السلطة الفلسطينية لا تملك حتى… الاستسلام!
نهلة الشهال
لولا أن الفصائل الفلسطينية – عملياً كل التشكيلات السياسية ما عدا حركة فتح – أرفقت العودة إلى «المفاوضات المباشرة» بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بضجة تقوم على إدانتها، لما انتبه أحد إلى استئنافها، ولما اكترث! وعلى رغم الاحتفالية التي شاءها الرئيس الأميركي للحظة الانطلاق: في واشنطن، وبرعايته وحضوره، وبمشاركة الرئيس حسني مبارك والملك عبدالله الثاني، فالواقع أن أهمية تلك المفاوضات تكمن، فحسب، في لحظة انطلاقها أو استئنافها تلك، أي في احتفالية يوم الخميس الفائت… والسلام!
وليس في ذلك تقليل أو استخفاف بالنصر الذي انتزعه بنيامين نتانياهو بفرض عودة السلطة إلى التفاوض مع حكومته «بدون شروط مسبقة»، وترجمتها المباشرة بدون وقف أعمال الاستيطان التي تَسبب التوسع بها بتجميد المسار التفاوضي السابق. إلا أن تلك الـ «بدون» تضمر أيضاً الانطلاق من صفحة بيضاء، تتجاهل تاريخ التفاوض نفسه واستعصاءاته، كما ترضى بالواقع الذي أنشأته إسرائيل على الأرض. بل هي تمهد لرخاوة في المعايير، خطيرة، على رأسها التباس – على الاقل – في مسائل توزيع الاستيطان بين مشروع (في القدس) وآخر يمكن التفاوض على تجميده، ويهودية الدولة الإسرائيلية، وموضوع حق عودة اللاجئين. ويمكن السلطة الفلسطينية أن تهدد ما شاء لها بأنها ستنسحب من التفاوض فوراً يوم 26 أيلول (سبتمبر) الجاري إذا واصل الإسرائيليون أعمال توسعة الاستيطان، على ما قال نبيل شعث. فما يعرفه الجميع هو أن من وما أجبر السلطة على استئناف التفاوض يجعل هذا الاحتمال ملغى. وسيتعين على السلطة الاستمرار في التفاوض كغاية بذاتها، بعدما اتبعت سياقاً عاماً أوصلها إلى مكان مختنق، بينما تستكمل إسرائيل تنفيذ خطتها على الأرض، وبوصلتها المعلنة تقوم على «استكمال 1948» على ما حدد أرييل شارون حين عاد إلى السلطة في شباط (فبراير) 2001. وكل ما عدا ذلك ثرثرة وبهرجة سمجة، أدهى ما فيها أن أطرافها يعرفون ذلك ويكادون يقرون به علناً. وهذه حالة فريدة. فغالباً ما يغلف أية مفاوضات شيء من الإيمان بها، أو من توقع تحقيق انجازات بواسطتها. أما هنا فتتلخص وظيفة المفاوضات في مدلولاتها الرمزية والشكلية.
ذلك أن السلطة الفلسطينية الحالية، حتى لو (وعلى فرض) أقرت خلال التفاوض بتنازلات كبرى أو صغرى، ووقعت عليها، فسيكون لذلك نتائج محدودة للغاية. مسألة الشرعية هنا أساسية. فإسرائيل قادرة على القيام بما ترغب به بالقوة، وهي تفعل بلا تردد، وبتوسع وسرعة ونهم. ولكن ذلك يبقى مطعوناً به ما لم يجزه أصحاب الحق الأصلي، أي الفلسطينيون أنفسهم. ولو كان من يفاوض اليوم، أو يتنازل، هو ياسر عرفات مثلاً، لكان لذلك وزن وأثر كبيران، تماماً كوزن وأثر ومفاعيل اتفاقيات أوسلو، أو بالعكس، كوزن وأثر ومفاعيل انهيار ما كان يؤمل أن يكون اتفاق كامب دايفيد الثاني، وأبطله أبو عمار نفسه وتحمل نتائجه. والسلطة الحالية تعرف ذلك، وتطمْئن الفلسطينيين بأنها «لن تفرط»، أي أنها لن تجرؤ على انجاز أي شيء. بمعنى أن للاستسلام نفسه شروطاً، وهي غير متوافرة في السلطة الفلسطينية الحالية!
