صفحات سورية

ثقافة الانتحار وليدة ثقافة الفساد

null
محمد فاروق الإمام
يوم التاسع والعشرون من تموز الماضي نشرت جريدة القدس العربي خبراً لفت انتباهي تحت عنوان: (انتحار مسؤول نقابي سوري في حمص)، ويقول الخبر أن (رئيس الاتحاد المهني للصناعات النفطية في سورية عيسى الناعم أقدم صباح الأربعاء (28 تموز) على الانتحار بإطلاق النار على رأسه من مسدس حربي في ساحة مستشفى الوطني بمدينة حمص أمام المارة).
وتابعت الجريدة نقلاً عن موقع (عكس السير الإلكتروني) عن شهود قولهم: (إنهم سمعوا صوت طلق ناري داخل سيارة سوداء خاصة، ورأوا شخصاً ينزل منها وبيده مسدس ورأسه مغطى بالدماء).
وكشف مصدر فضل عدم الكشف عن اسمه أنه (عثر على رسالة بحوزة المنتحر تفيد بأنه قام بتسليف مبلغ 5 ملايين ليرة سورية لأحد الأشخاص من خزينة الاتحاد، وأن الأخير رفض إعادة المبلغ الأمر الذي دفعه للانتحار).
ثقافة الانتحار في بلدي سورية هي نتيجة ثقافة الفساد الإداري المستشري في إدارات ومؤسسات الدولة التي باتت ساحات مستباحة لحفنة من الموظفين اللصوص والسماسرة الذين يعبثون بأموال خزينة دوائرهم ويتاجرون بها ويسمسرون ويجنون الملايين على حساب نهضة الوطن وتقدمه وسير معاملات المواطنين وتسهيل شؤون حياتهم، هذه الثقافة لم تكن وليدة الصدفة بل هي عملية مدروسة ومقننة اتبعها النظام السوري منذ سنين طويلة تعود إلى ما قبل السبعينيات وتجذرت بعد السبعينيات، ولا أقول هذا الكلام تحاملاً على النظام فقد خبرته كموظف في الدولة لأكثر من خمسة عشر عاماً وعايشت أساليب الفساد وطرقه المقننة، وأنا هنا أذكر على سبيل المثال لا الحصر حالتين فريدتين من الإفساد المقنن والمخطط له والمدروس.
في عام 1973-1974 تقدم الرئيس الراحل حافظ الأسد بمشروع زيادة رواتب الموظفين بنسبة 100% لتوازي هذه الزيادة تصاعد الأسعار وجنون ارتفاعها وانخفاض القيمة الشرائية لليرة السورية لدراسته من قبل الوزارة، وكان لنائب رئيس الوزراء ووزير الخدمات آنذاك السيد (محمد حيدر) الرأي الفصل في ذلك الأمر، حيث وقف ضد زيادة مليم واحد للموظفين تحت حجة أنه هناك من بين الموظفين المليون (عشرون ألف موظف حمار/كما قال حرفياً) لا يعرفون كيف يتدبرون أمورهم (يقصد الموظفين الذين لا يرتشون) فليس من المعقول أن نحمل خزينة الدولة ملايين الليرات السورية زيادة عن طاقتها لتذهب لهؤلاء الموظفين المليون.. وبالفعل نجح في إقناع الأسد في إلغاء فكرة الزيادة من أساسها.
أما الحالة الثانية والتي كانت لا تقل خطراً عن الأولى إن لم تكن تفوقها، عندما اتخذ الرئيس الراحل حافظ الأسد قراراً بمنح ضباط الجيش وضباط الأمن فرصة إدخال سيارة من خارج القطر وتسجيلها بدون أية رسوم جمركية عام (1976-1977)، من دون كل موظفي الدولة. وبالفعل تدفقت آلاف السيارات إلى القطر كان معظمها عن طريق لبنان والمنطقة الحرة، وبعضها مسروق من داخل سورية وخارجها، وغدا كل ضابط في الجيش والداخلية يمتلك سيارة فارهة حديثة دون أن يكلفه ذلك سوى بضعة آلاف يقل رقمها عن تعداد أصابع اليد الواحدة بحسب نوع السيارة وسنة الصنع، مفوتاً على خزينة الدولة مليارات الليرات كرسوم جمركية لو كان إدخال هذه السيارات بطريق نظامي عبر الدوائر الجمركية واستيفاء الرسوم – حسب القانون – عليها، وكان ذلك في وقت ممنوع إدخال السيارات إلى سورية، وهذا القرار غير المدروس جعل الموظفين الآخرين يفكرون باقتناء السيارات أسوة بزملائهم الضباط، فراحوا عن طريق الرشا والسرقة والنهب يمتلكون السيارات والبيوت والرياش، على مبدأ (ما في أحد أحسن من أحد) ويضيعون على الدولة مئات الملايين من الليرات السورية خدمة لأهوائهم، تحت بصر وسمع أهل الحكم الذين كانوا يحصلون على حصتهم من الرشا والمنهوبات دون تحمل أية مسؤولية، لقاء غضهم الطرف عما يقوم به هؤلاء الموظفون.
ثقافة الفساد هذه دفعت أمثال عيسى الناعم (ومن على شاكلته من الآلاف من الموظفين الفاسدين) لاستغلال منصبه والتفريط بالأمانة التي أوكلت إليه، دون رادع من دين أو ضمير، وقد تُخلي عنهما في بلدي سورية منذ أن وطئت أقدام المغامرين البعثيين سدة الحكم في الثامن من آذار عام 1963، وإبعاد وفصل ونفي الموظفين من أصحاب الأكف البيضاء، واستظلالهم بخيمة (المادة الثامنة) التي أدخلوها على الدستور لحمايتهم، والتي تقول: (حزب البعث هو القائد للوطن والموجه للمجتمع)!!
انتحار السيد عيسى الناعم لم يكن الأول لموظف فاسد تضج بأمثاله دوائر الدولة السورية ومؤسساتها، فقد سبقه المهندس محمود الزعبي رئيس الوزراء السوري الأسبق الذي انتحر في ظروف غامضة في آذار من عام 2000، وقيل في حينها أن انتحاره كان بسبب فساد مالي متورط به (على ذمة الرواية السورية الرسمية)، ثم انتحار وزير الداخلية اللواء غازي كنعان في تشرين الأول عام 2005.
ثقافة الانتحار هذه التي كانت وليدة ونتيجة للفساد الإداري، هي نتيجة حتمية لأي حكم استبدادي شمولي من لون واحد يرفض الآخر ويقصيه وينفيه ويبعده، ليمعن في الفساد لجني المال وسرقته بأساليب رخيصة، بعيداً عن القيم والمثل التي ميّزت الموظف السوري في عهود سابقة طويلة تحلى في ظلها بالنزاهة ونصاعة الكف والخوف من الله ومراقبة من الضمير والتفاني في العمل وحب الوطن ورفعته ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بعيداً عن المحسوبية أو التمييز أو الانتقائية، فالمعيار كان دائماً الأمانة والصدق والكفاءة، وكانت الرقابة الإعلامية الحرة المستقلة تلاحق الفاسدين والمفسدين وتفضحهم على صفحات الجرائد التي كانت العين والرقيب والمحاسب في دولة القانون والدستور والتعددية الحزبية والصحافة الحرة والفصل بين السلطات وعدم تغوّل أي سلطة على أي سلطة أخرى، والتنافس الأصيل فيما بينها لخدمة مصالح المواطنين ورفعة شأن الوطن وحمايته والذود عن حياضه، وقد افتقدنا كل ذلك بعد أن وقعت سورية بيد حزب شمولي واحد متفرد بالسلطة والقيادة، يصدر القوانين والمراسيم والقرارات لتمكين أفراده – بغض النظر عن الأهلية والكفاءة والسمعة – من تبؤ وظائف الدولة من رأس الهرم وحتى قواعده، ليستشري الفساد في الوطن ويرتع الفاسدون في أحضانه!!

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى