اعتقال العقل
عبدالحسين شعبان
نصّت معظم دساتير البلدان العربية والإسلامية وقوانينها النافذة على حرية التعبير، باعتبارها من الحقوق الأساسية للإنسان، بإضافة حق الاعتقاد وحق التنظيم الحزبي والنقابي والمهني والحق في المشاركة السياسية، وهو ما تضمنته الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، لا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر/ كانون الأول عام ،1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في عام 1966 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي دخل حيّز التنفيذ في عام 1976 .
لكن هذا الحق غالباً ما يتم تقييده بقانون، ليسلب روحه أو ليخفض سقفه في الممارسة إلى ما تريده السلطات، حيث بامكانها إنزال العقاب بالمخالفين . وقد صعدت الظاهرة الدينية إلى الواجهة في العقود الثلاثة الماضية، وهو ما نطلق عليه “الإسلام السياسي”، وأخذت بعض القوى الدينية تعد نفسها “سلطة” تصدر فتاوى وتحاسب على من يخالفها، متهمة إياهم بالردّة والمروق، وصولاً إلى إعطاء نفسها الحق في استخدام العنف والإرهاب، بادعائها امتلاك الحقيقة والأفضليات، والنطق باسم الدين أو تمثيل الله، ولعل ما سهّل لها مهماتها هو ممالأة بعض السلطات الحاكمة لها، إمّا لكسب ودّها أو لتجنب الصدام معها .
وإذا كان بعض قوى الإسلام السياسي نفسه ضحية لحرية التعبير في ظل أنظمة استبدادية أو لا ديمقراطية، فإنه في الوقت ذاته هو الوجه الآخر للاستبداد واللاديمقراطية وعدم الاعتراف بحرية التعبير، لا سيما عندما يقترب من السلطة أو يكون جزءاً منها، باستخدام سلاح الفتوى أحياناً لأغراض سياسية، ومن دون علم ومعرفة من جهة، ومن جهة ثانية للتأثير في جمهور الغوغاء، في لحظة ضعف الوعي وشحّ الحريات وسوء الوضع المعيشي، وهو الأمر الذي قد يتحوّل إلى لغم ينفجر في أية لحظة، منذراً بفتنة مذهبية أو طائفية أو دينية .
وأظن أن منطقتنا العربية في مشرقها ومغربها شهدت أحداثاً عنفية وإرهابية جسيمة تحت عناوين مختلفة، لكن ما يجمعها هو “الإسلام السياسي” وتحريم وتجريم الآخرين، والزعم ب “إقامة الحد” دون اعتبار لوجود قانون وسلطة قضائية، وذلك بالتعكز على نصوص يتم تأويلها وتفسيرها إغراضياً، وتبرير تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية إزاء مخالفيها، الأمر الذي يشيع نوعاً من الإرهاب الاجتماعي، قد يكون أحياناً أقسى من إرهاب السلطات، بل ويعطيها مبرراً بمثل هذا السلوك اللاقانوني واللاشرعي، على إجراءاتها اللاقانونية واللاشرعية، المتعلقة بحرية التعبير وحجب الرأي الآخر .
ولعل الإيغال في عمليات التضييق على الحريات وممارسة الإرهاب وتشديد الرقابة وتقليص فرص حرية التعبير التي تقوم بها بعض السلطات، تجد مبرراتها “غير المبررة” بالطبع بالتضييق على الحريات بشكل عام وحرية التعبير بشكل خاص، بحجة مواجهة جماعات التطرف والتعصب والغلوّ والمنظمات الإرهابية، وهو ما جرى بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية وما تعمّق بعد احتلال أفغانستان والعراق، وشيوع ظاهرة الإرهاب، لاسيما ببروز تنظيم القاعدة .
وباعتقادي، أن الفكر لا يقابل بالعنف أو الاغتيال أو إخفاء الصوت الآخر، كما لا يُحسم بالقضاء . الفكر يُردُّ بالفكر، وسماحة الحوار تتسع لصراع الأفكار . أما جعجعة السلاح فلا تنتج طحيناً، بل تجعله خليطاً برائحة البارود . والحوار يجب أن يتجه أولاً وقبل كل شيء بإقرار حق الغير “الآخر” في التعبير وفي التعايش وفي المنافسة السلمية، ثم لاستخلاص ما هو ضروري لإدامة السلام الاهلي واحترام حقوق الجميع .
