ازدواجية قاتلة!
ميشيل كيلو
في أخبار الصحف لهذا اليوم (24/8/2010) نبأ يهز البدن ويعكر المزاج والعيش، يقول: إن 700 ألف مصري يريدون مغادرة وطنهم إلى الدول الغربية عامة وأمريكا خاصة. هذا الحشد الهائل من الخلق يتكون بالتأكيد من شبان وشابات، فكبار السن لا يهاجرون، وكذلك السيدات المسنات. والشبان والشابات في بلداننا ثروة وطنية، ليس فقط لأنهم نالوا قسطا ما من التعليم، كلف أهليهم والدولة مبالغ طائلة، بل كذلك لأنهم مواطنون يحتاج إليها الوطن، ترشحهم ظروف تطوره الطبيعي للعب دور في شؤونه ومصيره، يتوقف عليه تطوره وتتقرر من خلاله مكانته بين الدول والشعوب.
لم أقم بدراسة ميدانية لأحوال هؤلاء المصريين ولدوافعهم الاجتماعية والشخصية. لذلك، سأكتفي بتخمين الأسباب التي دفعتهم إلى اتخاذ موقف يعني قطيعتهم مع وطن ولدوا وترعرعوا فيه، يلزمهم انتماؤهم إليه بوضع قدراتهم تحت تصرفه، مثلما تلزمه هويتهم كمواطنين بإيجاد فرص عمل دائمة لهم، وبضمان مستقبل مستقر يقيهم غائلة البطالة والحاجة والجوع، ويمكنهم من تحقيق بعض ما يصبون إليه من كرامة وحب، ويتيح لهم تكوين أسر وتنشئة أطفال، وأخيرا تمضية كهولة وشيخوخة هانئتين، ناهيك عن مد يد العون لذويهم ومحبيهم، وممارسة دور يسهم في إيصالهم إلى مكانة محترمة في مجتمعهم، ويعزز موقعهم من وطنهم، في كل ما يتصل بعلاقاتهم مع مواطنيهم، أو بأنشطتهم العلمية والعملية، أو حريتهم وحقوقهم كبشر ومواطنين، سواء في المجال العام أو الخاص.
لنتأمل الآن ما نعرفه عن أحوال مصر العامة، التي يرجح أن يكون لها علاقة باوضاع طالبي الهجرة هؤلاء.
– تقول الإحصاءات إن مصر تعاني من فائض سكاني يبلغ عدده ما بين عشرة ملايين وعشرين مليونا من المواطنين. يوجد في مصر عدد من البشر يشمل ربع سكانها تقريبا، ليس له ما يبحث عنه أو يحصل عليه في الحياة / الدنيا. هذا العدد الهائل ما كان يجب أن يولد، لأنه لن يجد بكل بساطة مكانا له فيها، ولن ينال أية خدمات أو أي عمل، فإن حصل على شيء منهما، يكون قد أخذه من حصة مواطن آخر، وإن ذهب إلى المدرسة فانه يجلس في مقعد تلميذ آخر، ليس بالأصل مخصصا له ويفترض أنه ليس له مكان فيه، وإن تناول طعاما يكون قد أكل من حصة غيره، علما بأن المواطن العادي، الذي لا ينتمي إلى هذا الفائض، يعيش تحت وطأة ظروف حرمان قاتل، يفتقر بسببه إلى حد أدنى من الخدمات والحقوق، فهو فقير وجائع وعاطل عن العمل وأمي وهامشي لوجود: حصته من الحياة محدودة إلى حد يثير العجب، واستمراره فيها لغز يصعب فهمه وفك أسراره وطلاسمه الغامضة.
– تقول الإحصاءات إن المساحة من الأرض، المخصصة لتغذية الفرد الواحد، تتناقص بتسارع يومي، والتوسع في الأرض الزراعية محدود وبطيء، بينما الصناعة أشد ضعفا، وأقل كثافة، وأكثر تأخرا من أن تقدم فرص العمل لنيف ومليونين من المواليد الجدد، الذين تتحدى تكلفة تشغيلهم قدرات الموازنة المصرية جميعها، ولا تترك أمام الدولة غير أحد خيارين: تشغيل العاطلين اليوم وإهمال المواليد الجدد وتركهم لموت بطيء ومؤكد، مع ما ذلك من خطورة على وجود النظام وربما البلد، أو إهمال العاطلين الحاليين وترك ملايينهم للموت البطيء، وتشغيل القوى العاملة الجديدة، التي تتزايد أعدادها إلى درجة ستفوق طاقات وقدرات أي دولة تدير مصر، مهما كان نوعها: ديمقراطيا أم استبداديا، ملكيا أم جمهوريا … الخ. يحدث هذا، بينما يفضل القطاع الخاص العمل بتقنيات موفرة للأيدي العاملة أو مستقطبة للعمال المهرة من مهندسين وإداريين وفنيين، وتطرد الزراعة فائض الريف السكاني الكبير إلى مدن تكتظ أكثر فأكثر بالمشردين والجياع وتكتسب سحنة ريفية، آخذة مصر معها إلى الهاوية بدل أن تحقق ما سبق للمدينة الأوروبية أن فعلته، عندما تكلفت بإخراج المجتمع من حالته الريفية وأدخلته إلى مدينة امتدت إلى الأرياف وسكانها، وجاءت به من حالته الزراعية إلى حالته الصناعية، فالتقنية. في وضع هذه سماته، ماذا يبقى من خيارات أمام مصر غير خيار جزئي يقوم على عقلنة عمل الدولة وبرامج التنمية وضبط السياسات السكانية وتوسيع علاقات السلطة بالمجتمع وبالمجال العام … الخ، أو خيار بديل، عام وحتمي، يجسده التوجه نحو الوحدة العربية والعمل على حل مشكلات مصر في حاضنة أمتها، الغنية بالأرض والمياه والثروات والأموال والطاقات البشرية والعقول، والتي تمتلك خبرة تاريخية فريدة في بناء الحضارات والدول الكبرى؟ لا حل لمشكلات مصر داخل إطارها الخاص، الضيق جدا والفقير إلى مقومات النهوض المستمر، مهما تعقلن وتعلمن وتدقرط؟ وللأسف، فإن الحكم في مصر ليس في وارد أي من هذين البديلين: فهو لا يعقلن عمله بل يضفي عليه طابعا عشوائيا وعنفيا متزايدا، ولا يعمل لوحدة العرب بل لعكسها، وهو يبعد مصر عن عالمها العربي، مع أن الوحدة العربية أمله الوحيد وفرصة ليس لديه غيرها، إن كان يريد حقا نجاة شعبه ودولته.
– يقول العقل، وتقول معلومات مؤكدة: إن جسد المجتمع المصري أصيب بتهتك متزايد بعد فشل ثورة يوليو، للسببين السابقين، ولسبب آخر هو أن السلطة الممسكة بالدولة أصابته بأمراض عديدة، عبرت عنها منظومة قيم وعلاقات سادت بعد عام 1970، قوضت العقد الوطني/الاجتماعي، وحولت السلطة من جهة تقف في صف الشعب إلى طرف معاد له، ووضعتها على الجانب الآخر من المتراس، واليوم، يبدو بوضوح أن المجتمع المصري بدأ يخرج من نظامه وسلطته وعليهما، وأن الأخيرة لم تعد تجد وسيلة لمخاطبته غير القمع والإفقار والإفساد والتجويع. أمن المستغرب أن يعلن سبعمئة ألف مصري تقتلهم هذه الظروف عزمهم على ترك وطنهم إلى بلدان يفترض أنها معادية أو عدوة ؟ أليس أمرا مفهوما ،وإن كان غير مقبول بطبيعة الحال، أن يدفع الاحتجاز العام على صعيد السلطة، والعجز والضعف السياسيان على صعيد المجتمع (السائدان في كل مكان من عالم العرب) المواطن المصري (والعربي) إلى يأس يقتل وطنه في نفسه، ويرغمه على جعل الهجرة محور حياته، بغض النظر عن الجهة التي يقصدها والثمن الذي يدفعه!. لا أمل في فرصة، إذا ما استمرت الظروف السياسية والاجتماعية والتنموية الراهنة. ولا أمل إن واصلت السلطة سد منافذ الرجاء، والقضاء على الحرية كحاضنة روحية ومادية تعين المواطن على إبقاء أبواب روحه مفتوحة على كرامته ووطنه في آن معا، وتحمله بعض المسؤولية عن نجاحه أو فشله، إن هو قصر في الإفادة منها للدفاع عن حقوقه ومصالحه. في ظل الاحتجاز العام، اليومي والملموس، وانسداد الأفق الفردي/الشخصي، لا يبقى للمواطن غير مهرب واحد هو الانتحار أو الفرار من وطنه إلى أي مكان تزين له مخيلة المقهور أنه سيجد فيه المن والسلوى، أو على أقل تقدير لقمة العيش ونسمة الحرية. يقول رقم طالبي الهجرة المخيف: إن لدى المصريين رغبة صريحة في الهجرة الجماعية من وطنهم، الذي لا يجدون مكانا أو عملا أو علما أو حرية فيه، ولا يعتبرونه وطنا لهم، لأن الوطن هو، كما قال روبسبيير، ليس ترابا وأرضا، بل هو مكان يعيش المواطن فيه بكرامة وحرية. هذه الرغبة ليست محض مصرية، بل هي رغبة عربية أيضا، يتقاسمها المواطنون العرب في كل أمصارهم وأقطارهم، عدا ربما بعض دول الخليج، التي تبدو وكأنها تنجو من الغرق العربي الشامل، الذي لا يوفر بلدا أو أحدا، بما في ذلك بلدان ‘فرقة أهل السلطة الناجية’.
ربما كانت أزمة مصر فاقعة أكثر من أزمات بلدان العرب الأخرى. لكنه يوجد في بلد عربي مصره أو شيء منها. كما تمصر الوضع العربي وحمل سمات شبيهة بتلك التي ذكرتها: ككثافة الفائض السكاني وتراجع الرقعة الزراعية، وانهيار العقلانية الإدارية والتنموية والقانونية، وسيطرة العنف والقمع على علاقات الحاكمين بالمحكومين، وانقسام البلاد إلى عالمين متنافيين: عالم فوق يضم قلة متناقصة من الحكام والملاك، وآخر تحت فيه كل من هب ودب من الشعب: أي نيف وتسعين بالمئة من بنات وأبناء الوطن المفدى. لا عجب أن ما يدفع المصريين إلى الهجرة يدفع غيرهم إلى طلبها، وأن بلدانا ذات ثروات مهمة تعيش اليوم على هجرة بناتها وأبنائها: على تصديرهم كمادة بشرية خام أو مؤهلة، يفترض أنها رأس مال الوطن والقوة التي ستأخذه إلى المستقبل الزاهر!.
ذات يوم، قال موظف أميركي يعيش في سفارة بلاده لدى دولة عربية مشرقية، تعقيبا على طوابير الواقفين أمام أبواب السفارة منذ أيام، رغم ما يتعرضون له من إهمال وسوء معاملة: لو فتحنا باب الهجرة، لما بقي أحد في هذه البلاد!.
كنا في هجرة العقول، فصرنا في هجرة تشبه فرارا جماعيا من الجحيم!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي