صفحات العالمما يحدث في لبنان

أوجه مقارنة بين لبنان والعراق؟

نهلة الشهال
ليس مرد افتراض إمكان المقارنة بين البلدين، وجود حرب أهلية متفجرة أو ساكنة في كليهما، ولا نظامهما السياسي القائم على المحاصصة، ولا حتى هذه النزعة المثيرة للغيظ الموجودة بقوة في الدراسات السياسية الغربية التي تحب «النظام» وتجنح إلى ترتيب وتقنين الظواهر من باب ما تظنه عقلنة، فتطلق على كل حالة اسماً، سرعان ما يصبح مفردة قابلة للتعميم، كصفة تكاد تعفي من الفهم والتحليل: «اللبننة» لفترة، ثم اليوم «العرقنة»، نجدهما مستخدمين بكثافة بصدد مواقف لا يمكن تبين مطابقتها لما تشير إليه إلا من بعيد أو سطحياً. بل إن تعبيراً ثالثاً هو «البلقنة»، سابق عليهما ومكتسياً حياة ثانية، بعد الذي جرى في تلك البقعة من العالم، باتت محمولاته «بديهية»، إلى حد أنك تجده مستخدماً على نطاق واسع لتوصيف أنظمة سياسية وآليات انتخابية لبلد من البلدان، كما هو شائع في الدراسات السياسية عن المغرب مثلاً.
بل مصدر المقارنة الكهرباء! وهذه منقطعة باستمرار في البلدين حيث تبدو السلطات القائمة عاجزة عن توفيرها ولو بالحدود الدنيا، ما يدفع الناس إلى التمرد ضيقاً بالحر. يا للاستدراكات: ليست «عاجزة» بل غير مكترثة ربما، وليس كل الناس، بل الفئات الأكثر فقراً في العاصمة، ودوائر طبقية أوسع في سائر المدن والبلدات، وهم بالطبع الأغلبية.
في العراق مطلع الصيف، ابتدأ التمرد على واقع انقطاع الكهرباء لأكثر من عشرين ساعة في اليوم من البصرة، حيث القيظ مصحوباً برطوبة هائلة يحيلان الجو إلى جحيم. حقاً. ثم انتشر التحرك، موقعاً قتلى وجرحى ومطلقاً كلاماً انفلت من عقاله عن المعاناة والفساد.
وفي لبنان، ومع موجة الحر الشديد التي استقرت على امتداد الصيف، وأثارت استنكار اللبنانيين (الذين افتقدوا ما حفظوه من أشعار في المدرسة الابتدائية عن رقة الطبيعة في بلادهم، كما أدركوا مندهشين للمرة الألف أنهم جزء من هذه المنطقة وليس من أوروبا)، بدأت تحركات في الأطراف تتمثل بقطع الطرق الرئيسية بأطر المطاط المشتعلة (مما يزيد الحر والتلوث!)، ثم انتقلت إلى العاصمة حيث لا يمكن تجاهلها، وبالأخص مع وجود مئات ألوف السياح فيها، فحدث تصادم بين قوات الشرطة والمحتجين. وكالعادة في لبنان، تغلب الناس على الدرك وفشوا خلقهم فيهم، فنزل الجيش ليمسك بمفارق الطرق ويبرِّد حماوة الرؤوس.
بصدق، لم أطلع على أحوال الكهرباء في سائر البلدان العربية، وأظنها في حارات القاهرة العشوائية أو في قرى مصر المتروكة لشأنها بانتظار وصول المضاربات العقارية إليها (وإلا فتغرق في «ستين داهية»)، أو في أحياء الصفيح في الدار البيضاء…في حال أرذل مما هي عليه في لبنان والعراق معاً. ولكني لم أدقق في الأمر، وقد أكون مخطئة في افتراض السوء. أما ما يستحق المقارنة فليس انقطاع الكهرباء، ولا الشروط المزرية لعيش الناس، التي تستمر وتتفاقم، بل الطريقة التي يتم بواسطتها استيعاب نقمتهم، وإخماد تفجرها.
فالاكتواء من انقطاع الكهرباء (وما يستجره من مشكلات أخرى متداخلة، سوى الظلمة والحر، كمزيد من الافتقاد للماء ـ رغم أنها مشكلة أصلية قائمة بذاتها ـ وفساد الأطعمة والعجز عن تخزينها مما يؤدي إلى ارتفاع كلفتها، وتزايد الأعباء المنزلية على النساء…)، يدفع عموم الناس إلى تجاوز اعتبارات جوهرية كالحذر ممن قد «يوظف» احتجاجاتهم، والقلق مما إذا كان خصومهم في نظام المحاصصة يستفيدون منها، وإذا ما كانت تحرج ممثليهم في ذلك النظام… هم ينفجرون ضيقاً والسلام، لا سيما أنهم يرون المترفين يرفلون في النعيم. ولكنك تجد الضبط يبدأ في العمل مباشرة بعد مستوى عامة الناس المرهقين، فيجتهد المختارون وأعضاء المجالس البلدية ورؤساؤها (خصوصاً!) في قراءة ما يجري «سياسياً»، حسب المناسب.
ويلفت ذلك إلى قدرة نظام المحاصصة على الانتشار أفقياً وعمودياً، بحيث يخاطب، بل يحفز، كل من يكتسب درجة تمثيلية ما، وإن كانت دنيا. استطراداً ولكن في السياق، لا بد من الإشارة إلى ظاهرة مؤلمة: تظهر دراسة أجريت في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين المتاخم لبيروت، أن الكهرباء تقطع تماماً، أو يكاد، عن المخيم حالما يبدأ توافد السياح والمغتربين. ويتندر الفلسطينيون بمرارة على الحالة، مشيرين إلى أنهم يعاملون كبشر من فئة دنيا، بل يعتقدون أنهم يقعون في أسفل السلم لجهة الحرمان من الكهرباء. ولكنهم لا «يتجاوزون أدبهم» ليخرجوا هم أيضا إلى الاحتجاج العنيف، كما أقرانهم في الأحياء اللبنانية الملاصقة لهم. فذلك بنظرهم هم أنفسهم يكسر إطار التوافق على موقعهم في بنية البلد الرجراجة. وأما الأكثر إيلاماً في الموقف فهو وجود إجماع لبناني أو يكاد، على اعتبار تحفظهم طبيعياً، وأنه «لا ينقص» إلا أن يتجرأ الفلسطينيون على قطع الطرق وإحراق الدواليب.
جرى في العراق إخماد انتفاضة الكهرباء بتدخل من كل القوى السياسية، بما فيها الأكثر «شعبية» أو ادعاء الالتصاق بالناس والمستضعفين. أجمعتْ على ذلك، بينما هي تتحارب في ما بينها منذ خمسة أشهر على الأقل، أي منذ الانتخابات النيابية في آذار/ مارس الفائت، بمزيج من القسوة والتجوف المذهلين، على توزيع مناصب نظام المحاصصة. في الأثناء، انسحبت «الوحدات الأميركية المقاتلة» من بلاد الرافدين، فلم يلتفت القوم المنشغلون بحروبهم الصغيرة إلى الشأن. ولكنهم التفتوا جداً إلى انتفاضة الكهرباء التي بدت مرشحة لاكتساب دينامية ذاتية متفلتة من حسابات المحاصصة. تلك هي المسألة.
وهنا، في هذه السيطرة على تفاصيل الحياة الداخلية، في تركيب آليات دقيقة لقنوات توزيع المنافع، (بعد تحويل الحياة في البلاد إلى نظام منافع متقاسم ولكنه قابل للتعديل)، وإلغاء مبدأ الحقوق، تكمن كل قوة وسطوة نظام المحاصصة، الذي سرعان ما يروح يبدو كنظام طبيعي، مثل الصيف والشتاء، أي مطابق لبنية موضوعية افتراضاً، بينما هو في حقيقة الأمر نظام مبني، وليس قدراً.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى