لماذا لا تذهب إسرائيل إلى التسوية حقاً؟
ماجد كيالي
إسرائيل دولة احتلال، باعتراف دول العالم، بما فيها حليفتها الولايات المتحدة الأميركية، وأيضاً بحسب القوانين الدولية، ومع ذلك فإن بوسع هذه الدولة طرح شروطها في عملية التسوية، على الفلسطينيين والعرب، وحتى على المجتمع الدولي!
وقائمة شروط إسرائيل طويلة، وحتى أنها فريدة في نوعها، بحيث لم يسبق أن شهدت التجارب الاستعمارية، بما فيها تجربة الاستعمار الاستيطاني في جنوب إفريقيا سابقاً، مثيلاً لها. وتتضمن هذه القائمة، مثلاً، اعتراف الفلسطينيين، الذين يخضعون (في الضفة وغزة ومناطق 48) للاحتلال والحصار والتمييز العنصري، بطابع إسرائيل كدولة يهودية، ما يعني الاعتراف بروايتها لتاريخ المنطقة وجغرافيتها، والقبول بها كدولة أصولية (يهودية)؛ وهي التي تدعي بأنها دولة حداثية وعلمانية. وثمة شرط آخر يتعلق بضمان الفلسطينيين أمن إسرائيل وقبولهم بإقامة دويلة لهم ولكن منزوعة السلاح، لكأن هذه الدويلة يمكن أن تشكل تهديداً لإسرائيل المدججة بالسلاح، والتي تحتكر السلاح النووي في المنطقة، وتتمتع بضمانة الدول الكبرى لأمنها. علماً أن إسرائيل تعتبر من بين أكبر خمس دول مصدرة لتكنولوجيا التسلح في العالم، مع قدرة تصديرية للسلاح تصل إلى عشرة مليارات دولار في العام.
فضلاً عن هذا وذاك فإن إسرائيل تشترط اعتبار إقامة الدولة في الضفة والقطاع بمثابة نهاية لمطالب الفلسطينيين، وهو شرط ينطوي على نية مبيتة بعدم تلبية حقوقهم الوطنية (وضمنها حقوق اللاجئين المتعلقة بالعودة والتعويض)، تماماً بقدر ما أنها تنطوي، أيضاً، على عنجهية غير مسبوقة، وعلى مصادرة للمستقبل.
أيضاً، وضمن شروط إسرائيل ثمة شرط يتعلق بتبادل الأراضي، ويقضي باحتفاظها بالكتل والتجمعات الاستيطانية في القدس والضفة داخلها، مع ما يتضمن ذلك من منح إسرائيل مكافآت على احتلالها أراضي الفلسطينيين ومصادرتها لحقوقهم وأرضهم، بدل معاقبتها على ذلك؛ تماماً مثلما تتطلّب من الدول العربية تطبيع علاقاتها معها مقابل التسوية.
وأخيرا وفوق كل ذلك، ثمة شرط آخر لإسرائيل يتضمن قبول التدرجية في تنفيذها الاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية (رغم الإجحافات الكبيرة فيها بالنسبة لحقوق الفلسطينيين) بدعوى ضرورة مراعاة مشاعر الإسرائيليين، وتخفيفاً من “الآلام” التي سيتكبدونها جراء التسوية(!) وتخوفاً من انهيار الائتلاف الحكومي.
على ذلك ثمة أسئلة مشروعة تطرح نفسها في هذا المجال، ومثلاً، من أين لإسرائيل هذه البجاحة على طرح هذه الشروط، وهي دولة استعمارية وعنصرية وقهرية بنظر العالم؟ وما الذي يشجعها على ذلك؟ ثم ما الذي لا يجعلها تُقبِل، أو تتهافت، على المفاوضات أو على التسوية، برغم عوائدها الأمنية والسياسية والاقتصادية عليها؟
في الواقع، ومن وجهة نظرها، فإن إسرائيل تعتقد أن ليس ثمة ما يضطرها، لا بالوسائل السياسية ولا بالوسائل العسكرية، لتقديم “تنازلات” سياسية. في عملية التسوية، وهذا ما أوضحه مراراً وتكراراً بنيامين نتنياهو باعتباره أن الحفاظ على إسرائيل القوية أهم من عملية التسوية، وبتأكيده أن إسرائيل تستطيع تدبّر أمرها من دون تسوية، وعبر فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين.
وعند نتنياهو، ومعظم أطراف ائتلافه اليميني، فإن عملية التسوية من شأنها أن توهن إسرائيل، وأن تخلق الشقاق في المجتمع الإسرائيلي، وأن تضعف صدقية الصهيونية، وأن تشجع الآخرين على استمرار تحدي إسرائيل. وكلنا نذكر تصريحات أفيغدور ليبرمان، بهذا الصدد، والتي دعا فيها دول العالم إلى ترك إسرائيل وشأنها والانصراف نحو حل المشاكل في باكستان وأفغانستان وإيران والعراق!
وفي الحقيقة فإن إسرائيل تنظر حولها فلا تجد ما يضغط عليها، بل إنها تجد قابلية لهضم شروطها، وتملصاتها، في ظل تفرق النظام العربي وشدة وهنه. ومن الناحية الأمنية فإن إسرائيل تجد نفسها، برغم كل التعقيدات، في وضع آمن، حيث الحدود هادئة، والفلسطينيون في الداخل غاية في الانقسام والإرهاق والضياع. وبحسب شالوم زاكي (بروفسور في جامعة بن غوريون وباحث في مركز أبحاث الأمن القومي) فإن تفسير ابتعاد إسرائيل عن عملية التسوية يكمن في أن “ظاهرة الإرهاب الفلسطيني.. اختفت بصورة شبه كلية.. وعلى الحدود الشمالية – مقابل حزب الله، وعلى الحدود الجنوبية – مقابل حماس، نجحت إسرائيل في خلق توازن ردع.. وفي الضفة الغربية.. لا يبدو أن الجماهير الفلسطينية ستعرض للخطر حال الازدهار الاقتصادي من خلال الدخول في مواجهة حربية إضافية مع إسرائيل، والتي من شأن نتائجها أن تكون كارثية من وجهة نظرهم. على الجبهة الداخلية الإسرائيلية أيضاً لا توجد ضغوط حقيقية على الحكومة.. فنتائج الانتخابات الأخيرة وجهت ضربة قاسية إلى اليسار في إسرائيل.. وفي النهاية، فإن الرافعة الأساسية التي في مقدورها حث التسوية، الإدارة الأميركية، لا تمثل الآن عنصر ضغط حقيقياً على إسرائيل.. الطرف الفلسطيني، أبو مازن، غير قادر على “توفير البضاعة”. (“نظرة من الأعلى” 24/11/2009 نشرة صادرة عن مركز أبحاث الأمن القومي في تل أبيب)
ويحاول ألوف بن، شرح هذا الوضع من ناحية الإسرائيليين بالتالي: “أكثر الإسرائيليين مقطوعون اليوم عن النزاع مع الفلسطينيين ولا يحتكون بهم. فهم يرونهم شخوصاً غير واضحة في الأخبار.. تبعد نابلس ورام الله نحو أربعين دقيقة سفر عن تل أبيب، وهما موجودتان في نظر الناس في تل أبيب في كوكب آخر.. المستوطنون وراء جدار الفصل هم الإسرائيليون الوحيدون الذين يقابلون الفلسطينيين.. من خلال نافذة السيارة في الشوارع المشتركة.. يمكن السفر إلى المستوطنات الكبيرة مثل معاليه ادوميم واريئيل من دون رؤية الفلسطينيين تقريباً.. تزيد العزلة الفرق بين شكل رؤية الإسرائيليين لدولتهم وشكل رؤية العالم لها.. بسبب العزلة وعدم الاكتراث، لا يوجد ضغط عام على الحكومة للانسحاب من “المناطق” ولإقامة دولة فلسطينية”. (“هآرتس”، 13/1)
حتى من حيث العوائد الاقتصادية فإن النجاح الإسرائيلي يشجع أيضاً على تجاهل مفاعيل التسوية. ومثلاً، وبحسب التقديرات، فإن الناتج القومي السنوي لإسرائيل في هذا العام بلغ حوالي 230 ملياراً من الدولارات، وبلغت حصة الفرد فيها حوالى 27 ألف دولار سنوياً، وكل ذلك مع قدرة تصديرية قدرها 40 ملياراً من الدولارات. وبحسب يعقوب عميدور فقد ازداد عدد الإسرائيليين الذين يعودون من خارج البلاد بـ10 في المئة. في الجانب الاقتصادي أيضاً.. نجحت إسرائيل في مدة زادت على 60 سنة في إقامة اقتصاد فخم برغم الضغط الأمني” وبالنظر لكل ذلك فإن عميدور يطالب إسرائيل “أن تفكر بجدية في تفاوض لا يوجد في أساسه كثير من التنازلات للفلسطينيين. في الأمور المهمة – مثل حدود قابلة للدفاع عنها، وإنهاء النزاع والاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، ومنع إعادة اللاجئين إلى داخل إسرائيل ومكانة إسرائيل في القدس القديمة – يجب على إسرائيل أن تكون عنيدة”. (يعقوب عميدرور، “إسرائيل اليوم”، 20/1/2010)
وبعد كل ذلك هل ثمة بعد ما يدعو للتساؤل بشأن عدم جدية إسرائيل للتسوية، أو بشأن تهربها من هذه العملية التي بدأت منذ مطلع تسعينات القرن الماضي؟!
المستقبل