صفحات العالم

أميركا في العراق … وصراع الإرادات الوطنية

null;

خالد غزال

ينتهي في 31 ديسمبر (كانون الأول) من العام 2008 التفويض الممنوح للولايات المتحدة الأميركية في شأن وجودها في العراق، مما يعني ضرورة خروجها منه وتسليم كامل السلطة للحكومة العراقية ويدور نقاش بين الادارة الاميركية والحكومة العراقية ومعها قوى سياسية من جميع الطوائف والتيارات السياسية حول المرحلة القادمة، في ظل مطالب اميركية تهدف الى البقاء، تواجهها طلبات عراقية تسعى الى نوع ما من «التحرر» من القيود الاميركية المفروضة. فكيف تتجلى المطالب الاميركية راهنا، وما الذي يقابلها عراقيا؟ والى أي حد يمكن المراهنة على تناقض قد يصل الى شيء من التصادم العراقي الاميركي؟ وما حدود الموقف الوطني المتبلور والمنادي بنزعة استقلالية متجددة؟

خلال المفاوضات الدائرة أفصحت الإدارة الاميركية جهارا عن مطالبها قبل الخروج من العراق. تتركز هذه المطالب على جميع المجالات، يريد الاميركيون تسهيلات مفتوحة على الارض وفي الاجواء والمياه العراقية، كما يريدون الاحتفاظ بحق شن عمليات عسكرية لملاحقة الارهاب من دون الرجوع الى الحكومة العراقية، والاحتفاظ بالحصانة القانونية للجنود الاميركيين والمقاولين والشركات الامنية، واحتفاظهم بحق تفسير مفهوم الارهاب من دون إعطاء اية ضمانات لحماية العراقيين من أي اعتداء خارجي. يضاف الى هذه المطالب الامنية مطالب تتصل بالسيطرة على الموارد النفطية وضمان عمل الشركات الاميركية في هذا المجال. وهو شأن يؤبد الاحتلال الاميركي للعراق ويكبله باتفاقات تحرر الجيش الاميركي من عبء الامن، في وقت ينال فيه الاحتلال الاميركي المكاسب إياها التي دفعته في السابق الى الاحتلال العسكري.

يتفق العراقيون بأن معاهدة ما لا بد أن توقع مع الجانب الاميركي تتيح لهم تنظيم العلاقة المستقبلية وتحدد ما هو مسموح وممكن في هذا المجال. لكن خلافات كثيرة تسود أوساط العراقيين حول الممكن والمقبول في المعاهدة المقترحة وغير الممكن منها. يغلب على الموقف العراقي بشتى تلاوينه اعتراض جوهري على الطروحات والمطالب الاميركية. يعترض العراقيون على منح تسهيلات للجانب الاميركي من دون موافقة الحكومة العراقية. يرون انه يمكن اعطاء الاميركيين قواعد عسكرية شرط ان تكون مؤقتة ويعاد النظر بها سنويا، مع عدم تحرك للقوات الاميركية من قواعدها المؤقتة هذه من دون موافقة الحكومة العراقية وبعلمها. ويصر العراقيون على إخضاع عملية دخول الاموال وخروجها من جانب الجيش الاميركي عبر البنك العراقي المركزي. إضافة الى عدم حق القوات الاميركية اعتقال او سجن أي عراقي الا بموافقة الحكومة العراقية. كما يطالب العراقيون ايضا بأن تدفع القوات الاميركية إيجارات سنوية عن الاراضي التي يقيم الجيش الاميركي قواعده عليها. يشير نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي الى توجهات السياسة العراقية في شأن العلاقة مع الاميركيين بالقول: «إن ثمة إجماعا وطنيا عراقيا على عدم قبول مسودة الاتفاق الذي تجري مناقشته بين بغداد وواشنطن لتحديد الوجود العسكري الاميركي في العراق الى ما بعد العام 2008. فالعراق لن يقبل أي صيغة تمس بسيادته ولا تكون في مصلحة العراق او لا تحقق السيادة العراقية. والعراق اليوم يواجه تحديات كبيرة وخطيرة تدفع في اتجاه عدم بناء دولة العراق العصرية». بعد أكثر من خمس سنوات على الاحتلال الاميركي، تجمع التحليلات الاميركية وغيرها في كل مكان على المأزق الذي تعانيه الولايات المتحدة راهنا في وجودها العسكري في العراق. إن ما ترغب به وتصر عليه الإدارة الاميركية عدم تحول خروجها من العراق الى شكل هزيمة عسكرية مشابهة لما جرى في فيتنام العام 1975. وتدرك الولايات المتحدة أن وجودها في العراق يتحول يوما بعد يوم الى خسائر يدفعها الجيش الاميركي وتنعكس سلبا على الداخل الاميركي الذي بدأ يشهد اعتراضات على هذا الوجود تلامس مظاهرات الاحتجاج على حرب فيتنام في السبعينيات من القرن الماضي. تزيد معركة الانتخابات الاميركية القادمة حدة هذا السجال وتصب في منحى يدعو الى تقليص التورط الاميركي وتخفيف الخسائر. ويمكن إضافة التخلي الدولي الواسع عن دعم الولايات المتحدة، وهو ما يعبر عن نفسه بانسحابات متتالية للقوات الحليفة من العراق. يجري ذلك كله في ظل عجز عن إيقاف مسلسل الارهاب والفشل في تحقيق الوعود بالديمقراطية التي أتى الاحتلال رافعا رايتها. انطلاقا من ذلك يجب فهم هذا الإصرار الاميركي على معاهدة تبطن احتلالا مستمرا في الواقع، تقدمها الإدارة الاميركية للشعب الاميركي على أنها تكريس للانتصار الذي حققه الاحتلال عندما دخل بغداد وأسقط نظام صدام حسين.

