كردستان المسيار
هوشنك بروكا
كثيراً ما يجري الحديث في وسائل الإعلام الكردية الحزبية الرسمية منها أو الفوق رسمية، عن “كردستان الحرة”، و”مؤسساتها الديمقراطية”، و”الفصل العلماني” المفترض بين سلطاتها، وسوى ذلك “حدوتات” كرديات، عن “الحريات” و”الديمقراطيات” التي يُراد لها أن تكون مفصلةً، على الطريقة الكردية “الفاخرة”.
والأنكى أنّ لهذه “الموديلات” من الحرية وخالاتها وعماتها، في كردستان وخارجها، منظروها الكبار في “الفوق فوق”، الذين يكتبون ليل نهار، في مديح هذه التجربة “الفريدة”، كردياً. لا بل أنّ البعض من هؤلاء، يذهب أبعد من ذلك بكثير، إذ يريد لهذه التجربة أن تعمّم في عموم المكان والمنطقة برمتها.
لا يُنكر، أن كردستان في “عراق هولير”، هو عراقٌ آمن نسبياً، مقارنةً مع عراق بغداد. وهذه نقطة تُسجل للفوق الكردي هناك، الذي استطاع للآن أن يحمي كردستانه من “حمى” الإرهاب وحممه.
ولكن هذا ليس كلّ شيء.
كردستان الفساد الراهن، من أعلى فوقٍ فيها إلى أدناه، ليست بخير، كما يُزمّر ويطبّل لها، حسب “متطلبات ظروف المعركة المصيرية”، هنا وهناك.
فالمتابع لشئون “كردستان الفوق” وتحالفاته وتعاقداته وتعهداته هناك، سيلحظ بأنّ كردستان بالنسبة للفوق الحاكم، ليست أكثر من “مزرعة ترانزيت”؛ وطن بلا “ميعاد”، أو وطن “تعهدات ترانزيت”، و”عقود ترازيت”، و”قرارات ترانزيت”، و”سياسات ترانزيت”، و”مليارات ترانزيت”.
كردستان الآن، هي كردستان حاضرة فقط، لا مستقبل منظور فيها.
هي كردستان “مرفّهة” جداً في الفوق، و”مدشرة” جداً في التحت.
كردستان “من برّا هلاّ هلاّ ومن جوا يعلم الله”.
بناء القصور في أعلى كردستان، يتقدم بكثير، على بناء المصانع والمنشآت والمشاريع الحيوية في تحتها.
منارات الجوامع، هناك، تعلو بكثير، على منارات العلم والمدارس والجامعات.
بناء ورصّ صفوف الحزب، هناك، هو أهم بكثير من بناء الدولة ومؤسساتها.
وبناء كردستان في عشيرة، هناك، يتفوق بكثير، على بناء كردستانٍ في وطن.
كردستان الموجودة هناك، كما عايشتها في النصف الأول من يوليو الماضي، هي “كردستان المسيار”؛ كردستان متزوجة من ثلاث(حزب+دين+عشيرة)، على طريقة المسيار.
المعروف في هذا الزواج، هو أنه زواج “سيّار”، سهل العبور؛ زواجٌ “ساير” أو “ماشي”، سهل الأثقال والمتاعب والواجبات. فالمسيار، هو “المرور السهل”، وعدم المكث الطويل في مكان.
والمسيار لغةً(حسب “لسان العرب”)، هو من السير، أيّ المضي في الأرض، يقال: سار يسير مسيراً، وتسايراً، وسيرورةً، إذا ذهب.
وتقول العرب: سار القوم يسيرون سيراً ومسيراً، إذا امتد بهم السير في جهة توجهوا لها، والتساير تفاعل من السير، ومسيار صيغة مبالغة، يوصف بها الرجل كثير السير، تقول: رجل مسيار وسيّار.
أما المسيار في اصطلاح أهل الفقه والفتوى، ف”هو الزواج الذي يذهب فيه الرجل إلى بيت المرأة، ولا تنتقل المرأة إلى بيت الرجل؛ وفي الغالب تكون هذه الزوجة ثانية، وعنده زوجة أخرى هي التي تكون في بيته وينفق عليها”.
أما الأسانيد التي يستند إليها هذا “الزواج السيار”، فهي نصوصٌ من القرآن والسنة النبوية.
من هذه النصوص مثلاً:
“وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً(النساء: 24)
“وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ”(البقرة: 236)
وروى البيهقي في سننه الكبرى عن محمد بن كعب. ان ابن عباس قال: كانت المتعة في اول الاسلام وكانوا يقرؤن هذه الاية، “فما استمتعتم به منهن إلى اجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضةً”.
وجاء في صحيحي البخاري ومسلم ومصنف عبد الرزاق واللفظ لمسلم عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الاكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله ( ص ) فقال: ان رسول الله قد اذن لكم ان تستمتعوا يعني متعة النساء.
وعن الرَّبيع بن سبرة الجهني، عن أبيه: أن النبي قال: استمتعوا من هذه النساء والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج”.
إذن، الأساس في هذا “الزواج السيار”، هو أنه زواج “متعة سيارة”، أو زواج للإستمتاع “الفاخر”، بإمتياز.
هكذا هي كردستان الآن: “زوجة مسيار”، ل”متعة سيارة”، يستمتع بها الفوق الكردي الممثل بثلاث: الحزب والدين والعشيرة.
هذا الفوق أو “الزوج المثلث”، هو المتزوج الأكيد من كردستان، والمستمتع الوحيد بها، على طريقة “المسيار” الكردية.
صحيح أنّ الضلع الأساس في هذا المثلث السلطوي في كردستان هو الحزب، ومن الحزب هو البارتي الديمقراطي الكردستاني، ومن هذا الأخير هو العشيرة، ومن هذه هو صفوتها، أو “قريش كردستان” الممثل ب”آل بارزان”، ولكن الصحيح أيضاً، هو أنّ لا قرار في كردستان، دون أخذ مصالح هذا المثلث، قليلاً أو كثيراً، حسب الحاجة، بعين الإعتبار.
فمن مصلحة هذا الزواج الكردي المسيار، أن يُختزل الفرد في الجماعة، وأن تُختزل المواطنة في التبعية، والحرية في العبودية، والجامعة في الجامع، والمدينة في الخيمة، والوطنية في “العصبوية”، وكردستان في الحزب، وصورة الوطن في صورة القائد(لقراء إيلاف حصراً: هذه العبارة تشمل كل القادة الكرد بدون استثناء، بدءاً من البارزاني مروراً بالطالباني وليس انتهاءً بأوجلان).
من مصلحة هذا الزواج “الممتع” كردياً، أن تعلو “متعة” الفوق بكردستان، على متعة المواطنين في كردستان.
من مصلحة هذا الزواج وأربابه، أن تعلو فنادق “خمس نجوم” على حريات وحقوق خمس نجوم.
هناك من يسمي زواج المسيار ب”زواج النهاريات”، كما كان يعرف في أيام المتصوف المتكلم الحسن البصري(المولود في المدينة عام واحد وعشرين والمتوفي سنة عشر ومئة للهجرة).
وذلك لأن الزوجين في المسيار، يتفقان في الأساس، على ألا يكون للزوجة حق المبيت والسكنى ولا الحقوق المالية. فالزوج له كامل الحرية، بأن يدخل على زوجته في أي ساعةٍ من ساعات الليل أو النهار.
وهكذا هي حال “كردستان المسيار”، مع أزواجها الثلاثة.
كلٌ يستمتع بها وقت يشاء، وبالطريقة التي يشاءها، في “متعة الفراغ” المشاءة.
فهذا يريد كردستان ل”متعة صفراء”، وذاك يريدها ل”متعةٍ خضراء”، وآخر يريدها ل”متعةٍ محجبة أو مخمّرة أو مبرقعة”.
الكل في هذا “المثلث العالي”، يبحث عن متعته، “العالية”، الكاملة غير المنقوصة معها، وكردستان هي الضحية.
الكل في هذا “الفوق المسيار”، يجمع ملايينه وملياراته، ويهرّبها إلى “متعته الأساس”، خارج كل كردستان، وكردستان هي المستمتَعة بها أبداً.
الكل من كلّ فوقٍ، ينام معها، بحريته، ولحريته، مع كردستان، وكردستان تبقى هي الخارجة عن كل حرية.
الكل القائم على شأن الفوق المكوّن من “العصبيات الثلاث”، يشرّع لزواجه المسيار من كردستان، وكردستان تبقى “وطناً مسياراً”، لا يستقرّ فيه شرعٌ أو قانون.
كردستان، والحالُ، هي “زوجة مسيار”، لثلاث، هم الحزب والدين والعشيرة.
كردستان الآن، ليست “وطناً” للإستمتاع، ليستمتع المواطن به وفيه ومعه، بقدر ما أنها “وطن” لمتعةٍ سيارة، لفوقٍ كرديٍّ مسيار.
كردستان، تمشي بالمسيار، تقوم وتقعد بالمسيار، تنام في المسيار وتستيقظ على المسيار:
الحكومة فيها مسيار، والبرلمان مسيار، والقضاء مسيار، والجريدة مسيار…
كردستان هي ثلاث، أو “زوجة مسيار” تحت ثلاثة: “رّب الحزب”، و”ربّ الدين”، و”رّب العشيرة”.
ايلاف