحيلة؟
لننتبه إلى أن هذا الفكر الذي يمكن تسميته بالكارثي ليس من يختلق الكوارث أو يبالغ فيها، وإنما من يرصدها بدقة، وهذه وظيفة اجتماعية ضرورية للمجتمعات مثلما هي ضرورية للأفراد، التنبيه للأخطار حتى يمكن تفاديها.
طيلة الحرب الباردة كان الفكر الكارثي يصرخ بخطر الدمار النووي الشامل، وكم باعت هوليود من أفلام حول اليوم الأخير للبشرية وما بعده.
وفي الثمانينيات كان نفس الفكر يصرخ بقرب موت آخر أفريقي بنقص المناعة المكتسب وحتى بنهاية البشرية بالوباء الجديد. نحن نعيش حاليا النسخة الأخيرة منه و”الكوارثيون” يصرخون بأهوال التغيير المناخي.
حقا لا أكثر إزعاجا من مثل هذا الصراخ لكن أيهما أنفع؟ هو، أم الفكر الطوباوي الذي خدرنا بالانتصار “الحتمي” للاشتراكية والوحدة والغلبة لقوى التقدم على الرجعية.
بدهي أن الوعي بالتبعات المرعبة للحرب الذرية كان أهم العوامل التي فرملت الانزلاق نحو المحظور، والخوف من وباء نقص المناعة هو الذي ضخّ موارد هائلة في البحث العلمي ساهمت في وقف الوباء، وخوفنا اليوم من التغيير المناخي هو الذي يحرك طاقات فكرية ومادية وسياسة هائلة لمنع كارثة الكوارث من الوقوع.
كاتب هذه السطور إذن مجرد صدى لأفكار مبهمة تعتمل داخل الوعي العربي عن الأخطار التي تهدد الأمة، ومهمته ترجمتها إلى كلمات وضخها في الفكر الجماعي لتواصل أدمغة أخرى العمل على إشارات الإنذار هذه بحثا عن الحلول.
تقول لكن المقترحات مغالية في المثالية. طبعا هي كذلك، لكن انظر وظيفتها الحقيقية. هي مثل الأنوار البعيدة التي تؤشر لمطار تبحث عنه طائرة تتقاذفها المطبات الهوائية وسط الظلام.. مع فارق هام أن مسؤولية الوصول إليه بأمان ليست ملقاة على عاتق ربان ماهر يكون قائدا فذا وحزبا طلائعيا وعقيدة لا يأتيها الباطل من خلفها أو أمامها وإنما مسؤولية كل الركاب، الضباط الأحرار والنقابيون الأحرار والشبان الأحرار والمثقفون الأحرار والقضاة الأحرار والصحفيون الأحرار … إلخ.
سأل أحد القراء عن معنى التشاؤل، هذا الموقف الذي نادى باتخاذه إميل حبيي أمام الحياة ويدعو له كاتب هذه السطور بكل حماس. إنه الامتناع عن كل أمل، وقوى الدمار الرهيبة لا تتوقف عن تخريب كل ما نخلق ونختلق، زائد الامتناع عن كل يأس وقوى الخلق الجبارة على قدم وساق تدرأ الأخطار وتعيد بناء ما تهدم وتبتكر من الحلول لأعوص المشاكل ما لم يتوقعه فكر معزول.
صحيح أننا في أخطر وأصعب وضع، لكن الأصحّ أن قوى الخلق المجهولة التي تعتمل داخل عقولنا وقلوبنا هي التي ستمنع الطائرة من الارتطام بالجبل. دور كل واحد منا أن يقوم بواجبه أيا كان مستوى فعله والبقية مشيئة الله والأقدار.
الجزيرة نت