خطة السلطة قائمة إذاً على التفاوض من أجل التفاوض، وهو ما تسميه أحياناً كسباً للوقت وتجنباً لإغضاب المتنفذين الدوليين وعلى رأسهم واشنطن. فحصول الغضب، لو حصل، انكشاف خطير لها، حيث أسس شرعيتها المحلية أو الذاتية منخورة تماماً، وهي لا تملك سوى الاعتراف الدولي الرسمي بها. ولكن مرونة السلطة احتاجت هذه المرة، من فرط ما استهلكت نفسها، لرعاية الرئيسين العربيين. وهنا لا بد من ملاحظة أن واشنطن ترمي بذلك بكل أوراقها في الميدان، وتستخدمها لتحقيق غاية شكلية هي استئناف التفاوض فوراً في الملف الفلسطيني. فعلى رغم فشل جولات جورج ميتشيل المتكررة، وعلى رغم عدم توافر معطيات تسمح بتوقع أي نتيجة، يحتاج الرئيس باراك أوباما إلى تعزيز موقعه قبيل الانتخابات النصفية، والى التخفيف من سطوع الفشل الأميركي في العراق وأفغانستان، حيث اختار (ولكن هل كان بإمكانه سوى ذلك؟) ليس الانقلاب على تركة سلفه، بل حملها واستئنافها، أي الاستمرار فيها أو السعي لإدارتها بالتي هي أحسن.
في العراق، عجزت كل مناورات واشنطن وضغوطها عن الاعتداد بتقدم في الموقف السياسي، وهي اضطرت إلى سحب قواتها المقاتلة (وهذا بعيد بالطبع من أن يكون نهاية الاحتلال) في ظل فراغ سياسي مشهود ومفتوح على المجهول، محيطة ذلك بجملة تلخيصية مبهمة بقدر ما هي ذات دلالة على «الاستمرارية» تلك، أطلقها الرئيس أوباما نفسه، وتعلن أن أميركا «لن تحتفل بالنصر ولن تهنئ نفسها»، ليس لأن احتلال العراق كان جريمة كبرى أو أقله خطأ، بل لأنه… «ما زال هناك الكثير للإنجاز». وفي أفغانستان، وكما هو ساطع، تتقدم «طالبان» باعتراف «الجنرال المعجزة» بترايوس نفسه، وسط عجز عن المبادرة، أللهم إلا إذا قررت أميركياً مضاعفة العنف العسكري إلى حدود مفتوحة هي الأخرى على المجهول. هذا بينما لا يظهر أن عنق إيران قد لوي أو سيلوى نتيجة العقوبات المقرة في مجلس الأمن. وأما التوتر في لبنان، داخلياً أو من قبل إسرائيل، فيبدو أقرب إلى «التهويش». ولعله يجوز الاستنتاج بأن التوازن القائم في المنطقة بين قوى متنافرة مرشح للاستمرار مديداً، أو هو ليس في وارد الحسم، ولا يبرهن شيء على أنه يتأبد لمصلحة المحور المقرب من واشنطن. وفي هذا السياق/المأزق، يعجز استنفار الرئيس المصري والملك الأردني للمساهمة في منح استئناف التفاوض على المسار الفلسطيني بعض الاحترام، عن إعادة تشكيل ذلك المحور أو عن تعزيزه، بل لعله غرف مجاني من المخزون المتوافر، لا يلغي طبيعته تلك أن له وظيفة أميركية داخلية.
يبقى سؤال البدائل. وما يهم هنا هو التنبه إلى أن تلك ليست حجة بذاتها، بعكس ما تقول السلطة تبريراً، وما يبدو أن السجال الفلسطيني بمجمله يتعقد. قد لا تتوافر «بدائل» بمعناها الفعال والإجرائي والجاهز، وفرضية أن البديل عن التفاوض كما يجري هو الكفاح المسلح خاطئة وليست واقعية. إن ما يبدو ناقصاً في شكل خطير في المسلك والخيال السياسي الفلسطيني، هو القبول بفكرة أن ليس من مصلحة الفلسطينيين اليوم التوصل إلى نتائج، وعليهم تدبر أمورهم وتنظيمها لمقاومة أي محاولة لتسجيل الواقع كما يتحقق. وهم في سياق ذلك وبفعل آليات هذه الوجهة سيكتسبون قوة ذاتية وقدرة على المقاومة وعلى عرقلة المخطط الإسرائيلي، بالتفصيل ويومياً كما في المحصلة العامة. هذا يا قوم ليس شعراً ولا كلاماً نظرياً، بل خيار المقاومة المتاح.
الحياة