“الإسلام الآسيويّ” لآمال قرامي
خالد غزال
لعل التدقيق والنظر في الإسلام الموجود في بلدان قارة آسيا وطبيعة ممارسته المختلفة والمتنوعة، تشكل أكبر برهان على وجود “إسلامات” متعدّدة بتعدّد الأقطار الموجودة. تجتمع في القضايا الأساسية المتّصلة بالعقيدة، لكنها تختلف وتتفرّق وتتباين في كيفية ممارسة هذه العقيدة عندما تترجم إلى فرائض وتشريعات وفقه. هذا الواقع يرد على نظرات “أيديولوجية” تربط الإسلام بالمنطقة العربية وتشدّد على أنّه الدين الحقّ بعقيدته وفرائضه التي يجب على سائر الشعوب التزامها، وهو تنظير يجد له مروّجين في المؤسّسات الدينية الرسمية ولدى منظّري الحركات الأصولية المزدهرة في مجمل أنحاء العالم العربي. يشكّل كتاب آمال قرامي “الإسلام الآسيويّ” (الصادر ضمن سلسلة الإسلام واحدًا ومتعددًا) حاجة حيوية وماسّة لإعادة النظر في وحدانية الإسلام، وحاجة ايضا لدراسة المجتمعات الإسلامية لأنّ “الأنتروبولوجيا الدينية وسوسيولوجيا الطقوس والمعتقدات وغيرها من العلوم التي تقدّم تفسيرًا للممارسات الدينية في المجتمعات الإسلامية ما زالت البحوث فيها قليلة إن لم نقل نادرة” على ما تقول الكاتبة.
تنوّعت الطرق التي دخل بها الإسلام دول القارّة الأسيوية، وبعيدًا عن التفسير الديني الذي يربط انتشار الإسلام بين شعوب القارّة بالقناعات الإيمانية بتعاليمه، فإنّ الدراسات التاريخية تجمع على أنّ الإنتشار تمّ بطريقة مزدوجة : عبر التجارة التي كان يواكبها دعاة، وعبر الفتوحات والحروب واستخدام القوّة. توسّع الانتشار السلميّ بفضل البعثات التجارية التي كانت تجوب بين بلاد العرب والهند، وهي علاقات كانت وثيقة قبل الإسلام، فقد “ساهمت الظروف الإقتصادية وطبيعة البنية الإجتماعية السائدة في الهند على دخول عدد من الفقراء في الدين الذي دعا إلى المساواة والمؤاخاة والعدل والرحمة وغيرها من القيم”. وعلى غرار الهند، دخل الإسلام بلادا متنوعة الأجناس، وتحمل شعوبها عادات وتقاليد ومعتقدات موروثة، فبات هناك مشهد يحوي موروثات عربية وتركية وفارسية وهندية وصينية.. لكنّ الثابت أنّ اعتناق الإسلام في تلك البلدان لم يكن قائماً على قناعات إيمانية بمقدار ما كانت تغلب عليه المصالح والمنافع، وهو ما جعل الالتزام سطحياً.
دخل الإسلام بلدانا ذات تاريخ وتراث في ممارسة الطقوس والعبادات، فلم يمكن إسقاط ما يقول به “الإسلام العربي” من قدسية الفروض واستنساخ ما هو قائم في المجتمعات العربية والإسلامية. ولكون عادات وتقاليد الشعوب تحمل من التجذّر والسيادة ما يحتاج إلى زمن لزحزحتها واستبدالها ب”رمزيات” جديدة، كان لا بدّ أن يتكيّف الإسلام الوافد مع النمط السائد من عادات وتقاليد شعبية، من دون نفي تأثير الوافد على تعديلات معينة أمكنه إدخالها. يمكن ملاحظة ذلك من خلال معاينة كيفية ممارسة الفرائض الإسلامية سواء في ما يتصل بالصوم وأوقات الصلاة وبعض التشريعات المتصلة بالأحوال الشخصية. وهو امر طبيعي إذا ما قرئ بمنظور علميّ واجتماعي. فالأسلمة التي دخلت هذه البلدان لم تكن لها الجذور الإيمانية العميقة، بمقدار ما كانت جواباً على حاجات مصلحية في بعض الأحيان، وهو ما جعل هذه الأسلمة عاجزة عن اكتساح الموروثات المتجذّرة في هذه المجتمعات، بل شهدنا إلحاقاً للكثير من تعاليم الإسلام الوافد بهذه الموروثات المحلية. هكذا تأثّر الإسلام بالهندوسية في الهند وبالزرادشتية وغيرها من العقائد الفارسية في إيران، وبالبوذية في الصين واليابان.. صحيح أنّ “الإسلام احتفظ ببعض المعتقدات والطقوس السابقة عليه مثل الحجّ إلى مكة والإيمان بالجنّ وغيرها.. لكنّ الأجناس التي اعتنقت الإسلام لا يمكن أن تتجاهل إرثها الحضاري المتنوّع وأن تجب ما عهدته من ممارسات”.
فعلى سبيل المثال، دخل الإسلام إيران وسط بيئة عرفت العديد من الديانات من نوع الزرادشتية والمانوية والمزدكية، فتأثّر بها “بل إنّ بعض العقائد تكاد تكون واحدة متطابقة مثل الإيمان بالقيامة والبعث والحساب والثواب والعقاب والصراط”. الأمر نفسه يمكن رؤيته في الهند، حيث تظهر المؤثّرات الهندوسية في أشكال التعبّد التي يمارسها المسلمون الهنود، من نوع زيارة الأولياء والزعماء الروحيين وطلب بركتهم ممّا تعرفه الهند منذ الزمن القديم، كما أنّ “من المظاهر الدالّة ايضا على التأثّر بالهندوس، الاعتقاد بوجود الغول والإيمان بالقوّة السحرية القادرة على حماية الإنسان من الأذى”. هكذا وجد الإسلام نفسه ملزما على التعاطي مع واقع يصعب استخدام القوّة والعنف لقلب ما هو سائد فيه، فاضطر إلى التكيف مع هذا الواقع وأن يحاول التأثير فيه، كما “كان على الإسلام ان يهضم بعض العادات والعقائد وأن يخلع المشروعية على بعض العادات والتقاليد السابقة فتتحول نتيجة ذلك إلى ممارسات إسلامية وتضفى عليها القداسة”. في هذا المجال لا بدّ من القول إنّ اسوأ التحليلات صادرة عن مفكّرين أو فقهاء عرب يرون في التباين في ممارسة الفرائض في الأقطار غير العربية انحرافاً عن جوهر الدين الإسلامي، وهي نظرة تتّسم بالسطحية والعنصرية أحياناً، ناجمة عن النرجسية العربية الساذجة والمستندة إلى كون الإسلام نزل في بلادهم والقرآن تلي باللغة العربية.
تثير مسألة مدى فهم جوهر الدين من قبل الشعوب الإسلامية معضلة حقيقة لدى هذه الشعوب، وهي معضلة ناجمة بشكل أولي عن طبيعة الالتزام الديني الإضطراري أحياناً وبالقوة أحياناً أخرى، وبالعوامل العربية التي وضعت قيودًا على نقل القرآن إلى لغات غير العربية، بما يمنع على هذه الشعوب المعرفة المباشرة بالنصوص الدينية. هذا الإصرار من علماء مسلمين على منع ترجمة القرآن تتصل بنظرة متخلفة إلى اللغة العربية التي خلعوا عليها مكانة عليا ومقدسة لكونها اللغة التي نزل بها الوحي. لم يتم تجاوز هذه المسألة إلاّ في العصور الحديثة حيث بات بإمكان قراءة القرآن باللغات المحلية. لكن هذا النقل والقراءة بغير العربية لم يكن من دون آثر في طبيعة الفهم لمضمون النص، لقد أدى “فهم القرآن في لغة اخرى إلى فهم مغاير للآيات.. فدور المجاز والرمز قد يقلص بشكل كبير أو قد يولد دلالات اخرى.. إنّ قراءة القرآن في لغة غير اللغة العربية تولد دلالات خاصة وحساسية مختلفة بالضرورة عن الحساسية الأصلية باعتبار أنّ الفكر مشروط باللغة”. لقد كان الجهل باللغة العربية من العقبات الرئيسية التي منعت فهم الاسلام من قبل معتنقيه في البلدان الأسيوية، يضاف اليه هشاشة وضحالة ثقافة بعض الشيوخ الذين وضع على عاتقهم نقل التعاليم الإسلامية إلى هذه الشعوب.
تحتلّ قضيّة الاجتهاد في فهم النص الديني وفي فقه العبادات موقعاً مهمّاً في الجدل حول الإسلام. كانت المدرسة الإسلامية العربية قد فرضت قيودا شديدة على الإجتهاد ومنعت التوسع فيه تحت حجة حماية الدين من الإنحراف، يعود ذلك إلى قرون بعيدة منذ دخول المجتمعات العربية والإسلامية في عصور الإنحطاط. ساهم انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية ودخوله إلى مجتمعات غير عربية، إلى نزع الصفة التمثيلية العربية الوحيدة عن الإسلام بعد أن تحول إلى إسلامات. ساعد ذلك على “بروز فئة من المفكرين التجديديين في آسيا حاولوا الجمع بين مقتضيات الحداثة من دون التنكر لما هو صالح من النظريات والحلول التي فرضتها الممارسة التاريخية للإسلام”. لذلك ازدهرت الدعوة الى إعادة قراءة النصوص الدينية وتفسير القرآن بما يأخذ في الإعتبار واقع المسلمين في هذه المجتمعات. وقد كانت للمجتهدين من غير العرب المسلمين الجرأة والقدرة على طرح القضايا الإجتهادية بشكل أكبر وأفضل بكثير من نظرائهم من العرب المسلمين. يشار في هذا المجال الى علماء وفقهاء من أمثال شاه ولي الله، محمد إقبال، سيد أحمد خان، محمد خاتمي، علي شريعتي وعبد الكريم سروش، وغيرهم.
إنّ الإصرار على مقولة الإسلام الواحد ذي التأويل الواحد، والأمة الإسلامية الواحدة، وهي نظرة تلتزمها الأرثوذكسية الإسلامية العربية بشكل أساسي، تمثّل إحدى أهمّ العقبات في فهم جوهر الإسلام. فالإسلام الواحد يجسد التعالي الروحي ويدعو الإنسان إلى الترقي والإرتفاع عن توظيف الدين في الأغراض النفعية والصراعات السياسية والإجتماعية. لكنّ الإسلام متعدد لجهة الممارسة والطقوس والشعائر والإجتهادات وفق المجتمع الذي ينتمي إليه المسلمون. “لما كان الإسلام متعددًا على صعيد الفهم والممارسة، تعين على الدارس أن لا ينطلق من المفاهيم التي حددت للإسلام، بل من المجتمعات ذاتها، تلك التي ضبطت للدين وظائف مختلفة ومضامين متعددة.. إن أشكال التدين تختلف من مجتمع إلى آخر ومن فترة إلى أخرى، بل إنّ شكل التعبد يشهد تغييرًا داخل المجتمع الواحد.. ومن العوامل التي أدت إلى اختلاف طريقة التعبد من بلد إلى آخر، تشبث كل جماعة بهويتها، وهي هوية مشكلة من العقائد والعادات وطرق التفاعل مع الطبيعة وغيرها من العناصر” على ما تقول الكاتبة.
إنّ ما تشهده المجتمعات العربية والإسلامية اليوم من انبعاث للفكر الأصولي والسلفي وترجمته عنفاً وإرهاباً على الساحة السياسية، وما نشهده من اعتقال للإسلام على يد منظّري هذه الحركات وتغطية من فقهاء المؤسسات الدينية الرسمية والنطق باسم الإسلام، تشكل كلها عناصر ملحاحة لإعادة قراءة الدين الإسلامي والتمييز بين ما هو جوهريّ من قيم أخلاقية وروحية تتجاوز الزمان والمكان، ومن تشريعات وفقه تتصل بواقع المجتمع في الزمان والمكان، مما يمنع إسقاط ما هو ماض في هذا الجانب على المجتمعات الحديثة. في هذا المجال يحتلّ كتاب آمال قرامي أهميته في كونه يخوض في صميم المشكلة ويقدم وجهة منهجية تساعد في فهم الإسلام وتصحيح ما أصابه من انحرافات.
موقع الآوان