العِراق… ماذا عن فِرقِ المَوتِ؟
رشيد الخيّون
يٌقدر الموت العراقي بالمليون قتيلةٍ وقتيلٍ، ذلك مذ صباح 9 أبريل 2003 وحتى ذبح الطبيبة انتصار التويجري، مديرة مستشفى العلوية للولادة، ومجزرة الثلاثاء (17 من أغسطس الجاري) الوحشية، التي استهدفت شباباً لا يجدون سوى الأمل بوظيفة شرطي أو جندي ظلاً من الشمس الحارقة، أمام وزارة الدِّفاع، التي لم تدفع عنهم الموت، وهم عند بوابتها، فتأمل ضعف الحال. وإنْ حاولت الجهات الرَّسمية المغالطة بالحساب فلا نجدها تُجازف في عدِّ القتلى بأقل من نصف المليون، فكشف لهوياتهم المجهولة ما زال جارياً، والمئات بلا رؤوس، أما عدد القتلى خلال أيام الغزو فما زال نسياً منسيا!
أراها مشاهدَ مفزعةً لأبدان بلا رؤوس، ورؤوس بلا أبدان، فتخيل وحشة جثمان أصم خالٍ من ملامح جنازة! كانت رؤوس القتلى من الخصوم، في غابر الزَّمان، تُعلق على الرِّماح ليُطاف بها، بعد إحضارها في طُسُوت أمام الخليفة أو الأمير، ثم وجد ما يُسمى بخزانة الرُّؤوس تحفظ فيها بعد تفريغ أجوافها، حدث ذلك، مثلاً، في زمن القاهر بالله العباسي (ت 328 هـ)، فقد أُتي السَّنة 321 هـ برؤوس ثلاثة من كبار موظفي دار الخلافة، وجُعلت “في خزانة الرُّؤوس”، بعد أن طيف بها في طرقات بغداد (أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر).
وردت أخبار الخزانة الغريبة الأطوار مِراراً في كتب التَّاريخ، مثلها مثل خزائن الكتب، والفِرش، والطيب، ولولا خشية الإطالة لتبسطنا فيها. أما العثمانيون فاستحدثوا منائر الرؤوس، ورد في أخبار السَّنة (1668ميلادية) أن القائد قره مصطفى شيدَّ منارةً من رؤوس القتلى داخل مياه الأهوار لشدِّ عزم رجاله (لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث).
في ظل النِّظام السَّابق كانت الرُّؤوس لا تُدحرج بلا أبدان، فعادة يُعثر على المغتالين بلا نقصٍ ولا مُثلةٍ، والسُّلطة إما تعترف أو تُخلس، وهي إيماءة قوية إلى فعلها لبث الرُّعب في النُّفوس، فمعرفة أسباب القتل لا تترك الهواجس مفتوحة، يُرمى الخبر بين النَّاس للتداول علانية. فما شهدناه آنذاك: “مَنْ دخل بيته فهو آمن، ومَنْ دخل بيت السُّلطة يأمن أكثر، بمعنى يمكن لعراقي مقايضة دمه بالخضوع، بغض النَّظر عن الكرامة، فيمكن تبرير الصَّبر على هدرها تحت القسوة، لكن مَنْ يُعيد الرأس إذا سقط من على الكتفين، وما عمق الرُّعب إذا ظل القاتل مجهولاً ويحوم حولك! أما مَنْ يريد السُّلطة فلا عذر له، وهاهي في زمن الدِّيمقراطية غدت استثماراً، ومَنْ يتنازل!
كان الحرس القومي، إحدى ميليشات الموت، تشكلت 1963 رسمياً، وريثة لميلشيا سرية 1962 عُرفت بـ “لجان الإنذار”(سعيد، مراجعات في مذكرات طالب شبيب)، رداً على ميليشيا أُخرى هي “المقاومة الشعبية”. ومن غير تلك اللجان هناك عصابات للموت، أو ان نزاعات 1959، سمعنا أنها صِدامية (بكسر الصاد) حوت الشَّقاوات والقتلة، والسلاح غدا بيد الطلبة والمراهقين، ومِنْ مهامها الاغتيالات، فالجهة الجانية معروفة! لكن لأسباب، والسُّلطة السَّابقة صريحة بإعلان قسوتها، ولم تُؤمل بالدِّيمقراطية.
بيد أن فضيحة السَّنوات السَّبع العِجاف الماضية لم يُعرف مِنْ أي جهة يأتي الموت، أمِنْ السُّلطة، وهي سُلطات! أم مِنْ الفِرق والأفواج السِّرية! أما الجيش والشُّرطة وقدرتهما على حماية البلاد والعباد، فهي تصريحات يسرع إليها مراهقون في السِّياسة وضعوا على أكتافهم سيوفاً وتيجاناً، بلا مؤهلات. ولا أجد ناطقاً للحق سوى رئيس أركان الجيش، قال: القوات المسلحة غير مؤهلة، لحماية النَّاس! ولا أظنه يقصد تأهيل السِّلاح والتَّدريب، إنما ثقافة الحماية والوطنية. أما ما سمعناه من على لسان شَاب، يهتم بمظهره أكثر مما يعنيه الجيش والأمن، فهو كلام صبيان لا أكثر، وليتحسس بيده تلك السُّيوف التي على متنه أكان يستحقها بالفعل!
هناك قتلة حقاً، ممَنْ كان في المعارضة السَّابقة، وتمرسوا على تزويد المليشيات اللبنانية بالأسلحة والأموال، أي المشاركة بالقتل اللبناني، ومنهم مَنْ كان منتمياً لميلشيات عدوة، بعرف الحروب بين الأوطان، فهم بحاجة إلى مطهراتي تتطهر فيه ضمائرهم من تلك اللوثة، حسب فكرة تنقية الأرواح قبل صعودها إلى أرض القرار عند مواطننا المندائيين. فمثل أولئك لا يبرأون بسهولة من جدولة الموت العراقي، فليس “القاعدة” و”البعث: الصَّدامي(بفتح الصاد) وحدهما مسؤولين عن ذلك الموت، وليس صحيحاً أن تذب كلُّها برقبة ميلشيا واحدة، وإذا صدق ما تدعيه السَّلطة الحالية فعليها تسليم أمرها لغيرها وتعلن عدم قدرتها! فهناك فِرق موت، تحدثت عنها الصَّحافة الأجنبية، بشكوك قوية، وشكا منها العراقيون. فِرق متنفذة بالمال والسِّلاح، لا بد مِنْ رصدها، كائن ما كان، ليأت اليوم الذي يواجه أصحابها مصائرهم مثل السَّابقين.
نعم، فِرق شاركت بجدولة الموت، كي يبقى التَّنور فائراً، هناك جيوش داخل العراق، ليست للحماية، إنما لتنفيذ مخطط الهلاك عبر جداول محسوبة. كانت البداية بضباط الجيش السَّابق من الطَّيارين بالذَّات، وشهد الرئيس جلال الطَّالباني، ندما أعلن عبر المرئي والمسموع عن حماية هؤلاء الضباط لكن لم يحدث ذلك، ومعلوم مَنْ هو وراء قتل نسور الجو العراقي، مَنْ الذي يطلب بثأر منهم، مَنْ المستفيد الأوحد!
ثم جاء التنفيذ بأصحاب الكفاءات، من أساتذة جامعات، وأطباء، ومهندسين، بعدها التَّنفيذ بالصَّحافيين والمثقفين، وملاحقتهم واحداً إثر واحد، ولم تُعتق النِّساء البارعات من التَّصفيات، هذا من غير القتل الطَّائفي الذي ساهمت فيه تلك الفِرق المتمكنة، أما آخر طبقات الموت المُجدول فهم شرطة المرور. أقول: لابد أن يُدق جرس الإنذار، ويُفعل التَّحقيق في شأن فِرق الموت، وصِلاتها خارج الحدود.
شُكلت فِرق الموت الرَّهيبة، بعد تدريب سابق، وجعلت الموت العراقي مواسم، لكلِّ طبقة موسمها، والجاني مجهول، وفي الغالب من الأحيان المجني عليه مجهولاً أيضاً، لغرض تكثيف الفزع بين النَّاس، رؤوس بلا أبدان وأبدان بلا رؤوس، فإذا كان لدى أميركا ذرة من الالتزام الأخلاقي، عليها أن تسارع في الكشف عن رؤوس تلك الفِرق، إذا لم تكن هي المبتلية أيضاً، فالأعداء معروفون، لكن حرامية البيت مازالوا مستورين.
لقد أُعدم صدام وأخوه، وقُتل ولداه، وبقيت أهم الرُّموز داخل السِّجن، وفي لحظات درامية غير متوقعة، أما زعامات فِرق الموت فـالقول لطَّرفة بن العَبد: “ستُبدي لكَ الأيامُ ما كُنتَ جاهلاً.. ويأتيكَ بالأَخبارِ مَنْ لم تُزَوَّدِ”. فالمنطقة برمتها مقبلة، على ما يبدو، على فضح المستور.
الاتحاد