اسرائيلصفحات العالمقضية فلسطين

هل تكون المفاوضات المباشرة استدراجاً «لقتل» أبو مازن سياسياً؟

حسن الشامي
يرجح في الظن أن الحكومة الإسرائيلية لن تشن عملية عسكرية واسعة للرد على العملية «الحماسية» التي استهدفت أربعة مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغربية وأدت إلى مقتلهم. ستعض حكومة نتانياهو على الجرح مكتفية بحملة اعتقالات تشارك فيها، إلى هذا الحد أو ذاك، الأجهزة الأمنية الفلسطينية للتأكيد على وجه التنسيق الأمني بين الطرفين اللذين دخلا قبل ثلاثة أيام في مفاوضات مباشرة في واشنطن، برعاية أميركية ومشاركة مصرية وأردنية. صدرت مواقف وتصريحات أميركية وأوروبية، وروسية أيضاً، تدين العملية «الإرهابية» التي حصلت عند مدخل مستوطنة «كريات أربع» في الخليل، وتدعو في الوقت نفسه للعض على الجرح والشروع في التفاوض المباشر على رغم المؤشرات الكثيرة التي تجعل من ممهدات التفاوض وقائع فشل معلن، بحسب ما أعلن في مناسبات عدة المفاوض الفلسطيني نفسه.
والحال أن متابعي المسار التفاوضي الفلسطيني – الإسرائيلي لا يحتاجون هذه المرة إلى حكّ الرؤوس للكشف عن خلفيات ودوافع العملية وحصولها بعد ساعات معدودة من وصول الرئيس الفلسطيني محمود عباس ونتانياهو إلى واشنطن للبدء بالتفاوض. فقد أعلنت كتائب القسام، أي الذراع العسكرية لحركة حماس، «مسؤوليتها الكاملة عن عملية الخليل البطولية».
ولم يكتف المتحدث باسم كتائب القسام بالقول المعهود إن العملية تأتي للرد على جرائم الاحتلال في الضفة الغربية وضد عمليات الاستيطان وانتهاك المقدسات، فهو أعلن صراحة أنها «توجه رسالة للذين يراهنون على السلام بأن التنسيق الأمني لا يفيد وأن خيار شعبنا الأصيل هو خيار المقاومة».
قد يكون مفيداً لفت النظر إلى أن العملية الهادفة إلى توجيه رسالة واضحة في اتجاهات عدة، خصوصاً إلى المفاوض الفلسطيني لرفع درجة قرقعة الطناجر والسلاسل التي يجرجرها، تزامنت تقريباً مع اتهام جماعة سلفية في غزة أجهزة حماس الأمنية بشن حملة اعتقالات في صفوفها إثر اشتباك وقع بين الجانبين قبل يومين من عملية الخليل القسامية – الحماسية. بل حتى أن أحد القياديين في الجماعات السلفية الجهادية، واسمه أبو البراء المصري، رأى في بيان له أن «حماس ليست معنية بأي عمل مقاوم، لذلك هي تحارب كل من يحاول تنفيذ أي هجوم ضد القوات الإسرائيلية، وقد تكررت تلك الحوادث أخيراً بوضوح للعيان ومع تنظيمات أخرى».
يخيل للناظر في هاتين الواقعتين أنه أمام مفارقة غريبة من نوعها وهي أن حركة حماس تطبق في الإقليم الذي تحكمه، أي قطاع غزة، سياسة ضبط للأمن فيما ترفض تطبيق مثل هذه السياسة على يد أجهزة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. قد يكون صحيحاً أن الجماعات السلفية الجهادية ضعيفة الحجم والتمثيل بالمقارنة بسعة التمثيل الشعبي الذي تحظى به حركة حماس والذي حافظت عليه، على ما يبدو، بعد حرب غزة.
غير أن المقارنة هذه لا تغير الكثير في دلالات المفارقة، خصوصاً لدى الراغبين في محاسبة حماس محاسبة جذرية ليس على بعض وجوه أدائها في معقلها الغزاوي، بل على جملة مواصفات تمثيلها وتموضعها الداخلي والأقليمي وصولاً إلى مبرر وجودها. ثمة شيء من هذا القبيل الإعضالي والسجالي في ما يخص حزب الله وسلاحه في لبنان على رغم اختلاف الظروف والمعطيات. ويمكن مط الملاحظة إلى أمكنة أخرى لا تقتصر على البؤر الساخنة، كما هي حال العراق وأفغانستان والسودان واليمن، إذ تطاول أيضاً أمكنة وأوضاعاًَ أقل سخونة. والمقصود بذلك هو ضياع اللحظة أو النصاب الوطنيين اللذين يمكنهما إدراج الانقسامات والخلافات مع الاعتراف بوجودها في وجهة مشتركة. وقد تكون حالة الانقسام الفلسطيني بين حركتي حماس وفتح وتحصن كل واحدة منهما في إقليمها، حالة نموذجية في تذرر النصاب الوطني الجامع. ذلك أن استواء هذا النصاب يتطلب بالضرورة ومسبقاً الاعتراف بسياقات التشكل والبيئات الاجتماعية المتفاوتة ثقافياً ورمزياً لهذا التشكل.
والحال أن عدم الاعتراف بالشروط السوسيولوجية والتاريخية الخاصة بهذا الطرف أو ذاك هو الذي يحول دون تعهد المفاضلة والمنافسة بين قوى وتعبيرات المجتمع، وهو الذي يطلق العنان لتظهير المفاضلة في صورة نزاع مفتوح يهدف إلى الاستيلاء على السلطة وعلى نصاب التمثيل الوطني العريض. وإذا كان ثمة حاجة إلى تعليل أسباب الانقسام الفلسطيني الصارخ وتعيين المسؤولية عنه وعن تجديده، فإن النزاهة تقتضي القول، ها هنا، إن هذا الانقسام لا يعود إلى قصور ذاتي متجذر في العقلية وفي بنية المجتمع الفلسطيني، بحسب أدبيات ثقافوية وجوهرانية مريحة، بل يعود إلى استراتيجيات نافذة وناشطة وبارعة في فنون القسر والضغط والتدجين. بعبارة أخرى، الانقسام الفلسطيني، وربما اللبناني أيضاً، هو محل صناعة وليس ترجمة فورية لكينونة مريضة. ويكفي لهذا استعراض وقائع السنوات التي تلت اتفاقية أوسلو، وفي مقدمها محاولات قتل ياسر عرفات سياسياً قبل قتله جسدياً ورفض قوى دولية نتائج الانتخابات الفلسطينية.
ليس مبالغة القول إن محمود عباس يعرّض نفسه، بامتثاله لضغوط واعتبارات لا تكترث بمتطلبات التماسك الوطني الفلسطيني، إلى موت سياسي. وقد يكون هذا هو المطلوب. فهو يعلم أنه يذهب هذه المرة إلى المفاوضات المباشرة دون أن يمتلك أعذاراً يمكنها أن تقنع أنصاف القانعين وأرباعهم، وهم غالبية البيئة الاجتماعية التي يقف على رأسها. فالاحتجاجات على ذهابه إلى تفاوض تجميلي واستعراضي تتعدى حركة حماس ومناصريها، إذ تشمل مروحة عريضة من القوى والهيئات والفصائل الفلسطينية وغير الإسلامية. وليس هناك ما يدل على احتمال استجابة للحد الأدنى من المطالب الفلسطينية. فالعنوان العريض وشبه الوحيد لهذه المفاوضات، بحسب ما يفهم من تصريحات الرئيس الأميركي والمفاوض الإسرائيلي، هو أمن الدولة العبرية، وبلغة ثبات وجودي لا يعرفه بنو البشر لا في الماضي ولا في الحاضر. ويسعى هذا التطلب الأمني إلى تثبيت صورة عن المجتمع الفلسطيني باعتباره بيئة أشقياء أو مساكين بحيث يجرى التعامل معهم على إيقاع تناوب بين الشفقة والتأديب الذي كلما ازداد عنفاً كلما نجح دوره التربوي. قد يصحو أبو مازن ولكن لن يكون مسموحاً له أن ينهض من متاهة مصنوعة ومفروضة.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى