الاستبداد الشرقي فقيه نموذجي
سيد القمنى
بعد استقرار طبقة الحكام العرب الأمويين في دمشق و الاستيلاء على البلاد المحيطه بجزيرة العرب ، انضوت معظم دول حضارات الشرق تحت سيطرة و حكم النخبة العربية في امبراطورية اسلامية . و استمر وصف الحاكم بالخليفة اقتداء بأبي بكر الصديق أول من خلف رسول الله ص على حكم قبائل الجزيرة الموحده في كونفيدرالية ، و اشترع الفقهاء نظاما للحكم في هذه الإمبراطورية ، أول بنوده و أهمها هو: أن يكون الحاكم / الخليفة / من النخبة العربية القرشية على وجه التحديد القاطع ، ( و لنلحظ ) أن كل دعاة الدولة الإسلامية اليوم ليس بينهم قرشي واحد !! ) ، و البند الثاني في هذا النظام هو أن أهم واجبات الخليفة هي الدفاع عن دين الإسلام .
و رغم أن معاوية أول خلفاء بني أمية قد فصل الوظيفة الدينية عن الوظيفة السياسية عندما أناب عنه من يقوم مقامه في شئون الدين كإمامة الصلاة و شئون القضاء و الحج و غيره من مناسك ، و احتفظ لنفسه بالوظيفة السياسية و شئون الحكم الدنيوي . فرغم ذلك ظل الخليفة حتى بعد أن أصبح تركيا عثمانيا أي حتى عام 1918 ، يحتفظ بمركزه الديني و لكن من وراء ستار ، ووراء هذا الستار كانت إرادته ترجح كل آراء الفقهاء .
و بعد سقوط الخلافة باستقلال الدول الخاضعة عن الإمبراطورية العثمانية ، و عودة كل منها إلى حدودها القديمة و الأصيلة التي كانت لها قبل الفتوحات ، استمرت الصبغة الدينية تلازم نظام الحكم رغم أن هذه البلاد تعمل بموجب دساتير و قوانين يسنها مجلس تشريعي أي يفترض أنها مدنية ، ظلت الصبغة الدينية تطارد هذه الدولة في حالة من التدليس السياسي الذي يتمثل في مواد دينية في دساتير و قوانين يفترض أنها لاتعمل بموجب حلال وحرام هذه الديانة أو تلك ، و لا علاقة لها بشئون التقوى و الحلال و الحرام الديني ، إنما علاقتها بمصالح المواطنين الذين يضعون ما يناسبهم من قوانين يتوافقون عليها ، بعقد اجتماعي يرعى كل الطوائف و الأديان و الملل و الأعراق و الأجناس الذين يعيشون في هذا الوطن .
و إن وجود مواد دينية في دساتير دولنا الحديثة إنما يعبرعن رغبة مشتركة بين أهل الدين و أهل الحكم و السياسة بغض النظر عن مصالح الوطن و المواطنين ، فالنظام الحاكم يحتاج رجل الدين ليشرع له قراراته السياسية و يلبسها القدسية ، و رجل الدين بحاجة لرجل السياسة لينال نصيبه من الوجاهة الإجتماعية و المركز الرفيع و أن يكون ضمن بطانة الحاكم فينال النعيم العظيم . أما المواطن فتقتصر مهامه على أداء أوامر الشيخ و السلطان و العمل النشط الدؤوب لتوريد أكبر كم من الخيرات لجيوب كليهما : الفقيه و السلطان .
و قد افصح فقهاء السياسة المسلمين عن هذا المعنى ( إن جاز القول بفقه سياسي إسلامي ، و هو غير جائز لذلك نستخدمه هنا مجازا ) و هو ما نجده عند فقيه مشهور كالماوردي و كتبه مثل كتاب ( الأحكام السلطانية) و مثل (كتاب الأموال ) ….( لاحظ أن فقه السياسة الإسلامي هو أحكام سلطانية و أموال … و دمتم )
دعى الماوردي أهل السلطة بكل صراحة و دون الشعور بأي خجل لأن المسألة طبيعية تماما ، إلى تقريب رجال الدين من الحاشية و إعطائهم قدرا من السلطة و النفوذ و أن يكون لهم نصيبا من جباية الأموال ، و ذلك لكي يتمكنوا من مساعدة الحاكم المسلم في تنفيذ مراده .
الطريف أن زمن الماوردي لم يلزم الخليفة نفسه بتنفيذ أحكام الشريعة ، بقدر ما انصرف الشأن إلى ليالي السمر الشعرية و الجنسية مع تطبيق مظاهر سلوكية و شعائر لها مناسبات دينية في احتفالات كرنفالية ترفع فيها البيارق و الرايات مع الدعاء بطول العمر للسلطان ، و أحيانا في أزمنة الضيق و التوتر يقوم الخليفة بسكب بعض قناني الخمر وسط جمهور السوق و جلد البعض الآخرين ، لطمأنة المسلمين أن الشرع مطبق و أن الله راع ، بينما ترتكب كل ألوان الرذائل و الشرور سواء في الشوارع أو في القصور ، و كل وما استطاع إليه سبيلا .
و لم تزل وظيفة حراسة الدين إلى اليوم هي من مهام الحاكم في البلدان الإسلامية و تعمل قوانينها الخاصة بالأحوال الشخصية وفق شريعة دينية . و يتبع ذلك أن هذه الحكومات تجرم و تمنع الدعاية لأي دين آخر غير الإسلام الذي هو دين الدولة ، رغم أن الدولة و حكامها و شيوخها و العاملين فيها هم في ميزان الإسلام دولة مارقة كافرة ، وهو ما لا يخجل المتأسلمون النشطاء من إعلانه مدعوما بالأيات و صحيح الأحاديث و أقوى النظريات الفقهية .
وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 قامت معظم الدول الإسلامية بمواجهة الإسلام السياسي المسلح ، لكنها لم تتخل عن ارتباطها بالدين و توظيفها لهذا الدين الذي يضمن لها شرعية الوجود ، وهو التوظيف الذي يرى أهل الإسلام السياسي و العسكري أنهم الأولى به لأنهم من يضحون بأرواحهم في سبيله و لأنهم الأدرى به و أنهم الأمناء على تطبيقه ، دون أن يبرزوا لنا صكا سماويا باختيارهم من قبل الله لهذه المهمة دون بقية المسلمين .
و لا ننسى أن الحكومات الإسلامية مع الحكومات الغربية هم من أشرف على عمليات تفريخ الإسلام السياسي إبان الحرب الباردة و الوجود السوفيتي في أفغانستان ، و أنهم من صنعوه في مختبراتهم و معاملهم و مخابراتهم حتى استوحش و انفلت هاربا من تلك المعامل ، ليتحول إلى كائن مدرع بأصول العسكرية عالية الجودة ، يعلم آخر شئون العلم لكنه يحمل عقلا ثقافته ليست ثقافة علم ، لأن العلم من أجل الحياة ، وثقافته ليست ثقافة حياة إنما هي ثقافة موت ، مع ممول بترو دولاري يطلب دينا أو دنيا ، فخلقوا لنا هجينا مفترسا يفترس أبناء وطنه و أبناء غير وطنه ،و يلغ في دماء المسلمين ودماء غير المسلمين ، ليدمر أينما طالت يده و يذبح صبرا بدم بارد ، و منتهى أمانيه أن يموت بحزام ناسف حتى يعيش الخلود منعما في احضان الحور العين .
و عن علاقة الفقيه بالسلطان على المذهب السني الذي ساد طوال عصور الإمبراطورية ، حتى و لو كان هذا الخليفة من محبي العلم النادرين و الذين جعلوا بعض مجلسهم للشعر و المعرفة ، و ليس للشورى و مصالح العباد ، لأن السلطان هو صاحب القول الفصل ، وما هذا المجلس إلا لإضحاك الملوك وسمرهم ، و يشرح ذلك أبو الأعلى المودودي في كتاب بعنوان ( نظرية الإسلام السياسية ص 29 ) : ” ولي الأمر مطاع في حكمه و لا يعصى له أمر و لا نهي، و يمتلك الحق أن يملي رأيه على الأغلبية ، فالإسلام لا يجعل من كثرة الأصوات ميزانا للحق و الباطل ، لأنه من الممكن في نظر الإسلام ان يكون الرجل الفرد / يقصد السلطان بالطبع !! / ، أصوب رأيا و أحد بصرا من سائر أعضاء المجلس ” . و يزيدنا شيخ مشايخ العصر و الأوان الدكتور قرضاوي شرحا فيقول : ” إن النظام السياسي الإسلامي يستمد شرعيته من تحكيم الإسلام .. أي أن يرضى بالشريعة حكما حتى لو لم يطبقها / حلقة الدستور و مرجعية الشريعة / قناة الجزيرة / !!؟؟ ” . الأمر واضح ، … ليس هناك مشكلة في تفعيل الشريعة من عدمه ، إنما المهم أن يكون الحاكم معترفا بالشريعة ، و هو ما يعني أن الحاكم باعترافه بالشريعة فهو إنما يعترف بوجود رجال الشريعة و أهلها ، و هو ما يعني ان لهم من السلطان نصيب و لهم من المال العام المنهوب حق ليس للسائل و المحروم ، و إن أهل الشريعة يعلنون أنهم بذلك سيكونون في تمام الرضا والسرور في ظل نظام يعترف بالشريعة لكنه لا يطبقها مادام يغدق على أهل الشريعة ويسلطهم على أرواح العباد .
ورغم انتقال معظم الدول المستقله عن الخلافة إلى منظومة الدولة الحديثة ، فإن الحكومات الوطنية جعلت من مهامها الأولى الرقابة الصارمة على الإعلام ، مع دعمها و ترسيخها لثقافة مغلقة على ذاتها ، تحشر رأي الدين في أي شئ ، تحشره في ألوان الخطاب الإعلامي ، تحشره فيما وصل إليه فولتيير و مونتيسكيو ، تحشره في نظرية النسبية و تحدد رأيها و موقفها من العلاج بالخلايا الجذعية ، حشروا الدين حتى في الدراما و المسلسلات التي تدلك غرائز العوام الدينية ، بتعظيم الماضي المجيد الذي يقدمونه للناس عالما فردوسيا عاش العدل و الفضائل و التفوق ، و كله بسبب التزام الإسلام ، و ان ما وصل إليه حال المسلمين الآن ليس إلا نتيجة الابتعاد عن منهج زمن الخلافة الفردوسي .
و عندما طال الدين مناهج التعليم في هذه الدول بدأت الانتكاسة الحقيقية و التامة و الماحقة ، فانحدرنا لزمن بتنا نتحسر فيه على زمن التعليم أيام الاحتلال الأجنبي ، لأن التعليم هو الأداة الانتاجية الحقيقية التي تصنف طاقات المجتمع و تضع البشر في اختصاصات وتفرز مواطنين أحرار قادرين على الابتكار و الإنتاج ، قادرين على الكشف و الاختراع . بدلا عن ذلك تحول التعليم في بلادنا إلى تلقين و حفظ كما نحفظ الموروث الديني ، و أصبحت جامعاتنا تتناقش و تقيم الندوات و ورش العمل حول الحيض و النفاس و النقاب و فائدة الحجاب والنقاب والصيام ، يجلس فيها الأساتذة الكبار فى ندوات متلفزة تلاميذا ، ليستمعوا الى كشوف زغلول النجار .
هكذا حولنا العلم الى البحث في الماضي عن حلول لمشاكل اليوم ، هذا ناهيك عن أن العلوم التي يدرسها أبناؤنا أصبحت بمقاييس اليوم تاريخا ، و لم يسلم العلم الفيزيائي و الكيميائي من طرائقنا فأصبح محفوظات ينجح أو يرسب فيها الطالب بقدر ما يتذكر منها و ليس بما فهم منها، و بهذا تم تحويل الإنسان في الوطن منذ دخوله المدرسة إلى حافظ أي عبد تابع لا يملك لنفسه استطاعة ، رغم ما نراه بعيوننا ماثلا أمامنا في بلاد صنعت جنتها على أرضها ، بتفوق العقل العلمي الباحث المدقق المخبري ، إلى ثورة الاتصالات و الاستنساخ ، بل خلقوا الخلية الحية خلقا . مما أدى إلى تباعد بين عمل العقل الإنساني العلمي و مجاله المعرفي و بشريته ، و أنه يجرب ليكتشف أخطائه فلا يكررها ، و بين عمل رجال الدين و طقوسه و ماورائياته و غيبه الذي لا يلتقي مع العلم ومناهجه بحال .، و في كل مرة يكون رد الفعل العربي و المسلم على هذه الكشوف هو الشعور بمزيد من الضآلة و الانهزام ، فيذهب إلى عالمه الوهمي ليؤكد أننا قد سبقنا إلى هذه الاكتشافات في القرآن و في السنه ، بدلا من أن يلحق بالمتفوقين و ينحي عواطف الكره و الحب و ينغرس في المستقبل و ليس في الماضي ، و أن يعلم أن يكون الأخير في المستقبل أفضل من أن يكون الأول في الماضي .
لقد حقق العقل الإسلامي لنفسه و روحه هزيمة حقيقية مروعة و لم يعد يشغله سوى خوفه الرهابي على دينه و فقد هذا الدين ، و رعبه على مسلماته و ما تتعرض له من خطر الكشوف العلمية ، مع الشعور بالعجز إضافة لكسل إسلامي تاريخي معلوم أللهم إلا حرفة الكر والفرواصطياد الفرائس البشرية ، إضافة إلى عدم وجود الرغبة في بذل أي جهد ، فالمفروض انه شعب الله و خير أمة أخرجت للناس ، إعتاد أن يجلس مكانه مسندا ظهره على مؤخرة ناقته ليأتيه نصيبه من الجزية و الخراج و السبايا ، و إعمالا لهذا كله قرر أن يعود إلى الله الذي خلق الغرب و الشرق و المسلمين و غير المسلمين ، يطلب دعمه له و هو قاعد ها هنا لايريم ، ليتفوق بهذا الدعم الإلهي على عباد آخرين لله من غير المسلمين ، مانحا نفسه دلالا غريبا ليس له أي مبرر على الإله ليترك هذا الإله عباده المتفوقين و المنجزين ليدعم الكسالى و المكسحين .
من سوء حظي أنا و أبناء جيلي أننا ولدنا في زمن رأينا فيه الحكومات الوطنية بعد رحيل الاستعمار شيئا أسوأ من أي استعمار ، بعد أن كرست تلك الحكومات نفسها و شرعيتها ووجودها بتعميق ذلك المنهج العتيق ، بل و أضافت إلى قدسية الإسلام قدسية جديدة هي قدسية الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة ، حتى باتت العروبة معصومة عصمة الإسلام ونبي الإسلام ، و أصبح زعماء العروبة معصومين عصمة الإسلام و نبي الإسلام ، من ينتقد لهم فعل فهو فاجر زنديق عميل مارق يتعيش على أعطيات الصليبيين و اليهود ، و في ظل هذة الحكومات المعوربه تمت احالة كل ألوان الإنجاز الانساني و التقدم البشري و التحضر القيمي في بلاد الغرب الكافر إلى العرب و المسلمين وحدهم ، بعد اكتشاف أنهم كانوا أصحاب الفضل الوحيد بين العالمين على ما ينعم به البشر اليوم من نعمة العلم فكان عندنا ابن سينا وكان عندنا ابن الهيثم … الخ من سقط متاع تاريخ ذهب وانقضى .
إنها حالة مرضية مستعصية تنسب للذات المهزومة أوهام التفوق و السبق لإرضاء النفس بلذة تخيلية ، بداخلها عصا سحرية لم تعمل ولا مرة لانتشالنا مما نحن فيه من هوان بين عباد الله في الدنيا ، يقولون أن هذه العصا السحرية يمكنها أن تحقق كل المستحيلات ، فقط إن أخلصنا لها و سلمنا لها عقولنا و ضمائرنا و سلوكنا . و عندما حدث هذا ، وسلم المسلمون دماغهم للمشايخ ، وساروا بدقة على أوامر الشيخ ونواهيه ، تم وأد أي فكر مختلف عن السائد بتبخيسه و تخوينه و تدعيره ، و أصبح أي نقد للمألوف هو اعتداء على ثوابت الأمة الرواسخ ، و أي اقتراب من المسلمات هو تعاون مع أعداء الوطن و عمالة لأعداء الدين .
و هكذا وصلنا لمكاننا الحالي عند محطة قاع مزبلة الأمم ، على حافة منزلق نحو ثقب التاريخ الأسود حيث المدفن الكونى للأمم والشعوب .
الحوار المتمدن