الفـــوات
عباس بيضون
أنتبه وأنا أتصفح «من يصنع الديكتاتور صدام نموذجاً» لسالم عبود، الى هذا القانون الذي لم ينل منا عناية كافية نحن غير العراقيين، قانون «اجتثاث البعث». اذا لوينا عما في لفظة اجتثاث «من عنف غير عادي، فإننا نفهم أن اجتثاث البعث» معادل عراقي أعنف لفظيا لـ«نزع النازية» الالماني. للأمر سابقة بل سوابق، وعليه فإنه لا يفاجئ. جبل الجرائم الذي كانه البعث يستدعي مثل هذا التحريم، مع ذلك لم يسر القانون بمثل ما سار نزع النازية واحتاج الى إعادة تقويم وإعادة تفسير بل إعادة صياغة. الجديد علينا في اجتثاث البعث هو أنها المرة الاولى في تاريخنا الثقافي التي نقضي فيها على فكر ما بالفوات، لطالما اتهمت أفكار لكن الحكم عليها بالفوات ومعاملتها كما لو كانت وباء ينبغي الاحتياط لعودته جديد علينا، نفهم من نزع النازية بوضوح حكما على عقيدة واضحة، العنصرية ركيزتها، فماذا نفهم من «اجتثاث البعث»، خاصة حينما يقرن البعث بفكره، فيقال ايضا التطهير من «فكر البعث». ما هو اذا فكر البعث الذي حكم عليه القانون بالفوات واعتبره «قانونيا» مغلوطا ومضرا. لعل السؤال الذي ينبغي علي طرحه على القانون هو ما هو الفكر البعثي وهل يمكن فرزه من منظومة الافكار المتداولة والحكم عليه بالفوات والخطأ. ما الذي يمكن اعتباره مفروغا من تغليطه وما أخرج من نطاق الافكار وعومل معاملة الجناية والاعتداء في «فكر البعث». علينا أن نعرف اولا ما هو فكر البعث، هل هو ذلك الكلام عن رسالة الأمة العربية «الخالدة» ووحدتها وعزها وتاريخها المجيد المقترن بالإسلام، والاعتداء الاستعماري الغربي عليها وتآمر الشعوبيين وحاجتها الى استعادة نهضتها ومجدها. اذا كان هذا الكلام موصوما فهو ليس وقفا على البعث، وانما هو رقعة يشترك فيها الكثيرون. ولا نبالغ اذا قلنا انه قد يكون ما سماه عبد الله العروي ذات يوم «الايديولوجيا العربية المعاصرة». وعليه فإن للبعث فيه حظاً لكنه سائد متداول وقلما نسمع خطبه أو نقرأ صحيفة بدون أن نجد ظلاً منه أو قبسا، أما اذا كان المقصود بـ«فكر البعث» الممارسة الصدامية، الاستيلاء على الدولة والحزب واحتكار الحياة العامة، وتسليم الدولة الى نواة عائلية، وإقامة السلطة على منطق الحرب الدائمة، وكره الأغراب من عجم وغربيين والريبة بالجميع، ناهيك بالطبع عن جبل الجرائم والقمع الضاري، هذه ايضا ليست وقفا على صدام، وليس الوحيد الذي اختطها ولا هو الاول وإن كان تفوق فيها. انها ايضا ليست «فكر البعث» أو ممارسته، بل هي ايضا فكر العرب وممارستهم السياسية، ولسنا نجد بلداً ولا نظاماً بريئاً منها، إنه احتكار الدولة والسياسة. والنواة العائلية ومنطق الحرب الدائمة (في الداخل والخارج) وكره الأغراب والريبة في الأجانب وجبل الجرائم، نفسها في كل مكان، اذا كان هناك من فارق فهو غالبا إجرائي، انه في توقيت العنف ويافطة الاحتكار وأسماء الأغراب، لكن المبدأ واحد. لن نتكلم هنا، كما هو شائع، عن النظام العربي الواحد، فهذه التسمية تركز غالبا على الوحدة أكثر من تركيزها على السياسة والنظام، لكن الواضح أنها السياسة العربية المعاصرة، وعليه فإننا لا نعرف مــاذا نجــتثّ اذا كان ما نحسبه «فكراً للبعث» هو فكـر الجميع. يستوي في ذلك حلفاء البــعث أو خصــومه، اذ لا عبرة عند ذلك بالخــصومة، وهي في الغالب تثبت قرابة لا تثبــتها الصداقــة.
اذاً ما الذي فات من «فكر البعث» حتى نعتبره قابلا للاجتثاث ونخرجه، بذلك، من التداول، أليس هو تقريبا فكر المجتثين أنفسهم، وما الذي يفرّق الأحزاب العراقية الحاكمة اليوم عن «فكر« البعث هذا، إنها جميعها تقريبا مثل البعث ذات فكر توتاليتاري، لا أظن أن حزب الدعوة أو جيش المهدي أو فيلق بدر ذات فكر مختلف، لا أظن أن لها رأيا آخر في الدولة أو السياسة أو الأغراب والأجانب، ولا أظن أن لها رأيا آخر في الأمة ورسالتها، ولو بعناوين اخرى. ولا نظرا آخر في الماضي المجيد ولا دعوة اخرى الى العودة الى السلف ولا ميلا آخر الى اتهام الاستعمار وتحميله كامل المسؤولية عن التردي الحالي، لا أظن أن بين الأحزاب الحاكمة الكردية أو العربية الأساسية من لا تحكمه نواة عائلية أو نواة قبلية مماثلة لها. لست بالطبع أقيم تماثلا بين الحكم الصدامي والحكم الحالي، وأنا بالعكس، أرتاب في كل دعوى تماثل كهذه، وأظن أنها في القرارة عدمية وأنها في القرارة، ليست تزكية للحكم الصدامي فحسب، لكن تزكية لكل السلفيات، وأرتاب فيها وأظن أنها ذات أفق انتحاري فحسب. أجد رغم كل شيء، فارقا بين الحكم الصدامي والنظام الحالي. لا أحمل هذا النظام جرائم القاعدة بالطبع ولا أحاسبه على الإرهاب ولا أحوّل النتائج التي انتهى إليها الوضع العراقي الى مقومات وأسباب له، فأقول مثــلا إن غايتــه الحــرب الاهــلية وتفكيك العراق. ذلك منطق لا أحبذه، لكن ما سمي «فكـر البعث» لا يخصه وحده، ولا أشــك في أن هــذا «الفـكر» فــاش وذو عموم في العراق وغير العراق.
لو نظرنا الى الحرب اللبنانية الماضية والمستمرة، فكيف يمكننا أن نفهم «اجتثاث البعث». في الحرب اللبنانية لا نتكلم عن المصالحة إلا بلغة الاجتثاث. يعلم كل اتجاه أن لا قيام له إلا بدحر الآخر. المصالحة لا أساس لها، إنها مزج مستحيل بين الزيت والماء، لكن التعليق أو التعطيل باسم آخر هو الممكن. والى أن نصل الى حل، فإن كل طرف يتكلم عن الآخر على انه في ذمة التاريخ. القوات اللبنانية في نظر حزب الله مسخ تاريخي، وحزب الله في نظر القوات اللبنانية وأطراف اخرى سواها شبح تاريخي، وليس تيار المستقبل والقوى الاخرى في 14 آذار، من وجهة نظر ميشال عون، سوى مخلفات من الماضي. الفوات التاريخي هو ما يرى كل طرف لبنان أنه سمة الآخر وحاله. الاجتثاث، على أي وجه كان، هو دعوى كل طرف اتجاه الآخر. لغة النقاش تفصح عن ذلك وبألفاظ عسكرية أحيانا، مع ذلك الجميع على الطاولة، الجميع موجودون في اللحظة، والجميع يدعون الى حوار لا نعلم كم سيكون في الحقائق حوار أطياف، حوار أشباح ومسوخ، حوار في الفوات ان الصراع هو على الجثة، ولا بد أن يخرج في نهاية الامر من يقول انه وحده مكلف بالحاضر، وان الجميع ذهبوا الى رحمة الماضي.