صفحات مختارة

حالة ما بعد الحداثة: بحث في أصول التغيير الثقافي

وفيق غريزي
قليلة هي الأعمال التي تبهر المثقف الجاد، ومن دون أن يكون بالضرورة متطلباً، ولعلها سمة عصر ما عاد يملك الصبر والوقت والأدوات، وربما الاهتمام أيضاً، أو لعلها الكلمة نفسها بماهي عقل وتفكّر قد أخلت مقدمة المسرح للصور وعصر الصور. كتاب دييد هارفي هذا، هو من بين الأعمال الجادة القليلة تلك.
وإذا صدرت مؤلفات كثيرة عمّا يسمى ما بعد الحداثة، وعن مجتمعه وثقافته وفنونه، فإن هذا الكتاب هو عرض واضح ونقدي لمحصّلة التعريفات والأفكار والمقاربات المتّصلة بالحداثة وبما بعد الحداثة، وفي علاقتها بالتغيير الاجتماعي والسياسي، وفي سياق تاريخ الأفكار.
الحداثة والحداثية
كتب الشاعر الفرنسي شارل بودلير إن الحداثة هي الموقت، وسريع الزوال، والجائز، هي نصف الفن، بينما الأبدي والثابت هو النصف الآخر. المؤلف هارفي يعير اهتماماً خاصاً لهذا الجمع بين الموقت وسريع الزوال وبين الأبدي والثابت. فتاريخ الحداثية، كحركة جمالية، كان يتمايل من جانب الى آخر في هذه الصياغة المزدوجة، فجعلها في الغالب تبدو وكأنها، كما لاحظ مرّة ليونيل تريلنغ، تتأرجح في المعنى، لتستقر حتى في الاتجاه المعاكس. ونستطيع، متسلحين بحسب التوتر هذا عند بودلير، أن نفهم بصورة أفضل، كما يعتقد هارفي، بعض المضامين المتناقضة المنسوبة للحداثية، وبعض اتجاهات الممارسة الفنية الشديدة التنوع، وعلى نحو غير اعتيادي، وكذلك بعض الأحكام الجمالية والفلسفية التي ينطوي عليها المصطلح.
ولا يتطرق هارفي الى سؤال: “لماذا تتصف الحياة الحديثة بهذا القدر من سرعة الزوال والتغيير. أما أن تكون حالة الحداثية بمثل هذه الصفات، فأمر لا خلاف عليه عموماً، ويقدم بيرمان توصيفاً يرى فيه أن هناك شكلاً من التجربة الحية، تجربة المكان والزمان والأنا والآخر واحتمالات العيش ومخاطره، يشترك فيها الرجال والنساء في أرجاء العالم اليوم. هذا الحجم في التجربة المشتركة هو ما يدعوه بيرمان حداثة، فأن نكون حديثين يعني أن نجد أنفسنا في بيئة تعد بصنوف المخاطر والقوة، والمتعة، والثروة، وتحولات الذات والعالم من حولنا، وأن تتهددنا في الآن نفسه مخاطر في وسعها أن تدمّر كل ما نملك، وكل ما نعرف، وكل ما نحن عليه. البيئات الحديثة والتجارب الحديثة تعبر كلها حدود الجغرافيا والإثنيات، وحدود الطبقات والهويات، والدين والأيديولوجيا، ويمكن بهذا المعنى القول إن الحداثة إنما توحّد البشرية، لكنها وحدة أضداد، وحدة اللاوحدة.
ويلاحظ المؤرخ شورسكي أن الثقافة العليا دخلت دوّامة تجديدات لا متناهية، حيث يعلن كل حقل من حقولها استقلاله عن الكل، وينقسم كل جزء بدوره الى أجزاء. لقد انتهت الى هذا التبدل النابذ للمركز والذي لا يرحم كل المفاهيم التي ينبغي أن تكون ثُبّتت بواسطتها في الفكر الظواهر الثقافية. ولم يكن منتجو الثقافة وحدهم ضحايا لهذا التشذّر وإنما معهم محلّلوها ونقّادها أيضاً.
ويؤكد المؤلف أن في وسع الحداثية تناول الدائم، ولكن ذلك إنما يجري من خلال تجميد الزمن وسائر كيفيّاته الجارية. ويدرك معنى الفرضية جيداً المهندس المعماري، وهو المجهّز ليصمّم ويبني إنشاءات مكانية دائمة نسبياً. فالهندسة المعمارية، بحسب مايس فاندرروه في العشرينات من القرن الماضي، هي إرادة العصر مُدركة في مصطلحات مكانية، أما لآخرون فإن جعل الزمان في المكان، من خلال الصورة، والإيماء الدرامي، والصدمة الموقتة، أو باختصار من خلال مونتاج كولاج، هو في الحقيقة أكثر إشكالية، ويقارب الشاعر الأميركي “ت.س. إليوت المشكلة في “الرباعيات الأربع” على النحو الآتي:
“أن تعي هو أن لا تكون في زمان،
ولكن في الزمن وحده يمكن اللحظة في حديقة الورد،
اللحظة في الغيض حيث يقرع المطر،
أن تخطر بالبال، منخرطة في الماضي وفي المستقبل.
فبالزمن وحده تقهر الزمن”.
ما بعد الحداثة
تحوّلت ما بعد الحداثة، وعلى مدى العقدين الأخيرين الى مفهوم إشكالي حاضر باستمرار، وإلى ساحة صراع للأفكار المتناقضة والقوى السياسية لا يمكن تجاهلها. ففي الفلسفة يرى المؤلف أن التداخل بين البراغماتية الأميركية التي نفخت فيها الحياة من جديد وموجة ما بعد الماركسية وما بعد البنيوية، التي ضربت باريس بعد عام 1968، أدى الى ما أسماه برنشتاين موجة غضب عارم ضد الإنسانوية وتراث التنوير. “وتجسد ذلك في إدانة عارمة للعقل المجرّد وكره عميق لأي مشروع يستهدف تحرير الإنسان عبر تحريك قوى التكنولوجيا والعلم والعقل. وسنجد أن شخصاً في مقام البابا بولس الثاني يدخل النقاش في صف ما بعد الحداثة. فالبابا حسب رأي روكو تبليوني أحد اللاهوتيين المقربين منه. “لا يهاجم الماركسية أو العلمانية الليبرالية باعتبارهما موجة مستقبلية، وإنما باعتبارهما فلسفتين من القرن العشرين فقدتا رونقهما وعفى عليهما الزمن”. الأزمة الأخلاقية لعصرنا هي تحديداً أزمة فكر التنوير. فإذا كان صحيحاً أن هذا الفكر قد سمح فعلاً للإنسان بتحرير ذاته، من الجماعة ومن تقاليد العصور الوسطى التي حجبت حريته الفردية، إلا أن إصرار الفكر هذا على الذات بدون الله قاد الى تناقض ذاتي، إذ تُرك العقل، وفي غياب حقيقة الله، مجرد أداة ومن دون أي هدف روحي أو أخلاقي.
ويبدأ المؤلف بما يبدو أنه حقيقة ما بعد الحداثة الأكثر بروزاً، ألا وهي قبولها الكامل للعرضي، المتشظّي والمتقطع والفوضوي، باعتبارها تشكل نصف مفهوم بودلير للحداثة. لكن طريقة استجابة ما بعد الحداثة للحقيقة تلك إنما تجري بطريقة خاصة، فهي حسب رأي المؤلف تحاول تجاوزها لا الهجوم عليها، ولا حتى تعريف العناصر الثابتة والدائمة التي يمكن أن تقوم فيها. “ما بعد الحداثة هو واقع يسبح، بل يتمرغ، في موجة من التشظي والتغير، كما لو كان ذلك هو كل ما في الأمر”. يقترح الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو تطوير ممارسة وفكر ورغبات بالتوالد والتجاوز والتقطيع، وعبر تفضيل ما هو وضعي ومتعدّد، وتفضيل الاختلاف على التجانس، والمتحرر على الموحّد، والمتنقل المتفلّت على النظام. ويجب أن نؤمن أن المنتج ليس المقيم بل الهائم على وجهه. وحتى حين تعود ما بعد الحداثة الى الماضي لتبرير شرعيتها، فهي إنما تعود الى تيار في الفكر، خصوصاً عند فريدريك نيتشه، الذي يشدّد على طابع الفوضى العميق في الحياة الحديثة، وعلى عجز الفكر العقلاني عن التقاط ذلك.
الزمان والمكان والسلطة الاجتماعية
تدين فكرة الهيمنة على المكان كمصدر أساسي وطاغ للسلطة الاجتماعية في الحياة اليومية، الى الصوت الذي ألحّ عليها طويلاً وهو هنري لوفيغر. أما كيف يحدث لهذا الشكل من السلطة الاجتماعية أن يرتبط بالسيطرة على الزمن والمال والأشكال الأخرى للسلطة الاجتماعية، فأمر حسب قول المؤلف: “يحتاج الى تفصيل إضافي”. أما الفكرة العامة التي تناولها فهي أن السلطة المتداخلة على المال والزمان والمكان تشكل، في اقتصاديات المال عموماً، وفي المجتمع الرأسمالي خصوصاً، سلسلة متراصة من السلطة الاجتماعية التي لا يمكن تجاهلها. وفي هذا الصدد يشير لاندس الى أن قياس الزمن كان، إشارة للإبداعات الجديدة التي تحققت وعاملاً محفّزاً في آن لاستخدام المعرفة في سبيل الثروة والسلطة. ولطالما كانت الأدوات الدقيقة لحفظ الوقت والخرائط الدقيقة تساوي وزنها ذهباً، تماماً كما السيطرة على المكان والزمان هي عامل حاسم في البحث عن الربح على سبيل المثال.
ويعتبر المؤلف أن تجربة انضغاط الزمان المكان تجربة تحدّ، مثيرة، ومتوترة، ومقلقة أحياناً، وقادرة بالتالي على إشعال مروحة واسعة من ردود الفعل الاجتماعية والثقافية والسياسية. والانضغاط يجب أن يفهم باعتباره ملازماً لكل التغييرات التي حدثت. ولفهم أفضل للمسألة. ويعود هارفي الى التاريخ، مستخدماً حالة أوروبا. ويراجع باختصار ذلك التاريخ الطويل من التحولات التي مهّدت الطريق الى نوع من التفكير حيال المكان والزمان الذي بدا في مشروع التنوير. “في عوالم الإقطاع الأوروبي المعزولة نسبياً، واستخدام صيغة الجمع مقصود هنا، كان المكان مؤشراً يحمل معاني قانونية وسياسية واجتماعية تشير الى استقلال نسبي للعلاقات الاجتماعية وللجامعة نفسها داخل حدود مكانية مناطقية معنية على نحو ما”.
كان التنظيم المكاني، داخل كل عالم من العوالم تلك، يعكس تداخلاً في الإلزامات والحقوق الاقتصادية والسياسية والقانونية. كان هناك تصور في إدراك المكان الخارجي وجرى عموماً تصوره ككوسمولوجيا غامضة تسكنها قوة خارجية ما، أو غريب، أو أنواع أخرى من الخرافة والخيال.
ما بعد الحداثة كحالة تاريخية
تعتبر الأنشطة الجمالية والثقافية، خصوصاً، الأكثر عرضة لتجربة المكان والزمان المتغيّرة، وذلك لأنها تستتبع، تحديداً، تشكيل التعبيرات والأعمال المكانية من خلال دفق التجربة الإنسانية. وهي تتردد باستمرار بين الكينونة والصيرورة.
ويؤكد المؤلف أنه يمكن كتابة الجغرافيا التاريخية لتجربة المكان والزمان في الحياة الاجتماعية، ويمكن كذلك فهم التحولات التي تصيب كليهما، وذلك بالاستناد الى الشروط المادية والاجتماعية. ويقول: “تبدو الاستجابات الجمالية لحالات انضغاط الزمان المكان على قدر من الأهمية، وهي لم تزل منذ الانفصال الذي حدث في القرن الثامن عشر بين المعرفة العلمية والأحكام الأخلاقية مفتوحة لتأثيرات حاسمة من كليهما. وثمة حقبة بكاملها تهتز أمام الثغرة القائمة بين المنطقين العلمي والأخلاقي”. وبذلك، يغدو التحول الى الجماليات أكثر وضوحاً في حقب الارتباك وعدم الأمان.
وباختصار، يمكن اعتبار ما بعد الحداثة كواقع تاريخي جغرافي من نوع ما، ولكن أي نوع من الواقع هو، وماذا نملك حياله؟ هل هو مجرّد انحراف مرضي أم مؤشر الى ثورة في حياة البشر أكثر عمقاً واتساعاً من كل ما تحقق حتى الآن في الجغرافيا التاريخية للرأسمالية؟

[ حالة ما بعد الحداثة
[ دييد هارفي
[ ترجمة: د. محمد شيا
[ المنظمة العربية للترجمة – بيروت
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى