الديمقراطية شرق أوسطيا.
غسان المفلح
لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في أي مكان استبدادي في العالم المعاصر، دون الحديث عن الغرب.
منذ بداية التاريخ المعاصر ونحن نجمع على أن الغرب قوة، والغرب تفضيل حضاري، الغرب يريد تفكيك بلداننا! والغرب مصالح يراد لها أن تتحقق بمعزل عن أي بعد حقوقي أو أخلاقي” إنها الرأسمالية” هذا المنطق مر بعدة مراحل تبعا للناطقين فيه، لكنه مع ذلك لم يتغير، ومازاد في الطنبور نغما” انه بعد نهاية الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشرقي انضمت نخب الحكم في العالم الشرق أوسطي والعربي من ضمنه، لتبني مجمل هذا الخطاب، ماعدا إسرائيل لأنها تعتبر نفسها جزء من الغرب هذا. وسنتعرض للنخب العربية فقط، ونترك باكستان وتركيا، لطبيعة العلاقات التاريخية الخاصة التي تربط هذين البلدين في حركية الغرب الدولية والإقليمية. الغرب اتسع لدرجة بات من الصعب علينا البقاء في جغرافيته الأولى والتي هي أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا..الغرب أصبح الآن كل أوروبا، ومعها اليابان وكوريا الجنوبية وبقية النمور السبعة وروسيا، وانضم للغرب- بوصفه نموذج وعلاقات وبنى وتراتبيات- دولا عالم ثالثية كثيرة، عبر مؤسسات دولية وإقليمية، في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، علاقات هذا الغرب كانت ولازالت كونية، ولكنها كانت تتمدد عبر محورية الغرب الأولي، الفتي، الاستعماري..ومع ذلك نحن نمشي في اتجاه معاكس، ففي السابق كانت غالبية النخب القومية العربية واليسارية العربية تتبنى هذا الخطاب” الغرب شر مطلق” – النخب الإسلامية بقيت رجراجة لخمسة عقود حتى بداية التسعينيات من القرن العشرين- الآن أضيف إليها النخب الإسلامية المعارضة، وكذلك نخب السلطة العربية، من يراقب الإعلام الحكومي العربي يجد كما هائلا من هذا الخطاب، مثال” الإعلام المصري والسعودي والسوري يتقاطع بشكل قوي في هذه النقطة، أما النخب السابقة المعارضة للغرب، لم تعد تتفارق في خطابها عن نخب السلطة العربية الحالية في عداءها للغرب.
وإن ظهرت بعض النخب التي تؤيد سياسات الغرب أيا كانت لكنها بقيت نخبا ضعيفة الحضور في الشارع العربي، وهنالك نخب تتعامل مع الغرب بوصفه علاقات قوة ومصالح ونموذج إيجابي في نفس الوقت، من حيث هياكل دوله ومجتمعاته، وهذه النخب تريد التعامل مع الغرب بنفس منطقه” تبادل منافع ومصالح في خدمة قضاياها” ولكن هذه النخب لم تصمد أمام تبادل المصالح بين نخب الحكم العربية وبين نخب الغرب المتوزعة على المشهد السياسي في الدول الغربية..لأن النخب الحاكمة لديها ما تتبادل به مصلحيا مع الغرب، بينما النخب المعارضة تحت عنوان الديمقراطية، ليس لديها ما تقدمه لهذا الغرب، والغرب لا يحتاج هذه النخب في عملياته التجسسية على دولها، فالغرب يعرف أكثر من هذه النخب ما يوجد في هذه الدول!!
بالمقابل الغرب ليس كتلة مصمتة تقف كلها على رؤية واحدة لمصالح واحدة وسرمدية، فالغرب أيضا فيه مصالح متناقضة ومتنافسة، فطيلة ثلاثة عقود مثلا: كانت العلاقات الألمانية- الإيرانية مختلفة عن العلاقات الفرنسية- الإيرانية، لذلك تجد أن الفرنسيين كانوا ولازالوا أكثر تشددا مع الملف النووي الإيراني من الألمان، كذلك الحال بالنسبة لتركيا فموقف المانيا يختلف عن موقف فرنسا، وكذا غير موقف أمريكا.
ثمة عامل نتناساه أحيانا، وهو التفريق النسبي بين مصالح الغرب ككتلة موحدة، وبين مصالح دوله كل على حده، وهذه قضية على غاية من الأهمية، فليست استراتيجات الدول الغربية تصاغ من قبل نخبة واحدة، أو مؤسسات موحدة، وإن كانت هذه المؤسسات موجودة كالاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، والآن قمة الثماني الصناعية، ومن ثم قمة العشرين التي بدأت تتحول إلى محطة دولية. ما نود قوله أن المصالح الغربية، وإن كانت كما حاولنا ان نعرض جانبا تحليليا أو تفسيريا لها، إلا أنها تتحكم فعليا، بمسيرة الديمقراطية في المنطقة العربية، تتحكم كطرف في هذه القضية، ويقابله في ذلك تحكم النخب العربية الحاكمة، ومدى قدرتها على مواجهة المسألة الديمقراطية، وإجبارها الغرب في أحيان كثيرة على مراعاتها، حفاظا على مصالحه مع هذه النخب التي تتحكم بثروات البلاد العربية ووضعها الجيوسياسي، والتي هي الهدف..
