صفحات سورية

يوميات “القوقعة” الرهيبة

null
د.خالد الحروب
يتلذذ الجلادون في ساحة التنكيل المركزية في السجن الصحراوي بتعذيب مئات المساجين الذين يقضون سنين طوالاً من دون محاكمة. يطلبون منهم الركض في دائرة تحت شمس أغسطس القائظة وهم شبه عرايا منكسي الرؤوس، مغمضي العيون، والسياط تسلخ جلودهم المحمرَّة. يقهقه زملاؤه. ثم يطلب منه إكمال الدوران وتقليد صوت الزرافة. وخلال ذلك ينادي على أقصر المساجين طولاً للمثول بين يديه. يجر زبانية التعذيب هذا الأخير ويقف مرتعباً أمام الضابط.
يلتهم القارئ الصفحات التي تقترب من الأربعمائة في هذه الرواية/النص التي تصور جزءاً من تاريخ الأسود للاستبداد والعنف المشرقي. مرارة تجر إلى مرارة ووصف دقيق لـ”آليات” تعذيب، وإذلال، وإهانات، وتعرية للروح والجسد لا تخطر ببال الشياطين. بشاعة ما في النص المبدع تؤرخ لحقبة وتجربة حقيقية مرّ بها عشرات الألوف من الشباب العرب وهم في ريعان عمرهم. أطباء ومحامون ومهندسون ومثقفون كان يُطلب منهم الانبطاح تحت وابل السياط الملعونة التي تأكل من أجسادهم ليشربوا مياه بالوعات المجاري المفتوحة. عدد من الذين رفضوا الانصياع للأمر تمزقت أجسادهم تحت التعذيب وماتوا. يُرصون في الزنازين كالحيوانات، ويخنقون في روائح العرق، والدم النازف. مئات منهم انتهوا بإعاقات دائمة، فقدوا البصر أو السمع، أو أصيبوا بالشلل التام.
رواية، أو يوميات “القوقعة” للسوري مصطفى خليفة الصادرة عن “دار الآداب” تكاد تتجاوز رائعتي عبدالرحمن منيف “شرق المتوسط” و”شرق المتوسط مرة أخرى”، على ما مثلتاه من ذرى التوصيف الروائي للتعذيب والتفنن فيه. لا يهم هنا كثيراً أن تنطبق خصائص الصنعة الروائية على النص الذي بين أيدينا، فالكاتب لم يكن يوماً ما روائيّاً، ولا هو يريد تقديم رواية بالمعنى والتعريف التقني. هو يريد نقل ما شهدته عيناه وحفظه عقله خلال سنوات السجن “متلصصاً” على الجحيم الذي كان يواجهه ألوف السجناء. وأهمية النص الفائقة تكمن في أن شخوصه وضحاياه وجلاديه حقيقيون. وليست ثمة استعارة هنا، ولا بناء شخصيات درامية أو حبكات. فالواقع أكثف من كل ذلك بكثير… وصادم أكثر من أي جنوح خيال.
بطل النص، أي الكاتب، مخرج سينمائي شاب عاد إلى بلده بعد استكمال دراسته في فرنسا يشده الشوق والحنين، والرغبة في إعادة اكتشاف الوطن بعين الكاميرا. ولكن ما أن تطأ قدماه المطار حتى تبدأ الكارثة، إذ يعتقله رجال الأمن بزعم كونه خطراً على النظام، إذ كتب فيه أحد المخبرين تقريراً بأنه تطاول على الحكم وهو في الغربة، ومن لحظتها تشرع في وجهه بوابات الجحيم والتعذيب الذي يخلع القلوب. ولا وقت للتحقق من قصته فيضم سريعاً، وهو المسيحي والملحد، إلى المساجين الأصوليين المسلمين، ويقضي سنوات سجنه الطويل معهم.
وينزوي في “قوقعته” التي يبنيها حول نفسه، جدارها الأول ينتصب بينه وبين سجانيه الذين يحتقرونه لكل الأسباب، وجدارها الثاني مع زملائه في السجن الذين يحتقرونه لإلحاده ويتوعده متعصبوهم بإقامة الحد عليه وقتله. قوقعته بطانية يضعها فوق رأسه كخيمة صغيرة طوال الوقت مدعيّاً الجنون. وكان موقعه في مهجع السجن الممتلئ بعشرات السجناء محاذيّاً للجدار القريب من الباب. وفي يوم ما صفَقَ أحد السجانين الباب بغضب وقوة فسقطت من جانب الباب الحديدي قطعة اسمنتية صغيرة أحدثت ثقباً يطل على ساحة السجن المركزية حيث حفلات التعذيب، وحيث تقام المحاكمات العسكرية السريعة، وتنفذ الإعدامات. ومن ذلك الثقب سجل “المتلصص” في ذاكرته الدقيقة أهوال قيامة الاستبداد وساديته. إذ كان يغطي رأسه ويتجه نحو الحائط مغطياً الثقب أيضاً، قاتلا يومه في المراقبة المرعبة.
بين الفترة والأخرى تأتي طائرة هيلوكبتر، يسميها السجناء “طائر الموت”، تحمل فريق المحكمة العسكرية وقوائم من يُراد محاكمتهم. تتم كل الإجراءات في الساحة والمتلصص يراقب. يراقب كيف تنجز كل محاكمة خلال دقائق، وكيف يكون الحكم الوحيد هو الإعدام، ثم التنفيذ فوراً. هناك مشانق جاهزة تجر إلى الساحة حيث يقف المحكوم عليهم بالإعدام، وعوض رفعهم للمشانق يتم حني المشانق باتجاه رؤوسهم وإحاطتها بالحبال، ثم يعيد الزبانية وضع المشانق إلى وضعها العمودي فترفع المشنوقين الذين يترنحون ويصرخون إلى أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة. وهناك من كانوا سيئي حظ تطول مدة شنقهم وترنحهم قبل أن يموتوا، فيعمد واحد من الزبانية إلى شدهم من أرجلهم إلى أسفل لمساعدة حبل المشنقة على القيام بدوره.
إن فداحة نص “القوقعة” وتفاصيله المذهلة تكمن في كونه سرداً ليوميات حقيقية أتيح لصاحبها أن يرى الحياة ثانية خارج السجن. ومع آخر صفحة، أو صفعة، من صفحات هذه الشهادة القاتمة تهجم على القارئ آلاف الأسئلة: لماذا، وكيف يخرج بعض البشر إلى درجات سادية تتجاوز التخيل ضد أبناء شعبهم، أو حتى أي بشر آخرين؟ ألم يكن بالإمكان الاكتفاء بالسجن الطويل؟ لماذا الإصرار على تحويل الأفراد إلى حطام من الكراهية، والحقد، والتشظي التام، والرغبة في الانتحار، والنقمة على كل شيء له علاقة بالوطن؟ مصطفى ودع باريس التي كانت تفتح ذراعيها له وتعده بمستقبل مشرق كي يعود إلى بلد حن إليه وعشق رائحته. لكنه عندما خرج من السجن الرهيب كان قد غرق في “قوقعته” إلى الأبد. أماتوا فيه الإنسان والروح والرغبة في الحياة. وفي الصفحة الأخيرة من سردية الحزن والمرارة هذه يقول: “قضيت هناك داخل قوقعتي في السجن الصحراوي آلاف الليالي أستحضر وأستحلب المئات من أحلام اليقظة. كنت أمني النفس بأنه إذا قيض لي أن أخرج من جهنم هذه، سوف أعيش حياتي طولا وعرضاً وسأحقق كل هذه الأحلام التي راودتني هناك. الآن ها وقد مضى عام كامل (على الإفراج)، لا رغبة لديّ في عمل شيء مطلقاً. أرى أن كل ما يحيط بي هو فقط: الوضاعة والخسة… والغثاثة!”

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. الإخوان المسلمون – من أشرف وأنقى الحركات الإسلامية في القرن العشرين ولازالت كذلك ! وإذا حصل منهابعض الأخطاء فهي نتيجة الظلم والجور الشديد على هذه الجماعة – أضرب لكم مثلين مما يسمى أخطاء الإخوان في عام 1948 وبينما كان الإخوان منهمكين في حرب فلسطين يقاتلون اليهود – بينما كانت الجيوش العربية تلعب على أرض فلسطين وتساعد في تهجير أهلها – أمرت بريطانيا الملك فاروق بأن يخلّصها من هذه الجماعة فأوعز لرئيس وزرائه النقراشي بتنفيذ الأمر البريطاني – فقام بحملة اعتقالات في صفوف الجماعة في مصر وعلى أرض فلسطين بعد الهدنة حيث جمع مجاهدي الإخوان في سجن بغزة – والمرشد يقول لهم اصبروا ولا تأتوا بحركة ولكن شاباً من شباب الإخوان لم يستطع الصبر فقام باغتيال النقراشي بتصرف خاص منه – وأعلن المرشد وأقسم الأيمان وهو صادق أنه لم يأمر ولم يرض بذلك – ولكن1953 الملك الخائن فاروق أرسل زبانيته واغتالوا المرشد الشهيد ظلماً و إرضاءاً للإنجليز – في طلب السفير البريطاني في مصر مقابلة المرشد – فما كان من المرشد إلا أن أخبر جمال عبدالناصر بهذ الطلب فقال له : وماله شوف شو عايز وقابلوا السفير وأصروا على طلب الجلاء الكامل عن مصر مما ساعد عبدالناصر في مفاوضات الجلاء وعندما اختلف الإخوان مع جمال على أسلوب حكم مصر قلب لهم ظهر المجن ودبر مسرحية حادثة المنشية ونشر صورة مقابلة المرشد والسفير البريطاني – على أن الإخوان هم عملاء للإنجليز وقام بتكملة مافعله الملك فاروق بالقضاء على الجماعة – هذه هي جماعة الإخوان المسلمين المظلومة والمفترى عليها – وأنا أطالب المثقفين العرب بدراسة تاريخ الجماعة دراسة أكاديمية محايدة وليس من منظور إيديولوجي منحاز – ليرو كم هي مظلومة هذه الجماعة – وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

  2. أما في سوريا فقد بدأت سلطة حزب البعث التي اغتصبت السلطة في عام 1963 بانقلاب عسكري – بدأت حكومة البعث التحرش بجماعة الإخوان المسلمين منذ تسلمها للحكم وذلك في المدارس – ونقل المدرسين الإسلاميين إلى دوائر الدولة غير التعليمية – وكذلك اعتقالات على الخفيف لرجال الصف الأول للجماعة – اعتقالات وإفراجات – خرج الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى ومعه مراقب عام الجماعة عصام العطار عام 1964 للحج وعند عودتهم نم حجزهم في جوازات درعا لعدة أيام – ثم طلب منهم المغادرة إلى أي مكان فليس مسموحاً لهم بدخول سوريا !! عجيب كيف يمنع إنسان من دخول بلده ؟؟ وبدون ذنب – وفي عام 1965 استمعنا إلى بيان من الإذاعة والتلفزين السوري بصوت السيد محمد الزعبي الذي كان وزيراً للإعلام في حكومة أمين الحافظ – بيان بإسم المنطلقات النظرية لثورة الثامن من آذار وكان بياناً طويلاً جداً لم ينفذ من غير بند واحد فقط وهو تصميم الثورة على القضاء على ( الحركات الرجعية ) في سوريا – والمقصود طبعاً الإخوان المسلمين – ولكن عملية الصراع على الحكم داخل النظام هي التي أخرت ضرب الجماعة ثم كارثة حزيران 67 ثم (الحركة التصحيخية) ثم مهزلة حرب تشرين – وبعد أن استتب أمر الحكم لوزير دفاع تكسة حزيران – الذي ترقى ألى رئيس للجمهرية بدل أن ينزوي في بيته – بدأ التحرش الفعلي بالجماعة اعتقالات وسجون وتعذيب – والجماعة قررت الصبر -ولكن بعض الشباب خرجوا عن طوع الجماعة وبدأوا بمقاومة الدولة – وكانت الفرصة التي ينتظرها حافظ الأسد – وبدأت أجهزة المخابرات بافتعال العمليات التفجيرية لإعطاء المبرر للفتك بالجماعة ورغم أن الجماعة أصدرت عدة بيانات بأن ليس لها علاقة بهذه الآعمال إلا أن التظام المصمم على الفتك بالجماعة لم يلتفت لهذه البيانات بل أخذ يعتقل كل من له صلة بالجماعة وازداد التعذيب والإعدامات بغير محاكمة – وأصيحت الجماعة في دوامة – مما أدى بعدد من أفراد الجماعة للإنخراط بالعمل العسكري دفاعاً عن النفس – وهرب الألوف خارج سوريا ثم صدر القانون 49 ليحكم بالإعدام على كل من له صلة بالجماعة – والآن ترون لايسمح بعودة أحد حتى أولئك الذين ولدوا خارج سوريا وصار عمرهم 30 عاماً ولايعرفون بلدهم – لن يسمح لأحد بالعودة إلى سوريا لأنهم سيكونون نواة الجماعة من جديد ولا يجوز ذلك بقانون الخط الأحمر الذي وضعته الهيمنة الأمروصهيونية – لن يسمح لهم بالعودة أبداً !! وأعود فأطالب كل المثقفين والحقوقيين العرب بدراسة ماجرى في سوريا دراسة أكاديمية محايدة وليس من منظور إيديولوجي أو وجهة نظر مسبقة — ياأمتي العربية أفيقي من سباتك وسكوتك على حكام باعوا البلاد والعباد – أضاعوا الأرض والعرض – وأنت ترقصين لهم كالطير يرقص مذبوحاً من الألم —

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى