“الدراسات ما بعد الكولونيالية” على محكّ المجتمعات المستعمرة وتواريخها
وضاح شرارة
بينما تنسب تيارات سياسية واجتماعية عريضة إنجازاتها و”معجزاتها”، على قول علي أكبر هاشمي رفسنجاني، من “انتفاضات” وحركات “تحرر” و”تحرير” و”مقاومات” و”ممانعات” واستقلالات إلى نفسها، أي إلى “تاريخها” و”تراثها” و”أنسابها” و”سلفها” و”دينها” تنسب إخفاقاتها وكبواتها ونبواتها وعثراتها، إذا أقرت بها، إلى الاستعمار، ومخارج حروفه السود كلها. والاستعمار هذا، شأن الهوية، أي النفس على المعاني التي تقدم للتو إحصاء بعضها (التاريخ والتراث والأنساب…)، كيان ثابت لا يحول من حال إلى حال، ولا يؤرخ، شأن الشر، ولا تزول آثاره ولا تمحى ولا تبيد. وكل عثرة من العثرات هي أمارة على انبعاثه. والعثرة العَلَم هي انقسام “النفس”، وتصدع وحدتها البديعة، وتذررها (عصبيات) مذاهب وفرقاً وطوائف وبلاداً وعشائر وطبقات وأوطاناً وأحزاباً وتناقضات و”تناقضات” بين هذه جميعاً. ولا يحدس أثر الاستعمار، نحو سبعين عاماً بعد جلائه المادي عن بلاد عربية كثيرة، على نحو ما يحدس في “الاقتتال الأهلي”. ولا يحمل أمر على الأجنبي، وعلى ما ليس من شيم النفس ودواخلها وعاداتها، على نحو وقدر ما يحمل الاقتتال الداخلي، وانقسام الأهل على أنفسهم.
وعندما ترامى إلى أسماع الجمهور و “العلماء” أن ثمة، في بلاد الاستعمار والإمبريالية، من يحمل النفس المقتتلة والمنقسمة على نتاج الاستعمار والإمبريالية، وفعلهما اللئيم والكريه، حتى انقشعت الغمة عن الصدور والعقول. وقر فيها، أو في شطر منها، أن معالجة الأمر ومداواته الناجعة تقتضي شق النفس على نفسها، وتطهيرها من شقها الموبوء والمصنوع بيد الاستعمار، واستخلاص نفس من صنع داخلي خالص. ويدعو هذا، بديهة، إلى قتال “العدو القريب”، ظل العدو البعيد والصارخ العداوة. ولا ينتهي القول إلى أن أسامة بن لادن قرأ “استشراق” إدوارد سعيد الفلسطيني الأميركي، وأحد أقطاب “الدراسات ما بعد الكولونيالية”، ولا إلى أن مناقشات الإخوانيين المصريين، وقبلهم السوريين والفلسطينيين، وقبلهم جميعاً المقالات القومية المشرقية تدين للجامعي الفلسطيني ببعض شفرات سلاحها أو احتجاجها أو مقالاتها.
ولكن القول يصل بعض كتابات الجامعي الفلسطيني الأميركي وأقرانه الكثر بحركات دعوات سابقة تحدرت منها منظمات ومبادرات وأعمال تملأ “الساحات” العربية والإسلامية قتلاً ودعاوى وتعبئة، وتمعن في الناس تقطيعاً، وفي الأذهان والألسنة التواءً واعوجاجاً.
والحق أن الرسم هذا، وهو رسم اجتماع و”سياسة” ومقالات أو “أفكار”، كان ركناً من أركان “النهضة” الضعيفة التي ولدت في أحضان التوسع الاستعماري الغربي المباشر، ونزاع الإمبراطوريات. واستعارت “النهضة” المفترضة رسومها من مباني القرابة والديانة الغالبة، ومن ثقافتيهما. ولا يزال وارثو “النهضة”، ومن يخالون أنفسهم “أبناء” أو “أولاد رفعت” (أو رفعة رافع الطهطاوي) على قول صحافي فرنسي معاصر، على “نقد” إرثهم الأعجف و “تفكيكه” و “تأريخه”. وهم يتوقعون انقلاب تراب التراث وغباره تبراً تنويرياً، فيجمع ذهب الأصالة العريقة إلى أنوار الحداثة والمعاصرة. وما يتبدد، في الأثناء، هو تاريخ الأفعال وما يصل بين ما يُخال تراثاً، وهو مولود في ثنايا الأفعال ومبانيها، وبين وقت الفعل أو أوقاته. وبينما يبدي “النقد”، أو “التفكيك” و”التأريخ”، ويعيد في نقد النقد وتفكيك التفكيك، لا إلى غاية، “يتواضع” باحثون غربيون منذ عقود، ويتدارسون الأفعال ومبانيها، وصرفها ونحوها وأنسابها، في مواضع بعينها، وأوقات دون أوقات. ومن هؤلاء جان فرنسوا بايار، الفرنسي. وآخر أعماله جردة في “الدراسات ما بعد الكولونيالية” (منشورات كارتالا، باريس 2010). وهو يراها “كارنفالاً أكاديمياً”، على قول عنوان عمله الفرعي.
[الصدع والعصبية
فغلبة فكرة “التراث الكولونيالي” على وجوه من الثقافة (الفرنسية) قادت بعض الباحثين في الاجتماعيات والمؤرخين إلى فحص الانقسام الاجتماعي، أو “الصدع الاجتماعي” الداخلي، في ضوء “الصدع الكولونيالي” وصوره السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافة الحادة والعنيفة. وافترض المؤرخون هؤلاء دوام الصدع واتصاله من دائرة المستعمرات إلى دوائر العلاقات داخل الحواضر، أو الدول الأمم المستعمرة، ومن الزمن الاستعماري إلى الحاضر والزمن المعاصر، “ما بعد الاستعماري” أو الكولونيالي. وانتخب الباحثون والمؤرخون، ومعهم ناشطون مناضلون، جاليات المهاجرين العرب والأفريقيين، من دون المهاجرين الآسيويين، موضوعاً يحقق فكرة الاتصال. ولا شك في ان اضطرابات الضواحي وأحزمة المدن الكبيرة، في 2005، جددت الموضوع وأحيته، وعرضته على الأنظار والملاحظة.
ويمتحن أصحاب “الدراسات ما بعد الكولونيالية”، على ما يسميها الجامعيون الأميركيون، التاريخ الوطني في ضوء التجربة الاستعمارية وصدعها، فيذهبون إلى أن الجمهورية، وحريتها ومساواتها، زعم في زعم وكذب ودعوى. فهي تشمل عموم البشر، وتنصب العموم، أو الجامع العام، ميزاناً على سبيل التمويه، آن تفرقهم مراتب وطبقات، وتعلي بعضهم فوق بعض، وتسلط بعضهم على بعض. وتسوغ الأمرين، العلو والتسلط، بمنطق “استعماري”، استئصالي وعنصري. ويتسع “التعليل” إلى تظاهرات الكليانية الأوروبية. فينسب النازية، وفرعها البيتاني (نسبة إلى المارشال بيتان) في فيشي، عاصمة الحكومة الفرنسية المتعاونة مع الاحتلال الألماني الهتلري في الحرب الثانية، إلى السيطرة على المستعمرات، وإدارة المستعمرات والداخل معاً.
وتتصل “الدراسات ما بعد الكولونيالية” بحركات الجماعات المقهورة التي عرَّفت نفسها وأحوالها بقهرها، شأن النساء والمثليين والمتحولين والأقليات القومية (الإثنية). وتضرب هذه الحركات بجذورها القريبة في العولمة المعاصرة واختباراتها السياسية والاجتماعية، وفي ماضيها الاستعماري المباشر أو الأبعد. ومن وقائع الماضي الاستعماري التي خلفت آثاراً عميقة في أحوال المستعمرين، وأولادهم، “عقود العمل” الشبيهة بالسخرة والرق في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتجارة الرقيق الأطلسية (من دون تجارة الرقيق الشرقية في المحيط الهادئ، من وادي النيل والصحراء، وكان تجارها من العرب). ومن وقائع هذا الماضي المعاصرة، وهي تتمة الماضي الماثلة، جاليات المهاجرين وشتاتهم وائتلافهم في مجتمع مدني عالمي، أو “اممي” مفترض.
ويدفع أحد أعلام “الفكر ما بعد الكولونيالي”، أشيل ميمبه الكامروني،على رغم تحفظه عن تماسك الفكر هذا، تهمة العصبية على أوروبا أو مناوأتها. ويحمل ولادة “ما بعد الكولونيالية”، وعموميتها العامة والجامعة، على التقاء أوروبا بالعوالم التي كانت، في أيام خالية، ممتلكاتها وفتوحها، وعلى تجارب الشتات الهندية والافريقية والكاريبية، إلى المداولات والمنتديات والمناقشات الثقافية في الجامعة الغربية على وجه الخصوص. ولكن المنزع العمومي والكوني غالباً (وسرعان) ما يسفر عن مقالات مدارها على الهوية. وعلى هذا، فقد تتماسك “الدراسات ما بعد الكولونيالية” أولاً بتهمة من لا يماشونها أو يوالونها، والإنكار عليهم. والحق ان فرص التهمة والإنكار وذرائعهما تتكاثر على قدر تكاثر موضوعات الدراسات واستحداثها. فهي تجند في موضوعاتها ومقهوريها الفلسطينيين، ضحايا القهر الاستعماري الصهيوني أو التمييز والفصل العنصريين، والعمال الأتراك في ألمانيا، وأقوام امبراطورية آل هابسبورغ النمساوية. ولا يدعوها إلى التحفظ إشكال “الاستعمار” الإسرائيلي المفترض وملابسته حركة قومية ووطنية تاريخية، ولا مغالطة إدخال تركيا في البلدان المستعمَرة وهي لم تستعمَر يوماً، ولا صفة “الحيازات” النمساوية وقربها من الشراكة على خلاف الممتلكات الألمانية الامبراطورية ثم النازية والفتوح العثمانية.
وعلى منوال تقريب موضوعات ومسائل متباعدة وخلط بعضها ببعض وتوحيدها في باب مشترك، تتناول “الدراسات ما بعد الكولونيالية” المجتمع الفرنسي في سياقة تناولها ضواحي بعض مدنه. فـ “تدينه” بالإقامة على سمات استعمارية تكوينية، وتندد بقهره وعنفه وإنكاره حقوقاً أقرتها قوانينه. ولكنها تخرج الضواحي من “المجتمع الفرنسي” ونطاقه، وتخصها، وتخص أهلها ومهاجريها بسمات ودواع ورسوم تميزهم وحدهم دون الجماعات الأخرى. وتتناول “الطبقة السياسية الفرنسية” على مثال واحد ومتماسك، وهي شتيت، ولا يجمعها رأي ولا مذهب في مسائل الضواحي والمهاجرين والإدارة المحلية و “الهوية” والتاريخ الوطنيين. وتنحي “الدراسات” العتيدة، على الجامعة، والتعليم العالي الجامعي، باللائمة، مغفلة منازعاتها الداخلية وكثرة مللها ونحلها في المسائل هذه، وفي غيرها.
[الإمبراطورية الدولة ـ الأمة
ولعل جِدَّة “الدراسات ما بعد الاستعمارية”، الأميركية والبريطانية في المرتبة الأولى، هي ربطها القهر الاستعماري بصور القهر والسيطرة في مضامير أخرى مثل “النوع” (الجنسي) على وجه الخصوص. واستظهرت، في صنيعها هذا، بأعمال أصحاب “النظرية الفرنسية” أو “فرنش ثيوري”، على ما يسميها الكتّاب والمدرّسون الأميركيون. ويلاحظ بعض الدارسين ان أعمال أصحاب “النظرية الفرنسية” أغفلت عامل الامبراطورية، أو السلطنة، ومثالها السياسي (على خلاف مثال الدولة الأمة وإطارها التاريخي الأوروبي)، في دراساتها ومن دراساتها. وتناول كتّاب ودارسون من أمثال فرانتزفانون وأوكتاف مانوني وجان بول سارتر إلى افريقيين “فرنسيين” في مقدمهم إيميه سيزير المارتينيكي وسنغور السنغالي الوجه الامبراطوري من نظام السيطرة السياسي والعسكري والاجتماعي. وعلى هذا، فزعم بعض أصحاب “الدراسات ما بعد الاستعمارية” الجدة والابتداء في هذا المضمار دعوى يعوزها السند. وكانت حنة أراندت البادئة في حمل الكُلِّيانية (الشمولية) على علل ومصادر ليست الامبريالية أضعفها شأناً ولا أقلها دلالة. وذهبت الفرنسية سيمون فاي، في أثناء الحرب الثانية، إلى ان الهتلرية هي ثمرة أو صورة إعمال مناهج الفتح والاستيلاء “الكولونيالية” في حكم القارة الأوروبية والبلدان التي يأهلها السكان البيض.
ولا يترتب على الملاحظة لا إنكار إسهام بعض “الدراسات” في جلاء وجوه من السيطرة الاستعمارية على المستعمرات، قبل تحررها واستقلالها وبعدهما، ولا إغفال دور التاريخ الاستعماري في بلورة بعض سمات العالم المعاصر في “الحواضر” و”الأطراف” المعولمة جميعاً. ويدعو الإقرار إلى فحص المقالات “ما بعد الاستعمارية” في واقعة الاستيلاء والتسلط والإدارة الكولونيالية العريضة، وروابط الواقعة بتواريخ الدول المستعمِرة الفاتحة ومجتمعاتها، وبتواريخ بلدان الفتوحات ومجتمعاتها، من ناحية، وفي علاقة عالم اليوم المعولم بالواقعة الاستعمارية ودورها في العولمة، من ناحية أخرى. ولعل أثمن ما في هذه الدراسات تناولها أحوال المستعمرات (السابقة) على وجه الهيمنة والغلبة، وتنبُّهها على فخ مفهومات تدير ظهرها للتاريخ، شأن مفهوم “المجتمع المدني”، ودعوتها إلى اعتبار مكانة “تاريخ الأمة”. وحملت هذه، أي التناول والتنبه والدعوة مؤرخين كثيرين “جدداً” على فحص التواريخ القومية والغائية (الموجَّهة صوب غايات) التي صبغت تناول سقوط السلطنة العثمانية والامبراطوريات النمساوية والروسية والكولونيالية (البريطانية والفرنسية والبلجيكية والهولندية)، و (حملتهم) على اطراح أو نقد الروايات القومية والغائية هذه.
فأبرزت أعمال متفرقة اتصال الدولة الأمة، ورسومها وهيئاتها، بالامبراطورية اتصالاً وثيقاً. وليس جائزاً، على هذا، فك مسألة الهيمنة في المستعمرات من مسألة صيغ الهيمنة الامبريالية في الحواضر. وأثبت المؤرخون، ومعظمهم لا يدين لـ “الدراسات” العتيدة بدين يذكر، أن “السلطنتين” العثمانية والنمساوية المجرية، والامبراطوريات الكولونيالية، انهارت وقضت جراء هزيمة عسكرية أو أزمة مالية ضريبية، واضطلعت العوامل الخارجية أو الظرفية في انهيارها بدور يفوق خطره خطر الحركات الوطنية والقومية الداخلية. وينبه هذا إلى المبالغات الذاتية والنرجسية التي لا تمنع الحركات هذه، أو “ولائدها” ومخلفاتها، نفسها منها، بل تماشيها وتسايرها وتغلو فيها. ومنذ خمسينات القرن العشرين، درست دوريات بريطانية وأميركية رائدة قيام أصحاب حركات الاحتجاج بأنفسهم، وابتكارهم معايير عمل ومناهج فعل وثقافة أخرجتهم من وصاية أهل القوة وولايتهم. وكان عمل إدوارد تومبسون “نشوء الطبقة العاملة البريطانية” (1963) علماً على نهج الدراسات هذا. وسبق النهج بعقود دراسات أحوال “الضعفاء” والموالي التابعين من أهل الاستتباع (على الضد من أهل السلطان).
وتنزع “الدراسات ما بعد الكولونيالية” في هذا المعرض إلى إغفال الأعمال والأفعال ووجوه الصنيع المتفرقة، وهذه تقتضي التقصي وفحص الأرشيف، وتميل إلى تعظيم مكانة المقالات والتصورات والتعقيب التأويلي المرسل عليها. ويقود الإغفال، من وجه آخر، أصحاب “الدراسات ما بعد الكولونيالية” إلى نصب مفهوم “الهوية” صنماً وجودياً وجوهرياً يحجر أحوال المجتمعات المتحدرة من البلدان المستعمَرة ماضياً. فتتصور المستعمَرة والعبودية في صورة مصير المستعمَر و”سيده” المحتوم. ويفضي هذا بدوره إلى صبغ المسألة الاجتماعية بصبغة مصيرية محتومة. فيذوَّب النزاع الاجتماعي، “الطبقي” على صور مخصوصة، في “العنصرية” المفترضة والمباشرة. وهذه سبق ان اختصرت “الدراسات” العلاقات الاجتماعية والسياسية، في الحواضر، فيها من غير بقية. ولا يسعف التذويب المزدوج في إخراج مسألة الرق أو العبودية من النطاق القومي الغالي وتحريفه المغرض، وفحصها في ضوء علاقات الاسترقاق الاجتماعية داخل المجتمعات التي فشا فيها الرق، شأن مجتمعات جنوب الصحراء الافريقية. فتقتصر معالجة مسألة الرق وتجارته على التنديد بالغرب، والطعن فيه، وتبرئة الداخل إلا من الانقياد للغرب و”العمالة” له.
[الأقنعة الاستعمارية
فتنتفي الصفة التاريخية من العلاقات السياسية والاجتماعية، على وجهيها الخارجي (الحواضر) والداخلي (المستعمرات). وتتحجر على ماهيات جوهرية وثابتة لا يطرأ عليها تغيير، ولا تعمل فيها حوادث، ولا معنى لها غير المعنى المتنزل من مثالاتها. وعلى هذا، فليس الانقلاب او الانتقال من الطور الاستعماري إلى الطور الذي خلفه وطواه انقلاباً، ولا انتقالاً “في” زمن ووقت أو حادثة. فالسيطرة والقهر على حالهما. وربما لم تبق المستعمرات وحدها مسرحهما. فكثرت مسارح وخشبات “حبكة” واحدة يعييها تبديل أقنعتها. وهذا ناجم عن حمل الواقعة أو الحال الكولونيالية (“الغربية”) على فرادة لا تشاطرها إياها صور السيطرة الامبريالية الأخرى. فتعطل الفرادة المفترضة المقارنات الجائزة، وتبطلها قبل محاولتها أو المباشرة فيها. والحق أنه لا سبيل إلى تدبر الواقعة الكولونيالية إلا من طريق إدراجها في جملة الوقائع الامبراطورية المتفرقة، ومقارنتها بها من غير تخصيص وإفراد يسدان الطريق على إحاطة جامعة بالوقائع جميعاً.
و”الدراسات ما بعد الكولونيالية” تسكت عن الفروق بين مستعمرات الاستيطان ومستعمرات الرق وضروب أخرى من المستعمرات. فلا يستعمَر الواحد (والواحدة) في مستعمرات البحر الكاريبي، أو في الهند، على نحو ثابت ولا يحول من الاستعمار. وهو ليس “ما بعد مستعمَر” على النحو نفسه. وقد تؤدي الظروف والملابسات إلى خلط “دولة الفتح”، العنيفة تعريفاً واضطراراً، بـ “الدولة الكولونيالية” المستتبة والمستقرة و “المعقلنة”، وإلى دمج الاحتلال الأول بالاحتلال الثاني الذي تغلب عليه دواع وموجبات اقتصادية وإدارية و “أخلاقية”. ويحصي بعض الدارسين ستة كيانات حقوقية وقانونية في “الاتحاد الفرنسي” غداة الحرب الثانية، تكاد أحوالها لا تتقاسم قاسماً مشتركاً. فأقاليم أو أراضي ما وراء البحار يأهلها رعايا “ارتقى” بعضهم إلى مرتبة خولتهم المواطنية. والجزائر كانت جزءاً لا يتجزأ من الجمهورية، معظم أهلها الجزائريين المسلمين رعايا. ومراكش أو المغرب، شأن تونس والشطر الأعظم من الهند الصينية، كانت محميات تتمتع بالسيادة وأهاليها رعايا. وأوكلت عصبة الأمم إلى فرنسا انتداباً على بلدان مشرقية. وتباين أحوال الكيانات والبلدان هذه هو ركن من أركان المنازعات الراهنة التي تضطرب في جماعات “الفرنسيين الجدد”، على ما يسمون في بعض الأحيان.
وعلى نحو ما يغضي أصحاب “الدراسات ما بعد الكولونيالية” عن الفروق بين أحوال الكيانات المستعمَرة وفي أحوالها، يُغضون كذلك عن اختلاف أحوال الرق والرقيق، وعن تعسف إدراجها في باب واحد. وينسون أنموذجاً من الإمبرياليات هو الإمبريالية الليبرالية البريطانية في الممتلكات المأهولة بالبيض في جنوب افريقيا وروديسيا، وفي أوستراليا وبعض أوروبا (إيرلندا وقبرص). واختبرت دول أمم لاتينية أميركية حالاً لم تقتضِ الاحتلال العسكري، ولا السيطرة الإدارية المباشرة. ولكن هيمنة السوق الحرة على الحياة العامة، وعلى الدولة، في هذه “الممتلكات”، أوكلت تصريف شؤونها وأحوالها إلى السوق على نحو قريب من تصريف الاحتلال شؤون بلد محتل ومستعمر. وأدارت السلطنة العثمانية بعض ولاياتها العربية على مثال لا يبعد كثيراً من إدارتها الأناضول، وهو ركيزتها الإقليمية. وبرزت قسمات امبريالية هندية في إطار امبراطورية الهند البريطانية نفسها. وفي كيبيك باشر الإيرلنديون والاسكتلنديون، والجماعتان شطران من المملكة المتحدة وامبراطوريتها “الأصلية”، ضرباً من السيطرة الكولونيالية الفرعية. ولا ريب في أن اندونيسيا في تيمور الشرقية، وبابوآسيا، واليوم زيمبابوي ورواندا وأوغندا في الكونغو، تبتكر صوراً من السيطرة الكولونيالية جديدة، وينبغي إحصاؤها في ثبت أشكال هذه السيطرة وفهرسها.
ويحول إغفال التجربة العثمانية بين “الدراسات ما بعد الكولونيالية” وبين تناول مسائل ذات دلالات “طريفة”. فالسيادة العثمانية على الممتلكات والولايات تنوعت وتباينت صورها بحسب الولايات. فنزلت الآستانة إلى بعض الولايات عن استقلال ذاتي عريض ومتعاظم. ونزلت إلى امبراطوريات منافسة عن حقوق سيادية وإدارية كثيرة. وبلغ التنازل هذا، على ما كانت حال مصر في شطر من القرن التاسع عشر، مبلغ “حق” في الاحتلال. ولم يمنع التصرف في “ديوان الخاص”. والحق ان السلطنة العثمانية لم تجمع ممتلكاتها وولاياتها يوماً في إطار جسم اقتصادي ونقدي متصل ومندمج. فكانت، على قول محمود مامداني (محمداني) في “المواطن والرعية” (1996)، “استبداداً لا مركزياً” في دولة “حد أدنى”، على ما في العبارات هذه من تدافع أو مفارقة. فالواقعة الإمبريالية العثمانية لا تنفك، في عصر “التنظيمات”، من تراكب الآماد أو الأوقات الامبريالية والإسلامية والأوروبية الغربية، والتباسها بعضها ببعض، على مثال أعمل فيه فرنان بروديل نهجه وطريقته.
وكان موزيس فينلي، صاحب الدراسات الهللينية، قَصَر “الاستعمار” على استيطان جماعة هي جزء أو فرع من حاضرة، أو مدينة أم، بالقوة والغصب أرضاً بجوار أقوام أخرى، وما عدا كينيا وروديسيا الجنوبية وأنغولا والجزائر، لم يكن اقتسام دول أوروبية كبيرة “استعمارياً”. ولا يصدق القول في البندقية، على رغم سيطرتها الإدارية على ممتلكاتها ووكالاتها، انها “قوة استعمار” وافتقار الاستيطان اليهودي بفلسطين إلى حاضرة يدعو إلى النظر في معنى “الاستعمار الصهيوني”.
ولم تُجمع القوى الاستعمارية، وهي لا تقتصر على الدول والجيوش والموظفين وتتعداها إلى الكنائس والشركات التجارية وبعض الجمعيات الخاصة أو الأهلية، على نهج معاملة واحد مع “ثقافة” السكان المحليين او الوطنيين. فبعض الإرساليات الدينية أرادت حماية هذه “الثقافة”، وحين لم تقع أو تعثر عليها، لم تتردد في ابتكارها. وسعت تيارات استعمارية في رفع المحليين إلى مصف “الإنسان”، وحملهم على تعرّف أنفسهم “بشراً”. والتزمت المهمة أو العمل هذا ميزاناً زانت فيه إخفاقها ونجاحها. واستمال السعي هذا عدداً من المستعمَرين قد تكون إدانتهم السياسية مشروعة، ولكنها في منظور تاريخي من غير معنى. واليوم، تتبوأ الكرامة (أي معناها) مكانة عالية في سلم القيم الوطنية والإنسانية والسيادية الذي تسوغ به الحركات الاجتماعية والوطنية وحركات “الأقليات” والمهاجرين، مطاليبها وغاياتها. و “الكرامة” هذه تبعث، من وجه أول، معنى الشرف القديم التقليدي والمستمر على الزمن على النحو الذي يتناقله عليه “تراث” الجماعات الأهلية. وهي تستعير، من وجه ثانٍ، بعض معنى المثال الأخلاقي والمهني والنضالي الذي غلب على الوسط العمالي والسلك العسكري والجسم المدرسي. وإيديولوجية “المهمة الحضارية” هي كذلك أحد مصادر معنى “الكرامة” التي لوح بها جمهور الحركات الاستقلالية، ويلوح بها اليوم الأبناء والأحفاد في المهاجر الغربية، وفي المواطن الأولى. والوجوه الثلاثة هذه متفرقة ومتباينة من غير شك. ويراها دعاة “الكرامة” متضاربة ومتدافعة، ولكن هؤلاء الدعاة، والجمهور عموماً، يصدرون، هم ومقالاتهم، عن “طبقات” تاريخية تنطبع آثارها ومعانيها في المواقف والمعاني والكلمات.
[التراث المصنوع
ويصدق في الاستشراق، وفي المقالات والمعارف التي دارت على “الشرق”، ما يلاحظ على معنى “الكرامة” وإعماله في سياسات الهوية والتحرر والمساواة وحركاتها. وما يغفل عنه “نقد” الاستشراق، وتغفل عنه نسبتُه إلى “إنشاء” الشرق والشرقيين، هو تولي الحكومة على النمط الكولونيالي “صناعة التراث” أو “التقليد” المحلي، و “اختراعه” وإيجابه حيث لم يكن ثمة تراث، ولم تعمد النخب المحلية ومتعلموها ومدونوها إلى تناول “الثقافة” التي تحدرت إليها على وجه تراث ومعناه (لاحقاً)، على ما ذهب إليه إريك هابسباون وتيرينس رانجير في كتابهما المشترك “صناعة التراث” (1983). وتضافر على الصناعة هذه، وعلى نصب ثمرتها “تراثاً صحيحاً” أو “كاملاً”، علماء الدولة الكولونيالية (الأوروبية) وأدباء الجماعات الأهلية وكتّابها وفقهاؤها. وندبت الإدارة الكولونيالية بعض النخب الأهلية إلى تولي وجوه ومراتب من التدبير المحلي في إطار “حكومة ذاتية”، على ما سميت من بعد. وأثمر التوليد والتهجين هذان ثماراً قوية تشهد الآرية بجنوب آسيا وإيران، عصبية وثقافة، على قوتها، على نحو ما تشهد العصبيات القومية (الإثنية) جنوب الصحراء الافريقية. والتراث المصنوع هذا، أو المبتكر، كان ذريعة الجماعات و “الأمم” والأقوام إلى تجديد أفكارها ومعتقداتها الجامعة وتحديثها، وسُلَّمها إلى إنشاء بؤرها الذاتية والفردية.
ويتنازع “الدراسات ما بعد الكولونيالية”، على ما ذهب إليه فريدريك كوبر (1994)، نازعان لا يستقيم جمعهما: يحمل النازع الأول أهل الضعف والاستتباع على فاعلين ناجزين ومقتدرين وكاملي الولاية على أنفسهم. وعلى هذا، على أصحاب “الدراسات” الإقرار لأهل الضعف والاستتباع بالقوة على قلب السلطان الكولونيالي، وهو ركن استضعافهم واستتباعهم، وعلى تملك حداثته السياسية على الخصوص، والدولة الأمة عَلَمها وقرينتها الظاهرة. والتملك يقتضي، على المعنى الذي ذهب إليه ماركس، التمثل المادي والجسدي للأعمال (والصنائع) الإنسانية وما يتبع التمثل والحيازة و “الابتلاع” من تحول من حال إلى حالٍ غيرٍ (تغير) وأخرى. وعلى خلاف مترتبات الإقرار المفترض لأهل الضعف والاستتباع بالقوة والاقتدار والفاعلية، يقصر أصحاب “الدراسات” فعل هؤلاء على شعائر ألم ممض، وأعراض تمرد شعائري يتلاشى في مسرح رثائي ذاتي. وعلى طرف آخر، يذهل أصحاب “الدراسات” عن معاني المحاكاة الشائعة في صفوف المستعمَرين، ويحملونها كلها على صدوع مسلِّم بالغلبة. ويخفاهم التوسل بالمحاكاة والترديد إلى ابتكار عبارات جديدة ومحدثة، مولَّدة، عن معانٍ مولودة من اختبارات راهنة. ولعل الرياضة أحد الأمثلة البارزة على “مفاوضة” الغلبة الكولونيالية، وعلى استدخالها وحرفها عن دورها ومكانتها الأولين، وإعمالها في سيرورات درامية، فردية وجماعية، غير تلك التي أوجبتها القوة الكولونيالية. وتفترض الرياضة، شأن “الكرامة”، مثالاً أخلاقياً سبق الدولة الكولونيالية، ولا تستوفي الدولة دلالته ومعانيه. ومن طريق الرياضة وعالميتها، يتخطى النزاع القديم إطار الثنائي الضيق والمقفل، ويشرك “قانون” العالم في التحكيم والقسمة الرمزية.
ويتطاول الخروج من الإطار الاثنيني، وقصره فعل المستعمَر على رد منفعل ومحاكاة ببغائية، إلى إنشاء الدولة الكولونيالية نفسها، وهي التمثيل الحاد على سلطان الاستعمار وقهره، على زعم “الدراسات ما بعد الكولونيالية”. فأبرزت عشرات الأبحاث والأعمال “الأفريقانية” أو الموضوعة على الافريقيات وجان فرانسوا بايار باحث افريقاني درس الكاميرون اولاً أن الدولة الكولونيالية نشأت جزئياً عن المستعمَرين ومبادراتهم وحركاتهم. وكانت مجتمعاتهم وأحوالها، قبل الاستعمار وفي اثناء الاستيلاء ومراحله، عاملاً في صوغ هذه الدولة على النحو الذي صيغت عليه، بمنأى من صنيع المستعمِر الفاتح وإرادته وسلطانه وخبرته، أو خارج هذا الصنيع وعلى حدة منه. وصدرت مبادرات المستعمَرين وحركاتهم عن دواعي مجتمعهم وبواعثه واحتياجاته وتأويلاته. والمجتمع هذا أقام طويلاً بعيداً من آلات القوة الكولونيالية وأدواتها، مستقلاً بنفسه وعلله وإوالياته. ووسعه، وقتاً طويلاً كذلك، التحكم في علاقاته بالدولة الكولونيالية. ولعل مجتمع المستعمَرين هذا، وهذه حاله، هو نواة تاريخ الدولة ما بعد الكولونيالية، ومَدَد هذا التاريخ. ويحول المجتمع ما قبل الكولونيالي، وحوادث استجابته مبادرات الدولة الكولونيالية وامتناعه من الاستجابة، يحول المجتمع وحوادثه أو تاريخه دون تعليق الدولة ما بعد الكولونيالية في فراغ تاريخ عدمي أو في “لا تاريخ” هو ثمرة جهد “الدراسات ما بعد الكولونيالية” وعماها عما تدعوها مقدماتها إلى الإغضاء عنه والإشاحة.
وفي قلب ما أشاحت عنه “الدراسات” ويتصل اتصالاً وثيقاً بأطوار المجتمع المستعمَر قبل الاستيلاء عليه، وفي أثناء الاستيلاء وغداة خروجه من السيطرة الكولونيالية ثمة الدين وحقله. فالدين يتوسط روابط المجتمع الأهلي بالدولة الكولونيالية وبالدولة ما بعد الكولونيالية. ولاحظ الدارسون ان حركات النبوات الافريقية، شأن الكنائس المحلية الناشئة في كنف التبشير الأجنبي والطارئ، وعلى مثال شعائر التقرب من الغيب وتألفه، تستعير سمات كثيرة من العالم الإداري والبيروقراطي الأوروبي. وهي، من وجه آخر يلازم الوجه الأول هذا، جزء لا يتجزأ من نشوء الدولة عن آثار الغرب الكولونيالي وعن المجتمع ما قبل الكولونيالي معاً. وبلاد قوم اليوروبا بنيجيريا، وبلاد آكان في شاطئ الذهب، والبلاد هذه شهدت طلائع تنصير في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت مهد تيار قومي ثقافي، وحضنت مبادئ صوغ السياسة في مقالات دينية، وابتدأت بلورة جسم كنسي وإكليركي أهلي. وعلى هذا، فالزعم أن الدولة الكولونيالية، وخليفتها الدولة ما بعد الكولونيالية، هما ثمرة إرادة القوة الكولونيالية المطلقة والمرسلة، ووليدة هذه الإرادة، (زعم) لا سند له. فوجها الدولة إنما منشأهما المجتمع الأهلي أو المحلي. ولم يسع القوة الكولونيالية جبَّ هذا المجتمع، ولا “إذابته” أو تبديده، ولا ابتداء مجتمع غير مسبوق أو أُنُف. فكان عليها الإقرار والصدوع به، على رغمها. واضطرت إلى السير في ركاب نشأة الدولة عن سيرورات محلية. والقوة الكولونيالية لم تمح هذه السيرورات. فعمدت إلى صوغها على مثالات مختلفة، وعظمت بعضها وقيدت بعضها الآخر وصرفته إلى أغراض غير أغراضه السابقة.
وتزعم “الدراسات ما بعد الكولونيالية” ان تراث الحال الاستعمارية ومخلفاتها تكرر وقائعها المفترضة، ولا تحيد عن منطقها الصارم والمستقيم. ويستغني الزعم عن الاحتجاج بـ “تاريخ فعلي” لشرائط نقل التراث، واجتماعيات الوارثين المأذونين والنقلة و”أحوال الإعمال” في مواضع دون مواضع وظروف دون ظروف. ولا يميز بعض عوامل الدوام، أو الإدامة، التي يعود بعضها إلى صفة جغرافية بلدانية ثابتة فوق ما يعود إلى السيطرة الاستعمارية. ولا يلم الزعم بتبدد بعض هذا التراث في سياقة استئنافه، وفي الأثناء، ولا بتباعد بعض أجزائه، وضعف ائتلافها، في ضوء تفرق المجتمعات المستعمَرة وتباين السيطرة الاستعمارية نفسها وظرفيتها و “التباسها” (على قول ج. بالاندييه الاستهلالي في الدراسات الأفريقانية). وحمل الدراسات الأناسية والحكمية (الإثنولوجية) على المصالح الاستعمارية يُغفل نازعها الأول إلى نقد الاستعمار من طريق مقارنة “إنجازه” بمزاعمه، وملابسة النقد الوساطة من طريق جمعيات الدراسين وشبكات مخبريها ومحدثيها. وبعض “العلماء” الكولونياليين، أو المثقفين من تابعيات الدول المستعمِرة، أرسوا تقليد مناهضة الكولونيالية، والتصدي لها، والنقض عليها. والتقليد هذا جزء من الحال أو الواقعة الكولونيالية، ونشأ عنها. وهذا، أي نشأة الضد الاستقلالي والتحرري عن الكولونيالية بما هي “واقعة اجتماعية كلية”، بعض ما لا يسع “الدراسات ما بعد الكولونيالية” الالتفات إليه، وتناوله من قرب، لقاء استرسالها في “كرنفالها”، على قول جان – فرنسوا بايار.
المستقبل