أيـن يختـفي نصـف السـماء؟
رجاء ناطور
طرح «وايس» لا يتحدى الإسلام .. والتغيير أمل من لا صوت لهنّ
في مقالته «حروب النساء الصليبية» المنشورة في تاريخ 17 آب 2009, نيكولاس كريستوف, الصحافي والكاتب الأميركي في صحيفة النيو- يورك تايمز يَدعي أن عدد النساء المفقودات, الَممْسوحات عن خريطة العالم اللاتي لا يصلهن بريد, لا بطاقة معايدة ولا حتى فاتورة كهرباء ولا يهم أمرهن الرحم الذي احتواهن ولا اليد التي انتشلتهن ولا التي باعت أو اشترت في الظلمة لقاء حفنة مال. عدد هذه الأجساد, الأخيلة الحية الميتة, حسب الإحصائيات يتراوح بين 60 إلى 107 ملايين امرأة. الهدف من وراء طرح المعلومة الرقمية ليس صدم القارئ لأن الصدمات اليوم كافية فقط لتجعل القارئ يبكي, يحزن وأحياناً يسب علناً إذا كان لديه وقت, أنا اطمع بالمزيد بِجعل الصدمة تحيل البكاء, والسباب إلى قلق، أريد أن نقلق، أُريدنا كلنا أن نقلق لأن العقل الإنساني الذي لا يتساءل في أسباب, ظروف, تبعات، آليات والأهم الواقع الذي أدى وما زال يؤدي إلى اختفاء نصف السماء هو ما يُقلقني!
تُقلقني النفس الإنسانية التي تتعود القبول, تقبل بأي عادة وتعتبر المعرفة مساوية لعدم المعرفة. مئة وسبعة ملايين امرأة ليس عَدّاْ مُنصفاً حتى! لأننا بهذا سنعد الرؤوس عدَّ الأغنام متجاهلين عُمق ومعنى هذه المعلومة, الأصح أن نَتعدى مرحلة العد والأعداد لنتفحص من قرب ليس فقط الآليات ومعناها بل ما الذي يجعلها فَعالة؟ ويجعل أي نوع من مكافحتها فشلا ذريعا!. ذاته الشعور كان يجتاحني بعمق حين كان أبي يغار على كتبه الثمينة المتنوعة ذات الأغلفة الملونة, الورق الأصفر الباهت والكلمات المطبوعة بعناية حرفاً حرفاً على آلة الطباعة ويمنعننا من دخول مكتبته وعالمه, كنت أحس أني امرأة مفقودة وممسوحة عن خريطتي الخاصة أولاً ثم عن خريطة العالم، ليس لأن احدهم قبض ثمن جسدي، بل لأن أحداً مَنع عن جسدي ما يُقلل احتمال تحولي إلى رقم, المعرفة!!. السؤال الأهم الذي قد يعلق بذهن القارئ هو كيف تتحد الأصوات النسوية وغيرها، التي لم تَتَحول إلى رقم، والتي أقلقناها للتو ليس فقط لِتَحتج , تندد وتصرخ بل تخلق مساحة حوار قادرة على أن تنبش هذه القبور المستكينة ليس بمعنى التحرش السطحي بمواضيع هامة, فالنبش وحده غير كاف لأنه قد ينشر الرائحة الكريهة للوجع أو للنزف النسوي – الأنثوي الذي من جانبه شرعي ويستحق الإنصات, هناك حاجة إلى نبش قد يحمل أيضاً احتمال خلق فضاء مختلف للحوار لا يعنى بمفهوم «العدالة» من منظور الذكورة أو الأنوثة, بل يعنى بالإنسان كصانع هذه العدالة الإنسانية.
إنسانية نسوية
إنه وقت آخر, وقت لحوار من نوع آخر لا يكتفي بِطرح بدائل واليات جاهزة لعلاج قضية واحدة معينة بعينها حسب آليات معينة لا علاقة لها بهموم إنسانية نسوية أخرى, بل حوار يحمل في طَياته احتمال البقاء, التطور والتَفتح إلى أبعد من فكره. حوار يكون قادراً على طرح سيناريو إنساني شامل لقضايا مؤلمة, قادر على طرح خطة للأصوات على تنوعها, قادر على احتواء سهولة الاتفاق كما صعوبة الاختلاف!. ليس فقط على خلفية الفقر والجهل والعوز وعدم المساواة, أو على خلفية طرح مباشر لهموم المرأة المسلمة, بل على خلفية التعطش للعدل, التعاطف الإنساني واحتضان الصوت للصوت هناك أمل بالتغيير. فقط العدل والحس العميق بالتآخي والتعاطف يمكنه أن يوحد الأصوات النسائية ويمكنه أيضاً أن يوسع معنى ومساحة إدراك المرأة لصوتها ودورها في مجتمعها. في «أسما» المؤسسة التي مقرها نيويورك, والتي تعرف نفسها «بالمجتمع الأميركي من اجل تَقدم المسلمين بالغرب وتحت مشروع «وايس» الذي هو اختصار للمبادرة النسوية الإسلامية من أجل الروحانية والمساواة هناك خطة للأصوات بل هناك سيناريو إنساني لا تردعه عادات وتقاليد وحوارات سائدة. «وايس» تعتبر نفسها حركة اجتماعية هدفها أولاً خلق تعاطف إنساني جماعي, نسوي وغير نسوي من اجل تَفعيل دور وصوت النساء في مجتمعاتها بالذات في الغرب, بالإضافة إلى توسيع نطاق مساحة الصوت الواحد, هذه التوسعة تهدف أيضاً لتوسيع نوعي, وتأثير وجودة هذه الأصوات واحتمالات انضمام أصوات أخرى لها جغرافية مختلفة. هدف «اسما» الأساسي هو تحويل هذا الكم الهائل من التَعاطف الإنساني والتآخي إلى قيادة ثم تحويل القيادة إلى ذِراع تطالب بالعدالة الاجتماعية والمساواة, المساواة التي هي نَقيض الظلم, القادرة على إزالته أو على الأقل تقليصه, المساواة التي ترى «الآخر» في الغرب, واقعه من جهة ومن جهة أخرى ترى أن هناك ضرورة وحتمية أن يكون الآخر جزءا وشريكاً فاعلا لمفهوم وتطبيق العدالة, تلك هي العدالة بمفهومها الحي الذي يعكس نضوجاً اجتماعياً واسعاً. حين تُعرف النساء أنفُسهن بِأنفُسهن وحين تتسع وتنمو مساحة الوعي الداخلي للذات تبدأ الطريق لفهم ضرورة إعادة تعريف وبناء مفهوم المساواة كَلغة «عدالة اجتماعية». الكثير من المؤسسات الاجتماعية والسياسية, الكثير من المجتمعات والكثير من الرجال والنساء قاموا بهذه الرحلة لكن غالبيتهم قاموا بِها فَرادى بخطى مترددة ومتفرقة, متجاهلين واقع , ظروف وآليات الظلم الاجتماعي, متخذين عادة لغة وخطى لا تنجح بوصل النساء أولاً مع همومهن, وجعهن وواقعهن, ثانياً متخذين لغة لا تصلح لمخاطبة وتحدي الحوارات السائدة حول مفهوم المساواة في المجتمع الإسلامي.
مفهوم المساواة
ليس كأي مؤسسة إنسانية اجتماعية «اسما» تحت مشروع « وايس» مدت وما زالت تمد جذورها بل وتعتبر مركز حوارها وآلياتها امتداداً, ونمواً من الداخل إلى الخارج. من داخل ولب الشريعة الإسلامية ونصوصها المُقارنِة وتفاسيرها إلى الخارج إلى المعاني والمفاهيم التي قد تَحملها. لذا وبما أن «الوايس» تعتبر أن مفهوم المساواة جزء لا يتجزأ من الإسلام ليس فقط كدين بل كَمبنى اجتماعي متكامل فالتحاور حول معناه, أبعاده ومفهومه وعلاقته بواقع المرأة المسلمة ليس دخيلا على الإسلام بل, ابعد من ذلك هذا المفهوم الذي نُسميه مساواة يَحتل مساحة في فضاء الحوار وهو قابل للتغيير كمفهوم, قابل للتغيير كمساحة حوار تتحدى المفهوم الرائج والسائد للمساواة والعدل وبالتالي هو قابل ليس على التَغَيُر بل على تَغيير الواقع!
إن ما يميز عمل «أسما» وآلياتها وبالذات مشروع «وايس» أنها أولا تَرى أن النصوص الإسلامية القرآنية والشريعة والسنة كلها جزء من الحل وليست جزءاً من المشكلة, إن ما تحاول أن تفعله «اسما» ليس فقط خلق حوار من اجل الحوار, بل تحويل هذه النصوص الإسلامية إلى لغة, لغة تواصل يمكن تفكيكها, إعادة بنائها والتواصل معها ليس من اجل رفضها لعيوب معينة, بل من اجل منحها معاني يمكنها اليوم أن تتماشى مع طموح وواقع المرأة المسلمة ليس اليوم بل غداً! الحوار الذي تطرحه «اسما» لا يتمحور حول «اللامساواه» كمشكله لها أسباب, نمط وحلول تقنية متوقعه وجاهزة بل تتعامل مع «اللامساواة» كمفهوم لا يُحَيد لا النصوص الإسلامية ولا الشريعة ولا الجَدل حولهما من جهة, ومن جهة أخرى لا يُحيد المرأة كإنسان ويسمح بإعادة مَوْقَعة هذه الحقوق على خريطة الإسلام والمجتمع من خلال سيناريوهات تطرحها وتخلقها النساء أنفسهن. هذا الطرح لا يعتبر تحدياً للإسلام انه تحدي للحوارات السائدة التي تضع قيوداً ليس على النصوص القرآنية وفهمها فحسب, بل على كَيفية التواصل معها, تَطبيقها وعَيْشها وبالتالي تَحُد من احتمالات فهم وتطبيق مفهوم المساواة كَعْيش مُتَغير! لا النصوص القرآنية ولا الشريعة الإسلامية من جهة، مُتهمة بِعدم الإنصاف وليس تفسيرها حتى بقدر ما هو فهم أبعاد تَطبيقها, من جهة أخرى ليس الرجل مُتهما, و«أسما» لا تشير إليه أو إلى غيره بأصابع الاتهام, المرأة تستحق من الحقوق ما تستحقه ليس مُقارنة بِضدها أو مُنافسها الرجل، لا بل تستحقه كَفرد حُر, وعبد لله. وهنا تدمج «وايس» بين واقع القبول بمساواة نسائية مختلفة تحمل بطياتها أيضاً مسؤولية وتبعات مع واقع القبول بعبودية واحده, لله.
سيناريوهات جديدة
لا تهدف «أسما» من خلال «وايس» إلى محاولة وضع الإسلام كَدين أو منهج بحد ذاته تحت المِحك, بل وَضْع الحوار السائد والتفاسير القرآنية المشوهة المتعلقة بالمرأة, مَكانتها والمساحة المعطاة لها تحت مِحك الحوار. ما تطرحه «أسما» هو محاولة فهم وإدراك سَيْرورة, أبعاد هذه الحوارات من جهة, ومن جهة أخرى النظر إلى نتائج, تأثير وسيطرة هذه الحوارات المشوهة على واقع المرأة والرجل وبالتالي قِياس قُدرة احتمال هذه الحوارات السائدة على التَّغَيُر الذي قد يجلب تَغْييراً. الإسلام لا يُهدد الحوار والحوار لا يُهدد الإسلام، وما بينهما «المرأة» الإنسان, لا تُهدد الإسلام والرجل ليس عَدواً للمرأة, الوحيد الذي قد يُهددهما اثنينهما هو تفسير مشوه للإسلام أو حوار سائد لا يَرْبط, يوسع ويُقرب بينهما كواقعين وكعالمين, حوار سائد لا يجلب مساحة اكتشاف مختلفة, الاكتشاف الذي يعني التَطَّلُع والتَطَّلع الذي يَعني التغيير, الإسلام لانهائي شرط أن يكون الحوار لانهائياً. العلاقة بين الإسلام والحوار هي بالذات مساحة التَّغيير, مِساحة التغيير من صنعنا لأنها الأمل الوحيد لصوت من لا صوت لهن!
تؤمن «وايس» بأن بإمكان النساء حول العالم, أن يضفن إلى الحوار الإسلامي النسائي سيناريوهات جديدة ومختلفة أوسع من مفهوم «مساواة» من منظور الحرام والحلال الممنوع والمسموح. سيناريوهات تخلق فضاءً للحوار, الذي من شأنه لاحقاً أن يخلق واقعاً جديداً. مشروع «وايس» يحوي نساء يجتمعن حول هدف كما تجتمع أجساد مقرورة بالبرد فوق موقد أو كما تجتمع طيور جوعى على طعام, الفارق أن هذه الجماعة لم تجتمع بشكل عشوائي ولن تتفرق أيضاً عشوائياً, بل اجتمعت من اجل هدف طويل المدى, بل أوسع من ذلك اجتمعت لأن هناك حاجة ماسة إلى التآخي, لمساحة حميمية تتلامس بها كل هذه القصص الحزينة المتعبة. السؤال الذي قد يَطرح نفسه الآن هل ما زالت العدالة تمر من خلال السيناريو الإسلامي الشرعي؟ وكيف؟ هل ينجح طرح إسلامي نسائي اليوم بتغيير ديناميكية الحوارات السائدة أم قد يَزيدها عِناداً وإصراراً على سيناريوهات مشوهه؟! أسئلة كثيرة لا إجابات لها ولكن ما أؤمن به هو احتمالات الحوار والأصوات الجديدة التي قد تنضم اليه, وما اعرفه أن هؤلاء النساء لم يجتمعن من اجل شن هجوم على احد، اجتمعن لأن حجم الظلم بات بعلو السماء الأولى!
(كاتبة فلسطينية)
السفير الثقافي