تؤشر المواقف العراقية الأخيرة على بداية تحول تجاه الاحتلال الاميركي لم يكن موجودا في السنوات السابقة، وهو مؤشر إيجابي على صعيد استنهاض الوطنية العراقية في وجه الاحتلال. قد تكون سنوات الاحتلال الخمسة كافية لإقناع العراقيين بالكوارث التي تسبب بها الاحتلال لبلدهم وعلى رأسها تفكك العراق كيانا ونظاما وانهيارا لسيادته، ما أدخله في حروب أهلية متواصلة بين طوائفه من جهة، ثم بين مذاهبه نفسها، وهي حروب بات العراقيون يدركون الى حد ما عبثيتها ومخاطرها المستقبلية إذا ما اتيح لها الاستمرار. ولا يخفى على العراقيين الدور الذي لعبته القوات الاميركية في تأجيج هذا الصراع الطائفي المذهبي ذي الاسباب الداخلية أولا. حيث كان الاميركيون مدركين أن الحرب الاهلية المتواصلة في العراق تشكل سببا كافيا وضروريا لاستعانة العراقيين بهم وتأمين الحماية للسلطة القائمة، وقد عبر أكثر من مسؤول سابقا عن رفض البحث في أي انسحاب للجيش الاميركي من العراق، بل كانت التصريحات تشدد على الحاجة اليه والى ضرورة زيادة أعداد القوات هذه. ورغم ان النخب الحاكمة اليوم ومنذ سنوات الاحتلال قد أتى بها الاميركيون، الا أن النزعة المتولدة حديثا تتطلع الى المصلحة الوطنية للعراق، مما يعيد الاعتبار لقوانين الحياة الداخلية وحراكها وفعلها حيث تتصدر قضية بناء الدولة العراقية الاولوية في عملية الحراك هذه. وعندما يدخل العامل الداخلي الى صلب الصراع، فمن الطبيعي ان يكون توجهه المركزي نحو استعادة استقلال العراق والسيادة على أرضه.

سيمر العراق في مرحلة صعبة قبل أن يتوصل الى اتفاق مع الولايات المتحدة يستعيد بموجبها سيادته. تملك أميركا من القوى الداخلية العراقية الضاغطة بقوة في سبيل إعطائها الامتيازات التي ترغب بها، وهي قوى تجد مصالحها مع الاحتلال أكثر منه مع سلطة عراقية مستقلة. في المقابل، إن ما يعرفه العراق من انبعاث لوطنية جامعة يجب رؤيته في حدود غير مبالغ بها، بل هي أشبه بإرهاصات تتكون شيئا فشيئا، خصوصا أن قوى «الاستقلال» هذه هي نفسها التي مهدت واستقبلت وعملت مع الاحتلال الأميركي. مما يعني أن العراق سيشهد مزيدا من التناقضات واستقطابات لقواه السياسية في المدى القريب.

كاتب من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى