سوريا أمام منعطف جديد ..
بدر الدين شنن
لم تقتصر نتائج مؤتمر الدوحة في إوائل أيار الماضي ، من حيث أنها انعكاس لحالة إقليمية جديدة ، على لبنان وحسب ، وإنما امتدت كما هو لافت ، لتؤثر على ا شتباك الداخل السوري بين المعارضة والنظام أيضاً . ولاغلو في القول ، أن الحالة السورية ما بعد مؤتمر الدوحة سوف تتجه نحو منعطف جديد يختلف عما كانت عليه قبله . إذ تظهر تداعيات الأيام المتسارعة بعده ، وخاصة عودة النظام السوري إلى طاولة المفاوضات مع إ سرائيل حول الجولان ، أن النظام ا ستطاع أن يوظف هذه النتائج لصالحه . وحقق اختراقاً ملحوظاً للعزلة الدولية الخارجية ، التي كان يعاني منها سياسياً واقتصادياً إلى حد كبير ، وأن المعارضة باستطاعتها أن توظف هذه النتائج ، وإن لم تكن بالقدر ذاته ، لصالحها أيضاً . سيما إذا أغنت خطابها السياسي ببعد اجتماعي يعالج الأزمات المعيشية في البلاد ، ويعد بصدق الطبقات الشعبية بمستقبل أكثر عدالة في البناء الوطني الديمقراطي المقبل ، وإذا صوبت خياراتها وآليات صراعهامع النظام حول دور الخارج ، الذي كانت تعول عليه، بهذا المستوى أوذاك في تحقيق أهدافها .
في ضوء ذلك يحق القول ، أن نتائج مؤتمر الدوحة ، وإن لم تدخل مؤثراتها مباشرة .. وليس هذا من مجالا تها المحددة بلبنان أصلاً .. في العمق الداخلي السوري ، لكنها أسهمت بإعطاء الأزمة السورية الشاملة ، أزمة الحرية والديمقراطية وتفكيك الاستبداد بوجهيه السياسي والاقتصادي ، وأزمة بنية الدولة ، التي شوهتها الصلاحيات العرفية الطوارئية الممنوحة للأجهزة الأمنية ، وأزمة البنية الاجتماعية ، التي حرفتها عن مساراتها ، وفقاً لقوانين تطور المجتمع الموضوعية ، الامتيازات السياسية والاقتصادية التي ا ستحوذ عليها أهل الحكم بالقوة ، والتي تتكثف الآن بالاعتقالات المتواصلة والمحاكمات التعسفية لحملة الرأي ، وبالعمل الدؤوب لفرض اقتصاد السوق ( مع ملاحقه ، الخصخصة ، ورفع الدعم عن المواد المعيشية والتموينية ، والانخراط في التجارة العالمية الحرة ) التابع لاقتصاد السوق الدولي ، الذي يغرق العالم بالدماء والجوع والديون والبؤس القاتل ، أ سهمت في إعطاء الأزمة آفاقاً جديدة أكثر وضوحاً ، وإعطاء المعارضة المتحررة من ” تهم ” التعاون مع الخارج الجزافية ، مصداقية أكثر انفتاحاً على النجاح .
بمعنى ، أن الصراعات من أجل التحرر من الاستبداد السياسي والاقتصادي ما زالت قائمة على أ شدها ، وهي تستدعي المزيد من المعارضة والمعارضين . بل واكتسبت مضامينها وأبعادها ، ما بعد الخيبة المتوقعة من مفاعيل التحقيق الدولي في قضية اغتيال ” الحريري ” ، وما بعد انحسار المشروع الأميركي في الشرق الأوسط ، الذي حض على الاعتماد على دور الخارج المخادع في التغيير ، اكتسبت وضوحاً أكثر من أي وقت مضى ، في أنها ليست مجرد صراعات لانتقال السلطة من طرف سلطوي إلى طرف سلطوي آخر ، بل هي في الأساس تغيير جدي مغاير في التطور الاقتصادي والاجتماعي يطابقه غطاء سياسي ديمقراطي لايقتصر على تحقيق مصالح أقلية سلطوية ومن يدور في فلكها مرة أخرى ، وإنما يخدم مصالح المجتمع كله ، وفي أنها أكبر من أن تتمكن النخب السياسية والثقافية لوحدها من احتوائها وتأدية مهامها حتى خواتمها ، فهي تحتاج إلى طاقات شعبية جماهيرية عريضة .
وعلى ذلك ، فقد أصبح من الضرورة بمكان ، إعادة النظر في النقاش حول معادلة داخل / خارج في التغيير ، الذي خرج في مرات غير قليلة عن سياقه المبدئي ، حيث راحت تصول وتجول ، تحت عناوين متعددة ، مفاهيم ومقولات ومبررات الرهان على الخارج ، عبر ” مشروعية العولمة الرأسمالية الخالدة .. !! . ” بل وتجاوز بعضها القيم والمصالح الوطنية بشرعنة التدخل الخارجي المباشر . وفي التزامن مع هذه الطروحات ، حلقت من أطراف أخرى طروحات ” فكرية ” انسجاماً مع رياح العولمة إيّاها ، حول مسائل الليبرالية ، السياسية ، والاقتصادية ، والفكرية ، وحول ارتباط هذه ” الليبراليات ” ببعضها أو ا ستقلالها عن بعضها البعض ، وحول علاقة الليبرالية بالديمقراطية وأي منها كانت البادئة قبل الأخرى ، وحول صلاحية هذا الشكل من الليبرالية هناك وعدم صلاحيته هنا ، متجاوزة الواقع المعاش واحتياجاته السياسية والثقافية العضوية المعبرة عنه بصدق ، في وقت يئن فيه الملايين من شعبنا من الجوع ومن القهر الاقتصادي ومن الذل الأمني .
واللافت في هذه الأجواء ، أن القوى التي تعلن إلتزامها بالتغيير الوطني الديمقراطي لم تقم ، طوال سنوات الربيع والشتاء في حراكها ، بأي حركة أو اعتصام ضد الغلاء .. وضد الجوع الزاحف .. أو دعماً لمطلب شعبي أو عمالي .. ولم تطرح أطراً نقابية أو غيرها لمتابعة الأحوال المعيشية البالغة السوء في أوساط العمال والفلاحين والفقراء في الأحياء الشعبية في المدن . ولم تهتم منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان ، إلاّ بالنذر القليل ، بالبطالة ورغيف خبز المواطنين .. أي بحقوق الإنسان بالعمل والغذاء التي هي جزء لايتجزأ من حقوق الإنسان .
ولذا ، فقد بات من الضرورة بمكان أيضاً ، العمل على تجنيد كل الطاقات السياسية والثقافية الملتزمة بصدق بالتغيير الوطني الديمقراطي ، لفتح نقاش بناء نوعي يتفهم بعمق هموم الداخل .. ليس هموم المثقفين المشروعة المتعلقة بحرية الرأي والتعبير وحسب ، وإنما هموم الناس في المجتمع المقهور المجوع .. وفهم ظروفهم القاسية المأزومة ، والتعبير عن مطالبهم وآمالهم أيضاً .. وأيضاَ . وذلك لملاقاة ا ستحقاقات المنعطف الجديد الذي بدأت خطواته ترتسم على الأرض ، ولفتح مرحلة جماهيرية جديدة في الحراك الوطني الديمقراطي ، التي هي وحدها تملك إمكانية تحقيق الخواتم الناجحة .. وتملك مفاتيح المستقبل .
ما يمكن قوله بإيجاز ، هو أن الرهان الملتبس .. غير المأسوف عليه .. على دور الخارج ، لإنجاز مهام التغيير بالوكالة .. قد سقط . وأصبح الرهان في المشهد المعارض مفتوحاً فقط على دور الشعب ، المعتمد على دعم قوى الحرية والإنسانية ، غير الرسمية ، المساندة لقضايا الشعوب العادلة ، لكنه أكثر اعتماداً على أصالته ووطنيته ومصداقيته الديمقراطية الاجتماعية . ما مفاده ، أن انحسار التعويل على الخارج صانع الإرتباك والسجال الملتبس والانقسام في صفوف المعارضة ، قد أزاح من التداول ، ما كان بالنسبة للبعض بسبب سطوة القمع والإحساس بالضعف الذاتي ، أو كان بالنسبة للبعض الآخر ” أدلوجة ” لبرلة وعولمة ، يتعين أن يحل محله ، التعويل على الداخل على الشعب .
ولعل ما يجري في هذه الأيام من انتفاضات عمالية وشعبية في عدد من البلدان العربية مثال حي للخيار الجماهيري في نيل المطالب والتغيير . ففي المغرب العربي وتونس ومصر واليمن وغيرها ، تتوالى الإضرابات والتظاهرات متحدية أنظمة القمع ، وتنتزع الحركات الشعبية والعمالية مشروعيتها من مطالبها المشروعة .
إن الحركة العمالية في المغرب العربي تقدم ، في حالة الركود العربي العام الراهنة ، مثالاً رائعاً في النضال المطلبي والسياسي .
وكذلك الحال في مصر ، حيث تشهد المدن المصرية الكبيرة منذ أشهر إضرابات عمالية وشعبية متواصلة وتسجل انتصارات .
ورداً على هجوم الاحتكارات الكبرى العابرة للقارات في صناعة الأسلحة والطاقة والأغذية ، التي أحدثت كوارث الحروب الدموية ورفعت الأسعار العالمية ونشرت مآسي الجوع الجماعي .. بدأت حركات الجياع والمقهورين تنهض وتتسع .. وتعمد بالدم نضالها الشجاع من أجل الرغيف والحرية .. وتربط الرهانات بالثوابت وليس العكس ..
الجوار المتمدن