صفحات العالمما يحدث في لبنان

ثقـافــة الفتـنــة

سليمان تقي الدين
لم يستنفد كل ما كتب وقيل دلالات «حادثة برج أبي حيدر». الجميع كان يتوقع هذا المشهد. لا أحد يمكن ان يستبعد حادثاً فردياً هنا وحادثاً هناك، وأن يحرك الضغائن والأحقاد ويفتح المسرح لكل صاحب مصلحة سياسية على التدخل. الانقسام السياسي والنفسي موجود، والنزاع الأهلي مفتوح، والاستعداد للمواجهة قائم، والدولة لا قوة ولا هيبة، والعملاء جاهزون، والمشروع الدولي ناشط.
إذا كانت القوى السياسية تعرف هذه الوقائع والمعطيات وتتحدث عنها في كل مناسبة، فماذا فعلت لتداركها ولمواجهتها؟
في الممارسة السياسية اليومية المزيد من الخطاب الفئوي، والمزيد من التوغل في قضايا الخلاف وعناوينها. في المشروع السياسي ولا خطوة واحدة في اتجاه تعزيز مرجعية الدولة ومؤسساتها ومركزيتها. هناك استخدام لهذه الدولة المفككة حسب مواقع النفوذ فيها، في السياسة، في الأمن، وفي الخدمات. من أزمة إلى أزمة ومن صدام إلى آخر والمشاريع الطوائفية تتشبَّث بخياراتها وتنظيم صفوفها وتقوية مكتسباتها خارج أي بحث في المصير اللبناني المشترك. لا المؤسسات تقود عمل الدولة في خدمة الوحدة الوطنية، ولا هيئة الحوار الوطني جادة في إنتاج مشروع للوحدة الوطنية. هناك تسليم من جميع الاطراف بأن المسألة الوطنية تتقرر في المحافل الإقليمية والدولية وفي حصيلة نزاعاتها. تخرج أحياناً بعض الأفكار والمقترحات الطوباوية، أو تُطلق بعض الشعارات الجميلة، لكنها تحلق فوق الدولة والمجتمع. فلا الدولة دولة تستطيع استيعاب هذه الأفكار والمقترحات، ولا المجتمع موضوع على طريق المشاركة في صياغة مستقبله. تصادر مؤسسات الطوائف كل شيء وهي مؤسسات فرز وتقسيم، وتدّعي أحياناً أنها تتطلع إلى كل مكونات البلد. كل المسار السياسي منذ عقود يتركز على احتكار شرعية التمثيل الطائفي وإلغاء المساحات الحرّة المشتركة بين اللبنانيين. تجتمع مؤسسات الطوائف وتتفرق تحت عنوان «التوافقية» و«حق النقض». هذه المؤسسات لم تقبل ولا تقبل الآن أية طروحات إصلاحية تقوم على المزاوجة بين المشاركة الطائفية وضماناتها وحقوق المواطنين. في هذا الفوران أو الغليان السياسي الطائفي المتراكم تصبح شرعية العمل السياسي هي الهوية والجغرافيا التي تتنوع من الإقليم الكبير إلى البلدة أو الحي. لبنان اليوم هو مجموعة مربعات سياسية طائفية أمنية خدماتية. الأمن الذاتي يتبع تلقائياً فكرة الهوية الطائفية لهذه المربعات.
نحن نخشى «المؤامرة» أو «الفتنة» لأننا مجتمع ضعيف هش غير متماسك. تتغذى القوى السياسية من الخارج ويقوم المشروع السياسي على الانتفاع والولاء، على الزبونية والمصلحة الفردية ـ العمالة السياسية ظاهرة جماعية بهذا المعنى، والعمالة الفردية جزء من ثقافة. الجاسوس يبيع نفسه والجماعات السياسية تستثمر رصيدها السياسي هنا أو هناك. ثقافة الطوائف هي «البيئة الحاضنة» الأساس لظاهرة عدم الولاء للوطن. يتقلص الولاء من الوطن إلى الطائفة، ومن الطائفة إلى الحزب، ومن الحزب إلى الزعيم، ثم إلى العائلة وإلى الذات الفردية. تتحصن الجماعات بالعصبية الدينية أو الطائفية أو الأديولوجية وبالمصالح العامة لها أو الخاص بها. لكن الفرد يتحصن بالحقوق والقانون والواجبات والأخلاق والوعي. هذه كلها تأتي من المجتمع وليس فقط من «ضمير» جوهري. الضمير نفسه ظاهرة اجتماعية وثقافة اجتماعية. في الثقافة اللبنانية، اللبناني الآخر عدو أو خصم أو منافس أو غير سوي أو لا يستحق الحقوق ذاتها.
في ثقافة الطوائف الآخر لا يشترك في الحقوق والواجبات نفسها. إلغاء كل ركائز المساواة يبرر كل أشكال العنف وسلوكيات الإلغاء. الإلغاء معنوي ومادي. القتل، الحرق، الهدم، المحو، التشويه، التزييف والتزوير لصورة الآخر، فرض الإرادة عليه. في المجتمع التعددي لا تعايش ولا استقرار إلا بايجاد مشتركات واسعة: ثقافة متسامحة، حقوق إنسانية متساوية، دولة قوية حاضنة. النظام الطائفي عندنا هو نقيض هذه المرتكزات. الأحزاب السياسية عندنا هي محرضات لمشاريع الغلبة ولنزاع الهويات القاتلة.
في السلطة امتيازات وحرمانات. في الإدارة والخدمات والمنافع، في الأمن، في الوطنية والحرية، في الحقوق والواجبات كلها.
الأرض ليست مشتركة بين اللبنانيين، لا في الدفاع عنها ولا في امتلاكها ولا في الإفادة منها، وكذلك الكهرباء والماء والطرق والبحر والجبل والشجرة والصخرة. المدرسة ليست مشتركة ولا الجامعة. الوظيفة ليست مشتركة ولا الإعلام. مصادر العيش ليست مشتركة ولا المساعدات الخارجية. لا وطنية ولا مواطنية في ظل هذا النظام. سياسة المحاصصة تدمر الدول المركزية القوية والغنية. الثقافات الحصرية الفئوية تشرذم المجتمعات. تحولت السياسة عندنا إلى تجارة قاعدتها الربح وسلعتها الناس. لا قيمة لأي مشروع لا يستهدف تطوير المجتمع وتقدمه ورفاهه وحريته وازدهاره. لا معنى للوطنية في بيئة متفسّخة مهترئة. لا مخرج لنا إلا بمراجعة هذه السياسات والاحتكام إلى حقوق المواطن اللبناني وحاجاته وإعمال مبدأ المساءلة والمحاسبة. المؤامرة والفتنة هما انعكاس لثقافتنا السياسية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى