العودة إلى مفاوضات فاشلة
سلامة كيلة
بعد توقف عادت المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والدولة الصهيونية، هذه المرة عبر “الوسيط الأميركي” الذي بدأ في رحلات مكوكية لم توصل إلى شيء، حتى إلى “تخفيف” الاستيطان، ولقد بدا واضحاً بأن المفاوض الفلسطيني قد تخلى عن شرطه المتعلق بوقف الاستيطان مبرراً ذلك كون هذا الشرط يتعلق بالمفاوضات المباشرة وليس بهذا الشكل من المفاوضات. وكما يشير المفاوض الفلسطيني فإن ما سيجري البحث فيه هو مسائل الحل النهائي، وأولاً الحدود والأمن، وبالتالي القدس واللاجئين والمستوطنات. وأن الأمر يتعلق بضمانات أميركية. وهي الآقوال ذاتها التي تكررت مرات خلال كل فترات المفاوضات تقريباً. لهذا سنشهد أربعة أشهر من الفشل كما كان منذ بدء المفاوضات. بينما يستمر قضم الأرض والتوسع الاستيطاني، والسيطرة الكاملة على القدس وتكريس “يهوديتها” كما ظهر في ابعاد اعضاء المجلس التشريعي الحمساويين عنها كونهم ينتمون إلى “مؤسسة فلسطينية” هي المجلس التشريعي.
إن الأساس الذي يقيم المفاوض الفلسطيني إستراتيجيته عليه، كما يقول، هو ايصال الولايات المتحدة إلى نتيجة هي أن إسرائيل هي التي تعرقل المفاوضات، وهي التي لا تريد التوصل إلى حل. وتحت هذا الأساس جرى تبرير العودة إلى المفاوضات، ويجري تسويقها، كما يجري الاستمرار فيها رغم كل ما يجري في الواقع. وإذا كان المفاوض الفلسطيني قد توصل إلى أن إسرائيل لا تريد التوصل إلى حل كما يقول، فمتى سيتوصل إلى أن الولايات المتحدة ليست وسيطاً، بل أنها طرف، لا أقول مع إسرائيل بل أقول أن هذه الأخيرة هي التي تخضع لسياساتها. وبالتالي فإن التوصل إلى أن إسرائيل لا تريد التوصل إلى حل يعني أن الولايات المتحدة لا تريد الحل. حيث أن طبيعة العلاقة “الخاصة” بينهما يجب أن تكون قد أصبحت واضحة، وهي علاقة لا تسمح بأي حال من الأحوال أن تكون الولايات المتحدة وسيطاً. وما تفعله هو ايجاد الغطاء على السياسات الإسرائيلية من خلال الإيهام بأن هناك مفاوضات، وهي تعمل من أجل هذه المسألة فقط، وعبرها تعمل من أجل ترتيب العلاقة بين الدولة الصهيونية و”المعتدلين العرب”.
هل هذه المراهنة هي وهم أم أن الوهم هو نتاج حاجة الطرف الفلسطيني إلى التفاوض؟
إذا كانت السلطة الفلسطينية قد “عرّبت” القضية الفلسطينية من جديد لكي “تلتزم” بالقرار العربي الداعي إلى العودة إلى المفاوضات، وإذا كانت تتعلق بحبال التمييز بين الدولة الصهيونية والولايات المتحدة، فإن الأساس هنا هو أن هذه السلطة لا خيار لديها سوى التفاوض (وهو ما أعلنه محمود عباس بوضوح في أكثر من تصريح)، فقد “شطبت” المقاومة والنضال، وإن تعلقت باختراع “شيوعي” اسمه المقاومة الشعبية السلمية، والتزمت بمحاربة “الإرهاب” الذي تمارسه الفصائل الفلسطينية، وحصرت كل نشاطها في “النضال الدبلوماسي”. لقد قررت السلطة بأن طريق “تحرير” فلسطين (التي باتت هي الضفة الغربية فقط) يقوم على التفاوض ثم التفاوض وليس غير التفاوض، فماذا ستفعل إذا ما انتهت المفاوضات؟
هذا السؤال هو الذي يبرر عودتها الآن، وفي مرات قادمة، إلى المفاوضات، بغض النظر عن كل الممارسات الصهيونية التي يجري الاحتجاج عليها، خصوصاً الاستيطان. فقد تكيفت مع “النضال الدبلوماسي” ولم تعد تستطيع تغيير هذا الشكل من “النضال”، أو أن مصالحها لا تتحمل تغيير هذا الشكل، حيث أسست مصالحها على أساس هذا الوضع. فهي سلطة باتت تتشكل من فئات لها مصالح اقتصادية أشير إليها مراراً، وهي مصالح متشابكة مع “العدو”، فكيف إذن يمكن انهاء المفاوضات والتحول إلى خصم؟ وكيف ستستمر المصالح فيما إذا انتهت المفاوضات وبات إنهاء السلطة أمراً قائماً؟
بغض النظر عن كل المبررات التي تقال، والتي أصبحت واضحة لكل متابع، فإن السلطة لا ترى سوى المفاوضات، حتى وهي تتمنع أحياناً، أو تبدي تأففها من الاذلال الصهيوني، الذي يريد أن يكشف منطقها لكي يخضعها أكثر. ولأن المفاوضات لن تقود إلى شيء، سوى إلى التغطية على الممارسة الصهيونية وايجاد الظروف التي تسمح بتغطية سياسة مآلها السيطرة التامة على الضفة الغربية. خصوصاً وأن السلطة تمارس القمع لكل نشاط مضاد الاحتلال، وبالتالي تحرص على عدم تبلور خيار بديل لمفاوضات فاشلة.
إنها لن تنهي المفاوضات التي باتت واضحة “العبثية” (كما أشارت هي)، وليس من خيار أمامها سوى التكيف مع الحل الصهيوني، الذي يحوّلها إلى “سلطة إدارة ذاتية مدنية” كما تحدد في اتفاق أوسلو ليس أكثر. فالمصالح أهم، والتشابك الكومبرادوري يوصل إلى خضوع لا خيار غيره، أو التنحي لاستلام فئات أخرى تنبت من بنية السلطة ذاتها جرى الاشتغال عليها خلال السنوات الماضية، سواء كواجهات سياسية أو كبنية أمنية.
إن كل ما تفعله السلطة بات يشكل عبئاً على الشعب الفلسطيني، وبات يشكل إعاقة لتطور فعلهم النضالي. وربما كانت كل هذه المسائل واضحة للفلسطينيين، لكن السؤال يتعلق بكيف ينتهي تحكم السلطة بمصير الشعب الفلسطيني؟ وكيف يمكن أن تتطور المقاومة من جديد، حيث لا بديل عن ذلك في مواجهة قوة لا تفكر، من الأساس، بحلول وسط، وأصبحت سياساتها مكشوفة، كما أصبح مكشوفاً وضع السلطة الفلسطينية؟
ولهذا يصبح السؤال الأساس هو ما البديل؟ وكيف ينشأ؟ أظن بأن هذا ما يجب أن يكون جوهر النقاش من أجل مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني.
الحوار المتمدن