«بريدجت جونز» بعد النسوية و «عايزة اتجوز» مقاومة ملتبسة
رشا الاطرش
للوهلة الأولى، قد يبدو المسلسل التلفزيوني الرمضاني، «عايزة أتجوز»، فعل مقاومة، من الداخل. صوتٌ، ويعلو في وجه الثقافة السائدة التي تضغط على الفتيات في سنٍّ معين للزواج، شاهرةً عليهن فزّاعة «العنوسة» والنبذ الاجتماعي المبطّن. للوهلة الأولى، يُظنّ أن الدراما، المرتكزة إلى مدوّنة إلكترونية لفتاة مصرية عادية، ستقول بكل بساطة: لن أستسلم، وأن الكوميديا ستروي المجتمع من حول عازبة، لتهشّم هيمنته ورزنامته الإنجابية.
لكن… لا.
فمنذ حوالى ثلاث سنوات، أنشأت غادة عبد العال، وهي صيدلانية مصرية على أبواب العقد الثالث من العمر، مدوّنة «عايزة أتجوز» الإلكترونية. مذكّرات راحت تدوّنها كما هي، بلهجتها العامية، بل وتعتذر حين تستخدم مفردات بالفصحى، كأنما تدعيماً للدعابة الممتدة، وإصراراً على قيمة ما تكتبه كثقافة فرعية تستحق الانتباه، وربما أيضاً تجذيراً لـ«القضية»، في الحياة اليومية، للسواد الأعظم من الفتيات المصريات والعربيات. منذئذ، لم يتغيّر شعار الصفحة الافتراضية لعبد العال: «أنا أمثّل 15 مليون بنت من سن 25 إلى 35، واللي بيضغط عليهم المجتمع كل يوم عشان يتجوزوا.. مع إنه مش بإيديهم إنهم لسّه قاعدين». كل شاب يتقدّم لخطبة عبد العال، أو إحدى صديقاتها، قصة تكتبها، كنكتة طويلة مستقاة من الواقع وتُشهَر عليه. أشكال وألوان من التوتر بسبب السنوات التي تمر، الخيبات بعد آمال بإيجاد زوج مناسب لإسكات التململ، التنافس المحموم بين الصديقات على كل عريس محتمل، ولازمة «عايزين نخلص منك ونرتاح بأه» على ألسنة الأهل والجيران بتنويعاتها كافة.
في يوم عيد ميلادها الثلاثين، احتفلت غادة مع قرّائها بظُرف مَن لا تخجل بسنّها، أو بالأحرى مَن لا تريد أن تخجل. كتبت كيف استيقظت كالمذعورة، وهرعت إلى المرآة باحثةً عن تجاعيد طارئة، متفقّدة سلامة أسنانها… «نزلت الشارع وأنا متوجسة خيفة (معلش عندي المرة دي).. كل ما يمر جنبي عيّل صغيّر أتشنج وأستعد عشان أطلق ساقيّ للريح (آخر مرة والله).. رجعت البيت، وعكس كل توقعاتي، ما حدش من الجيران رمى عليّا جردل مايّه مش نظيفة، ولا لاقيت أهلي محضرنلي شنطة هدومي وبيقولو إحنا استحملناكي كتير وكفاية علينا كده».
هكذا، استقطب الموقع نصف مليون متصفّح، وولدت مجموعته على «فايسبوك». إلى أن صدرت اليوميات، وبالعامّية المصرية، في كتاب (عن دار الشروق) تصدّر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وصولاً إلى الطبعة الثامنة. والعام الماضي، خضعت عبد العال لدورة سيناريو، لتكتب المسلسل التلفزيوني بنفسها.
فرصة ضيّعها التلفزيون
رغم بعض التعليقات على موقع «عايزة اتجوز»، والتي قد تكون صدى الاستماتة على الزواج كهدف بذاته (من مثل: «طرح مشوق وبانتظار البقية قبل ما يخطفك عَدَلك وتنسينا»)، لربما، فقط ربما، ظلّت المدوّنة مظهراً فردياً يستأهل الاحتفاء من باب اكتساب غادة (ومن تمثّلهن) قوة المبادرة إلى النقد، من خارج دوائر النخبة، وبأبسط الأشكال والعبارات. غير أن التلفزيون ما لبث أن أعاد إنتاج المنظومة الذكورية الأبوية نفسها، إذ قطع خيوط السخرية وحرّر الكليشيه. صحيح أن البطلة ترفض الخُطّاب غير المناسبين في النهاية، إلا أنها عملياً لا «تفعل» شيئاً آخر. ظهّر التلفزيون انكفاء ذاك الصوت عن مقاومة سلطة أهل لا يسمحون لابنتهم بالتعرّف إلى شبان إلاّ ضمن جدران البيت، وتحت أنظارهم، وكعرسان. التلفزيون محافِظ حكماً، على عكس السينما التي قد تخرق القوالب من حين إلى آخر. فلنأخذ مسلسل «العار»، الذي عرض هذا العام مقتبساً عن فيلم بالعنوان نفسه (1982). كان الفيلم يتمحور حول تشابك العلاقات والمفارقات، والقيم الرمادية غير الملبوسة بمحكمة أخلاقية واضحة، بين شخصيات أشقاء ثلاثة، مختلفة جذرياً في التركيب النفسي وحتى الاجتماعي. إذ يكتشف الأخوة، بعد وفاة الأب، أنهم أبناء تاجر مخدرات بعدما عرفوه دائماً حاجّاً تقيّاً أنعم الله عليه بثروة نظيفة. أما المسلسل الجديد فقد نُفّذ على تيمة «الحلال والحرام».
بشكل مشابه، لعب التلفزيون لعبته مع مدوّنة «عايزة اتجوز». والأسوأ أن ارتكاز المسلسل إلى يوميات واقعية خنق بذرة تمرّد عفوي وحقيقي، كان لها أن تزهر على الإنترنت. أوقف دلالة قصص عبد العال عند حدّ مسلّمات طريفة يبتلعها المشاهد(ة) مثل القَدَر و«شرّ البلية»، بلا كثير نقاش، فأهدر طاقتها الاحتجاجية الكامنة. خَفَت صوت «عايزة اتجوز» أيضاً أمام الدّين، ومن خلفه التقاليد. والأهم أنه خرس تماماً عند مطلب الحب، بل الحقّ فيه! لم يعلن أي رغبة في انتقاء الفتاة للشريك بدل الانتظار السلبي لخاطِب يطرق الباب. حتى أن البطلة (هند صبري في شخصية «عُلا») تفخر في إحدى الحلقات، بأنها لم تسمح لأي شاب بالاقتراب منها أيام الجامعة وشلّة البنات التي كانت تتزعّمها بشديد محافظتها. ثم تسخر «عُلا» وزميلتها من كلام ثالثتهما عن الحب. فتصعد، على الشاشة الصغيرة، كابنة طبقة متوسطة، متعلّمة عاملة ومستقلة مادياً… ومثال على «البنت المتربيّة» التي تتبنّى الخِطاب العام، بدل أن تكون الساخرة من وضع لتنقلب عليه. أما المغالاة في أداء الممثلين وإملاءات السيناريو، فيثبّت الهستيريا مصيراً لكل فتاة يطول انتظارها للعريس، بدل الكوميديا النابعة من قلب ذلك القمع الخفيّ والتي كان يُتوقّع أن تعمل لصالح فكرة معاكسة تماماً. ولولا أن غادة عبد العال نفسها هي التي كتبت السيناريو التلفزيوني لقلنا إن مدوّنتها الإلكترونية ظُلمت أيّما ظلم.
إنها ماكينة الثقافة المهيمنة وقد استوطنت، حتى مخيلة مَن قدّمت نفسها على أنها تقاتل، بالنكتة، كي لا تظلّ ضحيتها. «الإرادة الحرة» للضحية تماهت مع إرادة الماكينة، فجأة. وتلاشت الخطوط الفاصلة بين عُلا/غادة وبين السلطة التي لا تني ترسم علبة نهائية لحياة هذه الفتاة ومثيلاتها، حاجبةً كل خيار أو فكرة من خارجها. والسلطة لا تناهض ذاتها.
قد لا يختلف مسلسل «عايزة أتجوز» عن الفيلم البريطاني «مذكّرات بريدجت جونز» مثلاً (رينيه زويليغر، هيو غرانت)، الذي ارتكز بدوره إلى عمود أسبوعي للكاتبة هيلين فيلدينغ في صحيفة «إندبندنت» البريطانية، ثم جُمعت المقالات في كتابين، قبل إنتاج الفيلم بجزءيه (2001 و2004). الكتابة الفردانية تربط جَذري هذين المُنتَجين الجماهيريين، لكن النقد الذي تلقّفه هو المختلف، الردّ الذي بقي خفراً إزاء «عايزة اتجوز».
«بريدجت جونز» فتاة ثلاثينية، ابنة مهنة، جميلة واجتماعية، تملك شقتها اللندنية وحياتها ناجزة الاستقلالية. لكن علاقاتها العاطفية لا تعمّر، وتفرط في الأكل والتدخين وشرب الكحول. تقلق كلما اكتسبت كيلوغراماً إضافياً، لا تجيد اختيار ثياب داخلية مثيرة، وتكتب في دفتر يومياتها متسائلة: «هل سأبقى من دون زوج؟». ورغم أن الفيلم، كما الكتاب، حقق إيرادات ضخمة، إلا أنه استنفر عصباً نقدياً في الغرب، خصوصاً بالمعنى النسوي، وأُدرج تحديداً في الحركة الثقافية ما بعد النسوية.
تتمثل ظاهرة «ما بعد النسوية» بموجة من أشكال التعبير (الفني والإعلامي والإعلاني) تسعى، عن عمد أو عن غير عمد، إلى التقليل من شأن المكتسبات التي حققتها الحركة النسوية في السبعينيات والثمانينيات. وتكتب الأستاذة البريطانية في الدراسات الثقافية، أنجيلا ماكروبي، في نقدها لـ«بريدجت جونز» ولعدد من الإعلانات التلفزيونية والمجلات النسائية، أنه «من خلال ميكانيزمات متعددة، تتضافر عناصر الثقافة الشعبية السائدة، بشيء من الخبث، لفكفكة إنجازات النسوية. وتظهر، في الوقت نفسه، بمظهر النيات الحسنة، بل والاستجابة الواعية لتلك الإنجازات وأفكارها». ويقول آخر، وبالاستناد إلى ما تسميه ماكروبي «مَجاز الحرية والخيار المتاح»، خصوصاً للنساء اليافعات، تُجعل النسوية في خانة «الفكر القديم» الذي حقّق ما حقّق، وما عادت إنجازاته مهددة، فأصبح بالتالي مستهلكاً وبائداً وبلا نفع مباشر، ولهذا السبب بالذات صار ممكناً تخطيه بل ونفيُه. وتعتبر ماكروبي أن عارضة الأزياء، التي تخلع بلوزتها في أثناء سيرها في اتجاه سيارة رياضية (في إعلان تلفزيوني لشركة سيارات)، تبدو كمَن تفعل ذلك بوعي كامل وبقرار نابع منها، كأنها تتحدّى الذكورية المحدقة بجسدها، بإرادتها، في حين أنها في الوقت نفسه تحرّك لبّ العين الذكورية وتدغدغ نظرتها.
وإذا كانت المُكتسبات التي فازت بها النساء، بعد نضال ميداني وسياسي وحقوقي وأكاديمي وثقافي، قد تكرّس أهمُّها فعلاً في الغرب، ما يفرد عند الغربيين حيّزاً حقيقياً لنقاش «ما بعد النسوية»، فإن العالمين العربي والإسلامي ما زالا، بلا شك، في باكورة مثل هذه الإنجازات. ويكفي التفكير في عدم تكافؤ فرص التعليم، والتمييز في قوانين العمل والأحوال الشخصية والعقوبات، إضافة إلى سطوة الدّين، معطوفاً على التخلّف الاجتماعي والثقافي في البيت والمدرسة والشارع، الخ… كي لا نستغرب التباس نكهة المقاومة في «عايزة اتجوز». التباس النسوية بما بعدها، والصوت الشاكي إذ يتبنى منطق الوصاية عليه.
لقد اكتمل عقد الموسم التلفزيوني الرمضاني، هذا العام، بأوسع باقة من البطولات الدرامية النسائية، التي، في الغالب، لا تُمَكّن صُوَر صاحباتها كحضور أنثوي يفرض أجندته، بقدر ما تؤكّدهن كأغراض جميلة، ملونة ومبهجة، لتحديق الذكور والإناث معاً. فهذه غادة عبد الرازق، بكل دلعها ومظهرها «السيكسي»، تعاني من أزواجها الذين يوقعونها في مطبّات السيطرة، رغم ذكائها ومكانتها المرموقة كسيدة أعمال صنعت نفسها (وبحيلة «كيدهن عظيم» بدل مقدّراتها الشخصية). وهذه ليلى علوي التي تنجح في وظيفة غير تقليدية لامرأة، أي مدربة فريق كرة قدم، إنما بمعونة رجل، ينقذها أيضاً من المؤامرات والتحرّش. ثم إلهام شاهين، الأرملة الجميلة والأنيقة والغنيّة، مطمَع الرجال (والقانون!) التي لا تستأنف حياتها مع رجل أحبته إلا بالزواج العرفي حرصاً على «مشاعر» ابنها. وبعد ذلك، تنتقل شاهين، إلى «حدوتة» رمضانية ثانية تتناول… «أزمة العنوسة».
الجندر و«الاستدعاء»
كان بوسع «عايزة اتجوز» أن يشكّل بارقة أمل وسط ذلك كله، إلا أنه لم يفعل أكثر من «استدعاء» كل ثلاثينية عربية عازبة، وبالأيديولوجية الرائجة نفسها التي تراجعت النسوية العربية عن ليّها، بعدما كانت قد قطعت شوطاً لا بأس به خلال النصف الأول من القرن الماضي. من لا يذكر أفلاماً من نوع «زوجتي مدير عام» (لشادية) و«أنا حرة» (لبنى عبد العزيز) وغيرهما؟ صحيح أن مثل تلك الأفلام لم تذهب إلى النهاية كرافعة جماهيرية لقيم تحرّر المرأة، لكنها كانت بدايات مشجّعة، بالنسبة إلى قيم كانت لا تزال حديثة وأوليّة في ذاك الزمن. غير أن مرور السنوات والعقود لم يبلور تلك التجارب في النتاج الثقافي السائد، بل فقط في النتاجات «البديلة» ذات التمويل (الأوروبي) المحدود والمستقل. بل أعيد مثلاً، إنتاج فيلم «زوجتي مدير عام» في فيلم «تيمور وشفيقة» (2008، أحمد السقا ومنى زكي) بحيث كرّس «اللا- صوابية» في امرأة تترأس زوجها/حبيبها في العمل، كما أكّد أحقيّة رفض الرجل لهذه الفكرة حتى لو كلّفه ذلك حبّه لـ«امرأته». وتذعن المرأة لمشيئته في النهاية، فتستقيل من مهنتها لتكتفي برضاه وبقائه… بل تفعل ذلك عن قناعة تامة وبإرادة «حرّة»!
يبدو «عايزة اتجوز» مثالاً راهناً على «الاستدعاء»، الذي ارتكزت إليه نظرية الأيديولوجيا عند لويس ألتوسير، كعملية تنتج الذات عبر هتاف يُحَيّي تلك الذات أو ينادي عليها، فتخرج كما يشاؤها مصدر الهتاف. على هذا الأساس النظري خاضت الدراسات الثقافية الغربية، خصوصاً مدرسة بيرمينغهام البريطانية، تحليل الأنماط الدراجة في «الميديا»، بما فيها المجلات المتوجّهة للنساء والمراهقات، متوقفة عند «خلق ذوات» القارئات المستهدفات من خلال «مناداتهن»، شكلاً، ثم مضموناً. فكأنما تصيح مجلّتا «جاكي 19» و«فقط 17» البريطانيتان: «هيه.. أنتِ هناك، حين نلفت انتباهكِ باسم جاكي، أو بسنّ 17 عاماً، نكون قد أوجدناكِ كـ«فتاة جاكي» و«فتاة الـ17»، وهويتك وإحساسك بنفسك يتأسسان على هذا النداء وما يشتمل عليه أسبوعياً من أفكار ومواضيع وصُوَر تُقدّم لك».
فماذا حصل مع من تنادي: «عايزة اتجوز»؟ وأين المتلقي(ة) المُنادى أو المناداة؟
ترى واحدة من أبرز الأكاديميات النسويات الأميركيات، جوديت باتلر، أن الجندر (الوظيفة الاجتماعية للجنس) هو «عملية أدائية» تُوجِد الذكورة أو الأنوثة في الشخص، وإن بانَ، على السطح، أنها تصف ذلك الشخص من داخل ذاته. لقد دحضت باتلر حجر الزاوية في أفكار سيمون دوبوفوار عن أن الجنس هو واقع فيزيولوجي يُستقى منه الجندر، فقويت النظرية «الأدائية» كتيار فكري له مريدوه ومريداته في المجتمعات الحيّة، إذ فتحت باباً واسعاً على التفكير في الجندر كـ«فعل» يشتمل على الهوية التي يُزعم أنها تطلقه، على اعتبار أن الأدائية الجندرية هي نظرية «الفاعِل(ة)» إنما من دون «فاعِل(ة)».
لقد «أدّت» هند صبري، في مسلسل «عايزة اتجوز»، موقع الفتاة الثلاثينية في المجتمع المصري والعربي، بكل تناغم – وحُسْن نيّة – مع النمط المفروض والمكرّس. والأرجح أن الكاتبة غادة عبد العال «أدّت» أيضاً مأزقها – وبظُرف حميد – كصبية «عايزة تتجوز».
أما «الفاعِلة» فما زالت مجهولة بين ملايين الفتيات اللواتي تم تدبيج الخطاب باسمهنّ… ولعلها تتابع في مكان ما، وتشعر بخيبة وإهانة.
السفير الثقافي