سلطة الدولة أم دولة السلطة؟
غسان المفلح
سلطة الدولة ودولة السلطة لا يمكن فصل واحدة عن الأخرى مهما كانت دكتاتورية السلطة وشموليتها، ومهما كانت الدولة ضعيفة أو تعيش إشكاليات حقيقية في مجتمعها أو مع محيطها..إنها علاقة متداخلة .. يروى أنّ ملك فرنسا لويس الخامس عشر وقف في الثالث من آذار (مارس) 1716م أمام برلمان باريس قائلاً” في شخصي وحده تجتمع السلطة، و لي وحدي تعود السلطة التشريعيّة دون منازع أو حسيب. النظام العام بمجمله، يستمدّ وجوده من وجودي، و أنا حاميه الأول. شعبي و أنا واحد. حقوق و مصالح الأمّة، التي يجرؤون على جعلها جسماً منفصلاً عن الملك، هي، بالضرورة، متّحدة بحقوقي و مصالحي أنا، و لا ترتاح إلاّ بين يدي” خطاب لويس الخامس عشر هذا لا يوضح فقط اللوحة الديكتاتورية المشخصنة، بل أنه يوضح لنا الفرق بين السلطة المشخصنة وبين الدولة كمؤسسة اعتبارية، وهنا المفصل الذي تتحرك عليه الأنظمة الشخصانية من أجل تعبئة الرأي العام، أنها هي الدولة والدولة هي. بذلك تصبح السيادة للشخص وليس للدولة وقوانينها، ونظراً لما للسلطة بوصفها علاقة في الدولة من صفات ذاتيّة خاصّة فقد أطلق عليها الفقه الفرنسي اسم” السيادة” و صفة السيادة مقتضاها أنّ سلطة الدولة” سلطة عليا لا يسود عليها شيء و لا تخضع لأحد، و لكن تسمو فوق الجميع، و تفرض نفسها على الجميع، ولهذا الحاكم الفرد يحاول فرض شرعيته عن طريق استخدامه الخاص لقوة الدولة وسلطتها “تشير الموسوعة الفلسفيّة إلى أنّ السلطة” مفهوم يشير إلى النفوذ المعترف به كليّاً لفرد أو نسق من وجهات النظر أو لتنظيم مستمدّ من خصائص معيّنة أو خدمات معيّنة مؤدّاة، لذلك فإن مفهوم السلطة بهذا المعنى يُشَكِّلُ نظامًا من السيطرة، والهيمنة، التي تمارسه فئة ما على فئة أخرى، مُتَّخِذَةً بذلك صُورًا عدّة” *
الدولة هي سلطة العقد الاجتماعي، وهي القوانين والدستور والدواوين واحتكار القوة وضمان أمن المجتمع ماديا ورمزيا، وفي حال موت صاحب ديوان لا يتأثر عمل هذا الديوان، لأنه يعمل وفق قوانين لا شخصية. الدولة المعاصرة التي تعيش في ظلها الآن أكثرية شعوب الأرض، دولة الأشخاص فيها عابرون، ويأتون لخدمتها مهما علت امتيازاتهم، وليس وجودها لكي تخدمهم، كأشخاص أو كعائلات أو كفئات ذات لون واحد وإلى الأبد! التسطيح الجاري في سورية سواء كان ماركسيا أم لبيراليا، علمانيا أم إسلاميا، هو الخلط بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة، والذي يؤدي في النهاية إلى تحليلات تصور الدولة في سورية مثلها مثل الدولة في فرنسا، والسلطة أيضا من باب أولى أن تكون متشابه، يعني على فرض لو أن السيد نيكولا ساركوزي أعطى رخصة شركات الاتصالات الفرنسية كلها إلى ابن عم له، ما الذي يحدث في الدولة الفرنسية؟ وهل يستطيع ساركوزي بسلطته كرئيسا للجمهورية الفرنسية أن يقدم على مثل هذا العمل، مهما حاول أن يرصعه بقوانين!؟ هل يستطيع ساركوزي ان يلقب نفسه” سيد الوطن؟
مهزلة في الواقع هذا التأكيد من قبل بعضنا على مقولة أن الدولة هي الأشخاص القائمين عليها، أي شخصنة الدولة، وهذا أمر لا يحتاج إلى كثير عناء لاكتشاف دوافعه. إنه احتقار للدولة وتجربتها التاريخية لدى بقية شعوب الأرض، وماذا قدمه هذا الإطار السيادي لعقده الاجتماعي. كل هذا كي نقول أن السلطة في بلد ما ليست شخصانية، بل هي تمثل هذه الدولة، ومن يمثل الدولة يغتصب كل وظائفها، ويحركها وفقا لمعايير شخصية تكاد تكون مزاجية أحيانا، هل يستطيع الرئيس ساركوزي الاتصال برئيس الاستخبارات العسكرية الفرنسية، ويطلب منه اعتقال دوفيلبان رئيس الوزارء الفرنسي الأسبق لأنه تناول ساركوزي وسياسته في مقالة توبيخية؟ من أين لأي شخص سلطة على مجتمع بكامله لولا استخدامه لسلطة الدولة؟ والسؤال هل يستخدمها بشكل قانوني، حتى وفق قوانين هذه الدولة ذاتها؟ ألم تنتج البشرية تجربة انتخاب نخب حكمها وتداول السلطة، من أجل ألا يبقى في العالم أمثال لويس الخامس عشر؟ لماذا ممنوع على شعوبنا هذه التجربة؟ ومن يمنعها، هل هي الدولة التي خلفها الاستعمار خلفه أم سلطات الانقلابات العسكرية، واستفتاءات 99.99% هي التي تمنع ذلك؟ هل هنالك قانون في أي دولة أو في أي دستور، ينص على أن الرئاسة هذه تورث؟ ماعلاقة مفهوم الدولة وتجربتها التاريخية لدى كل شعوب الأرض بهذه اللقطة التوريثية؟
يرى “هيجل” أن الحرية لا توجد إلا في الدولة التي تعبرعن الأهداف الجمعية.
هل السلطة الشخصانية تعبر عن أهداف المجتمع؟ وماهي على سبيل المثال أهداف المجتمع السوري؟
هل من أهداف المجتمع السوري مثلا” أن تكون معظم القيادات الأمنية والعسكرية من لون طائفي واحد؟
وهل هنالك في دستور أي دولة ينص على ذلك، أم هو سلوك اعتمد في ممارسته على جعل الدولة في خدمة من الأزل إلى الأبد، كما هي حال القادة عندنا؟ عقدة الولاء للشخص القائد وليس للدولة.
لماذا البشرية أنتجت في تجربتها نحو الحرية مفاهيم العدل والمساواة أمام القانون، وانتخابات ممثلي البشر، وقبول المصالح الخاسرة بنتائج الانتخابات التنافسية؟ كل هذا يصبح متشابه مع ما يسود في سورية؟
وتصبح المستشارة الإلمانية انجيلا ميركل مثل السيد ناجي العطري رئيس الوزراء السوري.
السلطة غير المشخصنة، هي التي تتساوي الآن في سورية مع السلطة المشخصنة، وتصبح كلها منضوية تحت مفهوم الدولة السورية، لهذا يجري الحديث دوما عن الدولة السورية.
الماركسية عموما عندما تتحدث عن الدولة الطبقية، لا تساوي بين ستالين ورزوفلت، ولا بين ديكتاتور كوريا الشمالية وبين أحد رؤساء شقيقتها كوريا الجنوبية المنتخبين من قبل الشعب، وليس المستفتى عليهم، أي ابتذال للماركسية هذا عندما تصبح كل الدول مثلها مثل سورية دول طبقية؟
الدولة علاقة اجتماعية صحيح، ولكنها أبدا ليست علاقة من النوع الشخصي أو الطائفي. وكسذج نسأل” هل تستطيع الان السيدة ميركل تعيين كل قيادات الجيش الألماني من ضباط ألمانيا الشرقية لكونها منحدرة من هناك؟ ما هذا التعويم المشبوه، وهذا الابتذال للمفهوم الديمقراطية، ياسيدي حتى الديمقراطية البرجوازية هي نتاج تحولات أعطت لشعوبها معنى الإحساس بالأنا الجمعية والفردية، وحتى ماركس يعتبرها خطوة متقدمة عن أي شكل استبدادي للحكم، لا نريد الحديث عن تجربة غرامشي ومفاهيمه في السيطرة والهيمنة.
نعم البشر الذين تنتخبهم شعوبهم من أجل أن يقودوا مؤسسات دولتهم، هم يمرون كالأشباح على مؤسسات الدولة، فإما ان يتركوا اثرا إيجابيا او سلبيا على الدولة، ولكنهم لا يستطيعون البقاء فيها من الأزل وحتى الأبد مهما كانت الذريعة، وقبولها هو عار، حتى لو تم تحت أشكال من الخوف أو من المصلحة.
استقلالية الدولة هي سيادتها التي تحدثنا عنها أعلاه، يجب أن تشعر كل شرائح وطبقات المجتمع أنها محمية من هذه السيادة، وان هذه السيادة لا يستطيع أشخاص التلاعب بها، لأنهم يملكون أجهزة المخابرات، لهذا تجربة البشرية وصلت إلى قناعة أن مجتمعها لا يمكن أن يعطي هذه السيادة لشخص واحد، ليقول” أنا الدولة والدولة أنا.
نعم استقلالية الدولة هي الضامن لمجتمعها من تغول سلطة مشخصنة، سواء كانت فردية أم عائلية. لأن الحاكم الفرد في حالتنا، عندما يطابق بين مصلحته ومصلحة الدولة فإنما يريد أن تصبح مصلحته الشخصية هي مصلحة الدولة، دون أي اعتبار لو أمكنه ذلك. لهذا في الدول التي تحكمها سلطات فردية تغيير الشخص يكون أحيانا مفصليا، وعدم تغيير الوضع لا يعني أن الدولة هي الحاضرة بل يعني قوة السلطة الفردية هي التي بقيت حاضرة. لهذا غوروباتشيف اتى بعد اندروبوف وتغير الوضع بالكامل، وهذا يشير بما لايقبل الجدل دور الديكتاتور في تغيير البنية السياسية للسلطة وإعادة الاعتبار للدولة وسيادتها، إن كانت هنالك إرادة سياسية، وكي لا نذهب بعيدا أيضا، ما الذي فعله الشاذلي بن جديد بالجزائر، حين اختار بإرادة واعية إقامة انتخابات تنافسية حقيقية؟
نعم استقلالية الدولة البرجوازية- بلغة ماركسية! هي الضامن من أن تبتلعها مصالح شخصية او فئوية.
واسقلاليتها هي التي تحمي من خلالها مدنية الدولة وعلمانيتها، وليس أشخاص يمكن أن تكون مصالحهم بلحظة هنا، ويمكن أن تكون بلحظة أخرى هناك، وبالتالي يجرون الدولة كلها نحو هذه المصالح، وإن استطاعوا وفشلوا فإن مؤسسات الدولة ومجتمعها المستقل نسبيا يحاسبها.
استقلالية الدولة هي التي تحمي تداول السلطة، والدولة غير المستقلة هي التي لا تستطيع إنتاج تجربتها في تداول السلطة هذا. نعم التداخل بين مفهومي السلطة والدولة قضية شائكة، ولكنها بالمقابل ليست مستحلية على المفهمة، وبالتالي مهما كانت السلطة فهي بحاجة للدولة والدولة بلا سيادتها تصبح مزرعة للأقوى، هذا هو الحدث السوري.
* د. محمد هبد الرحمن يونس.
خاص – صفحات سورية –