وبتقديري أن مكان حرية الفكر والبحث العلمي والأكاديمي، هو قاعات الجامعات وأروقة الكليات والمعاهد وحلقات الدرس والبحث والمنابر الفكرية والثقافية، وفي إطارها يتم النقاش والجدل، فهي المكان الطبيعي والرحب لتبادل الأفكار واستمزاج الآراء وقرع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، والشك بالشك، والبرهان بالبرهان .
وفي الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات تبدأ الأسئلة والشكوك ويثور الانتقاد ويتم البحث والاجتهاد، في محاولة الوصول إلى أجوبة مقنعة وبراهين .
أما محاكمة الفكر أو محاصرته اجتماعياً لدعاوى سياسية أو اعتبارات طائفية أو مذهبية أو دينية لا علاقة لها بالدين أحياناً، فتعني إصدار حكم بالموت المدني من دون محاكمة، وهي مناقضة لروح وجوهر الإسلام الذي يقرّ بمبدأ التسامح، ولعل عدم التسامح يعني منع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حرّ وجديد، بحجة المروق والخروج على الدين .
وتزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد حين يتم التمترس الطائفي والمذهبي، وحين يُنظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو عدواً، بل أشد عداوة من العدو الحقيقي أحياناً، وتجري محاولات لإلغاء الفِرَق والمذاهب والاجتهادات وتعميم نظرة أحادية الجانب، وفقاً للأفكار الشمولية التي لا تعترف بالغير .
ولا أظن أن مجتمعاً من دون اختلافات أو اجتهادات متعارضة مختلفة أو انقسام في الرأي أو معارضة، موجود أو أنه وِجدَ في الكون منذ الخليقة، بل أستطيع القول إن مجتمعاً بلا اختلاف أو تمايز أو خصوصيات، هو من صنع الخيال، ولا وجود له على أرض الواقع، بل إنه مجتمع ميت إنْ وجد، فالتماثل ضربٌ من المحال .
التعددية والتنوّع وحق الاختلاف والاجتهاد، هي بعض عناصر يقظة الوعي ومن أركان تنشيطه بما يساعد على التطور والتجدد ولا تستقيم هوية “الأنا” من دون هوية “الآخر” .
وجاء في القران الكريم “ . . . واختلاف ألسنتكم وألوانكم لآيات للعالمين” (سورة الروم: آية 22)، والاختلاف لا يلغي الائتلاف بالطبع “ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (سورة يونس: الآية 99)، وجاء في (سورة البقرة: الآية 256): “لا إكراه في الدين قد تبّين الرشد من الغيّ . . .” وجاء في (سورة الكهف: الآية 29): “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . . .” .
وسمح الإسلام بحرية الخطأ إذا لم يكن مقصوداً، خصوصاً إذا استهدف الاجتهاد الفكري واستنباط الحلول والأحكام حين أكد الفقه الإسلامي أن “المجتهد إن أصاب فله حسنتان، وإن أخطأ فله حسنة الاجتهاد” بمعنى أن الخطأ مع الاجتهاد يتحول إلى حسنة، لأنه محاولة لاستخدام العقل، وكانت بعض الفرق الإسلامية كالمعتزلة والصوفية وغيرها قد أكدت دور العقل بموازاة النقل، خصوصاً بكل ما له علاقة بشؤون الحياة .
وذهب الإمام الشافعي إلى القول “رأيي على صواب ولكنه يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ، ولكنه يحتمل الصواب” . وهو ردٌ بليغ على أفكار التعصب والانغلاق والعنف، وعقلية التأثيم والتحريم والتجريم وفرض الرأي، التي قادت من الناحية السياسية إلى احتكار الحكم وتبرير مصادرة حقوق الآخرين، تارة باسم القومية أو بحجة الصراع العربي “الإسرائيلي”، وأخرى باسم الطبقة العاملة ومصالح الكادحين، وثالثة باسم الدين، لإسكات أي صوت ولتسويغ فكرة الاستئثار وادّعاء امتلاك الحقيقة .
لعل ذلك حسب أدونيس لا يعني سوى “اعتقال العقل”، أي عقل الذات الآخر، الذي ستصبح صورته، هي صورة الخصم والعدو والمشبوه والعميل بلغة السياسة والأيديولوجيا، والزنديق والكافر والمارق والملحد بلغة الدين .