هذا الوجه من المسألة، لاعلاقة له بتقييمنا القيمي للسياسة الغربية في المنطقة، بل له علاقة بموازين القوى على الأرض، وكيف تتواجه ويتم التخلص من تناقضاتها عبر تقاسم المصالح بين دول الغرب والنخب الحاكمة في المنطقة العربية.
ثمة مسألة اخرى يجب التوقف عندها، وهي ذيول ما يسمى في العالم الآن الحرب على الإرهاب، وخاصة في العقد الأخير، فهذه السياسة كانت بشكل أو بآخر في خدمة النخب العربية الحاكمة، او لنقل أن هذه السياسة خدمت النخب العربية الحاكمة، أكثر مما خدمت المعارضة الديمقراطية في هذه البلدان، ربما من زاوية نادرا ما يجري الحديث عنها، فسياسة الحرب على الإرهاب التي أعقبت أحداث 11 سيبتمبر أمريكيا كانت ذات رؤوس متعددة، منها نشر الديمقراطية، ودعم مؤسسات المجتمع المدني، بغض النظر عن جدية هذه الرؤوس من عدمها، إلا أنها حركت شيئا من المياة الراكدة في المسألة الديمقراطية، ولكن النقطة الأهم في هذا الأمر” أنها جعلت كل النخب المعارضة الديمقراطية في المنطقة العربية، جعلتها تتبنى ما سمي” بالانتقال السلمي نحو الديمقراطية” هذا العنوان العريض، قد كرس النخب العربية الحاكمة بوصفها قوى سلمية! إنهاء التفكير وتركه يتحرك عبر مسربين أو عنوانين” الأول التغيير السلمي من الداخل، والثاني التغيير بمساعدة الخارج عسكريا وخلافه” وأضيف إلى ذلك ان الحرب على الإرهاب أسقطت من أجندتها موضوعة تشجيع الديمقراطية، وبذلك أحكمت النخب الغربية الراهنة مع النخب العربية الحاكمة الطوق حول التغيير الديمقراطي في دول المنطقة. بقي المفكرون العرب يتناولون سياسة الحرب على الإرهاب من زاوية أنها كاذبة في قضية الديمقراطية، ولذلك رحبوا بأوباما وبساركوزي وانفتاحهم على بعض نظم المنطقة. ثم أسقطت من جهة أخرى سياسة التفكير في الغرب بالتدخل من أجل الديمقراطية، وبقيت سياسة” التغيير السلمي من الداخل” وأصبح العنف” إرهابا” مهما كانت مسبباته وأهدافه السياسة ومرفوضا جملة وتفصيلا.
وكي لا نفهم أننا ندعو للعنف، لكننا بالمقابل لا بد أن نقول أن الغرب أراد احتكار العنف بالعالم، كما تحتكره نخبنا الحاكمة داخل دولها في المنطقة العربية، واحتكار العنف عالميا، مع كلبية جديدة تنتاب السياسات الغربية تجاه المنطقة، جعل الديمقراطية تخسر من جديد، ولو أن أرباحها في المرحلة الماضية كانت واضحة في بعض بلدان منطقتنا كالمغرب ومصر، إلا أنها كانت في الحقيقة أرباحا ارتبطت أيضا، بطبيعة النخب الحاكمة في كل دولة على حدا..حتى يمكننا الحديث عن اختلاف في الطبيعة الشخصية بين قائد فذ وملك مفدى، لعبت دورا في خسارة أو ربح ديمقراطي في العقدين الأخيرين..في مصر والمغرب الآن لا يمكن للنخب الحاكمة أن تتراجع عما حدث من تقدم على الصعيد الديمقراطي، ولكنها يمكن ان تكون أكثر تعنتا في الاستمرار بالمسيرة الديمقراطية، لأن الفضاء الدولي بات يسمح لها بمثل هذا التعنت.
بقي هذا التحليل ناقصا لعامل جوهري يحتاج إلى أن نفرد له مقالا خاصا، وهو العامل الإسرائيلي في المنطقة، ودوره كمحظية غربية دائمة على طول الخط، والذي لا مصلحة له في قيام دول ديمقراطية في المنطقة ككل.
الديمقراطية شرق أوسطيا في مأساة وستبقى حتى أمد يرتبط أيضا بتغير في السياسات الغربية، وهذا وجه المأساة الآخر..لأن التغيير السلمي يحتاج إلى خصم سلمي أو يحتاج إلى حواضن مؤسسية مسموح بها، ولها أن تعمل من أجل الديمقراطية وبوسائل سلمية.