نيغاتيف من ذاكرة المعتقلات السياسيات – الحلقة الثالثة
روزا ياسين حسن
التعذيب قد يؤدي أيضاً إلى الجنون..
فكرة أضحت ثابتة في ذهن معتقلات فرع الأمن1.
كيف سيستطعن جميعهن، حتى بعد سنوات من الإفراج عنهن، محو مجد.أ(23) من الذاكرة؟!
كانت مجد فتاة طويلة ممتلئة اعتقلت بعد أن تم اعتقال معظم الفتيات من حزبها الشيوعي. إلا أن شيئاً وحيداً ظلّت مجد.أ تتذكره هو التعذيب، التعذيب بالكهرباء فحسب! في الفترة الأولى ظلّت ساهية، لاهية عما حولها، متوحدة مع نفسها والورق الذي كان يأتي إما تهريباً من بعض السجانة المتعاطفين أو من الورق الأسمر يلفّون به باكيتات الدخان.
مجد والورق وقلم الرصاص.
كأنها كانت تكتب الناس، تستعيض بالكتابة عن علاقتها بالمعتقلات في الزنزانة، عن علاقتها بالعالم الخارجي البعيد.
قد تمر ساعات طويلة متواصلة ومجد منكبّة على الورق تكتب!
فجأة بدأت حالات الهيستيريا تأتيها متباعدة: نوبات طويلة من الصراخ المبهم والتشنجات العنيفة في يديها ورجليها.
النوبة قد تمتد أحياناً أربع ساعات أو أكثر في مكان ضيق كالزنازين محشور بعشرات الأجساد المتململة. ساعات من العواء حتى يبحّ صوتها، ومن ثم تهمد تماماً.. لتمتد ساعات أخرى من الموات، موات حقيقي بلا حسّ أو حركة! ثم تصحو.. وتعود إلى الكتابة.
تلك الحالة، حالة مجد المؤلمة، قد تعيد إلى الذاكرة ما كتبته فيليسيا لانجر يوماً، وهي صاحبة الكتاب الشهير: بأم عيني(24). كان هناك الكثير من حالات التعذيب للمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. قاد التعذيب الكثيرين منهم إلى الموت أو الجنون أو العاهات الدائمة. من الأمثلة كان اسم سالم جاد عيد يلوح دوماً: أصيب بالجنون بسبب التعذيب، وظل سنوات طويلة في مستشفى الأمراض العقلية. وقاسم أبو عكر توفي بسبب التعذيب أيضاً.. وحالات كثيرة أخرى.
لكن التوتر انتقل بسبب حالة مجد.أ إلى كل الفتيات في المزدوجات. الحالة تتطور من سيء إلى أسوأ، خاصة حينما أخذت مجد، بعد طول مطالبات، إلى المستشفى للعلاج حيث كانت الصدمات الكهربائية هي العلاج الوحيد! أعطيت الصدمات العلاجية لمجد بطريقة التعذيب نفسها! تدهورت حالتها أكثر فأكثر، وهذه المرة فقدت النطق والقدرة على المشي. ثم أعيدت إلى المزدوجات نحيلة بشكل فظيع، لكنها، هذه المرة، بكماء وتزحف. بدا الأمر أشد سوءاً مما سبق، ومجد تشحط جسدها كل صباح إلى الحمام محاولة تهدئة نفسها، تفتح الدوش البارد عليها، وتشهق متكومة كقطة تحت وابل الماء المثلج. ثم بدأت محاولاتها لابتلاع لسانها! خصوصاً في لحظات الهيستيريا. لذا كان على الصبايا القريبات منها، اللواتي يعتنين بها بشكل مباشر: سونا.س(25) وحميدة.ت وأنطوانيت.ل، أن يدأبن، كعادة يومية، على دسّ أصابعهن في فمها، أو وضع ملعقة فيه ليمنعنها من ابتلاع لسانها بالفعل في إحدى حالات هيجانها.
أحياناً كان السجان أحمد يعمل على مداعبة الفتيات في المزدوجات بمزحاته الثقيلة: يطفئ اللمبة الشاحبة في أعلى السقيفة المطلّة على المزدوجات بشبك حديدي مما يشيع عتمة طاغية مرهبة، إذا وضعت إحداهن إصبعها أمام عينها لن تستطيع رؤيتها، ثم يعود ليشعل الضوء من جديد، ومن ثم يطفئه، فيشعله… وهكذا.
الضوء يومض وقهقاته تضجّ في الكوريدور!
تنتهي المزحة بنوبة هيستيريا شديدة تجتاح مجد، وحالة شقيقة مجنونة تمسك برأس لينا.و.
مع الزمن، تحت تأثير الحالة، راحت أنطوانيت.ل، وكانت على تماس دائم مع مجد، تعاني من نوبات اختناق شديدة تمسك برقبتها وتمنعها من التنفس، يضطر السجانة على إثرها إلى إخراجها لمدة ما خارج الزنازين كي تعاود قدرتها على التنفس.
طفقت التشنجات تغزو يدي سونا.س بسبب ملازمتها الدائمة أيضاً لمجد. تلك التشنجات امتلكت فكيها أيضاً، وحالة الكزاز المزمن راحت تمنعها من الكلام بطلاقة، وأحياناً تمنعها تماماً من الكلام. ليأتي يوم تخرّبت فيه حبالها الصوتية وجعلت صوتها أبحّ حتى اليوم.
الوحيدة التي صمدت كانت حميدة.ت وإلى وقت ليس بطويل فقد جاء الأمر بإطلاق سراح مجد.أ للعلاج في الخارج. لم تجد المعتقلات، وطيلة فترة مرض مجد، بدّاً من بعث رسائل استغاثة إلى الخارج كي يعرفن ما الذي يمكن أن يعملنه. رسائل كتبنها على ورق سجائر الحمراء،(26) ثم استطاعت المعتقلات إخراجها بالتهريب من فرع الأمن1، وذلك أثناء إحدى الزيارات النادرة لإحداهن.
كان ذلك في أواسط سنة 1990:
(بدأت حالة مجد في المنفردة بعد الاعتقال والتعذيب على شكل نوبة واحدة تاريخ 9/12/89 صراخ شديد وبكاء سبقها ألم في الدماغ شديد جداً وشعور قبل خمس ساعات من النوبة بشخصية أخرى بداخلها. تنكمش على نفسها مطبقة رأسها إلى رجليها وانتهت النوبة بإبرة فوستان.
في تاريخ 16/1/1990 بدأت الحالة في الجماعي من جديد بنوبة شديدة جداً.. ضحك وبكاء مع هيجان عصبي واضطراب في التنفس. بقيت 3 ساعات ثم نقلت إلى المشفى. استمرت النوبات 15 يوماً بشكل يومي. نوبات صراخ وبكاء. انقطعت لتعود بتسارع ـ شعورها بشخصية أخرى وانكماش وألم شديد في الدماغ.
النوبات الآن شديدة جداً قد تستمر لساعتين أو أكثر مع صراخ وبكاء وهيجان عصبي شديد جداً وتشنجات في الساقين واليدين اللسان والفك وبالعيون. (ترافق النوبات التي قد تستمر لساعات حالات كآبة، استفزاز من أقل حركة، كره شديد للذات، شعور بالذل شديد، وحزن شديد)(27).
…
في جانب آخر، ربما في زمن آخر، كانت تجربة مغايرة تتشكل.
على الرغم من أن أغلب المعتقلات الإسلاميات كنّ رهائن عن أزواجهن، أو أولادهن، أو حتى أقاربهن، إلا أن التعذيب الشديد، والانتهاكات، والمعاملة المتميزة بقسوتها جعلت معظمهن يخرجن محطّمات!. أجبرت الكثيرات من الإسلاميات على التعري بلباسهم الداخلي فحسب. يتم إحضار السجانين كي يتفرجوا عليهن وهنّ عاريات، يسمعوهن الكلمات البذيئة التي يتفنن عناصر الأمن والجلادون في اختراعها. إحدى الحاجات أجبرت على التعري، وأدخلوا أخاها ليراها وهي على تلك الحال. يقال أن الأخ خرّ مغشياً عليه على الفور.
…
ـ الحرق بالسجائر في كافة أنحاء الجسد.
ـ…
ـ الكهرباء على الحلمات، على الأيدي والأرجل، والمناطق الحساسة.. أساليب أخرى كثيرة.
همست الحاجّة بصوت خفيض.
ـ هل هناك أساليب أخرى؟!
ـ التعليق لساعات طويلة، ورشّ الملح مع الماء على أرض المنفردات بعد الضرب المبرح على باطن الأرجل وإجبارهن على الوقوف حافيات.. هذا غير الضرب بالخيزرانة والعصي والدولاب.. وغير التحرش الذي قد يصل إلى الاغتصاب.
ـ هل وصل الأمر إلى الاغتصاب؟
ـ نعم.. إحدى المعتقلات، كنت أعرفها صبية جميلة من مدينة الشمال، في العشرينيات من عمرها، كانت تدرس الأدب العربي قبل أن تسجن، تعرضت للاغتصاب في أوائل الثمانينيات وظلت تسعة شهور بعد الاعتداء عليها شبه فاقدة الوعي، تستيقظ لتمشي كالهائمة في المهجع وهي عارية، وأحياناً تسرح مشعّثة ومهمِلة كالمجانين.
ـ كنت معها في المهجع؟
ـ كنت معها.
ـ…!!
ـ تستيقظ ليلاً وهي تصرخ، ثم تدخل في نوبة من البكاء العالي.. نوبة قد لا تنتهي حتى الصباح.
سكتت الحاجّة وسهمت بعيداً وهي تدسّ طرف حجابها الأبيض في ياقة البلوزة القطنية.
أتت ليلة واستطاعت بعض المعتقلات أن يهرّبن رسالة طويلة إلى الخارج. كان الأمر مخاطرة ما بعدها مخاطرة لكن الرسالة خرجت بسلام(28). كتبت كالآتي تماماً:
(كم رسالة كتبناها. كتبناها بأناتنا. بدموعنا. بدمنا.. علّها تلقى من يسمعها. لم نكن نستطيع إرسال حروف على ورق فأرسلنا آهات واستصرخنا في دجى الليل، ولكن من يسمعنا في ظلمتنا، ولم يتجاوز صوتنا جدراناً سوداء وقضباناً حديدية. رحمنا ربنا واستطعنا إرسال هذه السطور نلقي فيها شعاعاً يعكس للعالم ما يجري لنا نحن القابعات في أقبية السجون، تنهال علينا ألوان العذاب ليل نهار، ويأتينا الزبانية ثمالى متوحشين.. ليتهم ظلوا يعذبوننا كما بدؤوا بالسياط والكهرباء.. ليتهم تركوا أختنا تلفظ أنفاسها بعد ما لاقت من عذاب ولم ينتزعوا منها عفتها.. ولم ينتزعوا منها عفتها.. ليتنا متنا قبل هذا وكنا نسياً منسياً.. قالتها مريم العذراء دون عذاب، دون وحوش بشرية وفي أحشائها روح من ربها.. فماذا نقول نحن؟ بماذا ندعو؟ نستصرخ العالم أن ينقذنا من عذابنا. ننادي بأعلى أصواتنا. بكل جوارحنا.. كل ذرة فينا تصرخ وتستغيث.. كل قطرة دم.. كل نبضة عرق.. كل نفس يصعد ويهبط..
نصرخ وامعتصماه.. وامعتصماه.. نادت بها امرأة مسلمة واحدة فلبى لها رجال كثر. ونحن هنا مئات من اللواتي يسحقن.. يسحقهن طغاة حاقدون.. مئات يعذبن.. يقتلن في كل لحظة بألف قتلة ولا يمتن..
ألا من معتصم.. ألا من معتصم..
ألا من مسلم ينشر (نساء يسحقن)..
رباه لمن النداء.. طال بنا البقاء.. أيام وشهور وتتلوها شهور ودماء المجرمين تسري في عروق جنين في أحشائنا. ماذا نفعل؟
رباه لم يجبنا أحد فارحمنا. لا نريد منكم أن تنقذونا. لا نريد منكم أن تنقذونا بل هدموا علينا السجون.. أفتوننا بقتل أنفسنا.. وقتل ما في بطوننا. فلم نعد نقوى على ما بنا.. لا ليل يقلنا. ولا نهار ينير ظلمة حياتنا. يا عالم استفق طال بك الرقاد، ونحن لا نعرف الرقاد..
يا عالم استفق..
لك يوم تقف فيه بين يدي الله ليسألك ربك ماذا فعلت؟ ماذا فعلت لمن انتهك عرضها؟ ماذا فعلت لمن فقدت وعيها من صدمات الكهرباء؟ ماذا فعلت لمن علقت من قدميها بعد أن نزع عنها حجابها، وتناثرت عنها الثياب، وضربت بقضيب ثقيل من حديد فأسلمت وعيها لربها؟ لا تعلموا كم من الساعات على هذه الحال.. ماذا فعلت أيها العالم المسلم وأختك هناك في دولاب طويت فيه تنهال عليها السياط.. تسيل دماؤها.. تتورم أخدادها.. تفقد صوابها ولا مغيث.. ماذا فعلت لمن عذبوا زوجها على مرآها، واستغاثت دمائه فلم يجب أحد، فانفجرت تبكي على دمائها؟ ماذا فعلت لمن سيقت إلى المستشفى بين الموت والحياة بعد أن نهب لحمها 26 مفترساً متوحشاً؟ ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟
بماذا ستجيب؟ ومن أين لك أن تجيب، وأنت لا تزال في الرقاد.. ألا يا عالم استفيق وانتشلنا من الحريق.. انتشلنا من الغريق.. فلقد جفت العروق ولا نهار ولا شروق في وحشة واد سحيق في ظلمة بحر عميق.. ننادي.. ننادي.. ننادي.. نلتمس الطريق.. هل من بريق.. هل من بريق).
أخواتكم المعذبات في سجون الطاغوت (…)
…
بعد سنوات طويلة، حين استطاعت اللجوء إلى أوروبا، كتبت هبة.د كتابها(29) الذي يحكي بعضاً من أساليب التعذيب التي تعرضت لها:
(نادى المقدم ناصيف على أحدهم، وقال له: اذهب وأحضر لها بنطالاً، وأعطها إياه، خلّيها تنستر، وضعها على بساط الريح.
تقدم العنصر مني، وطرحني على لوح من الخشب له أحزمة، وطوّق بها رقبتي ورسغي وبطني وركبي ومشط رجلي. ولما تأكد من تثبيتي، رفع القسم السفلي من لوح الخشب فجأة فبات كالزاوية القائمة، ووجدتني وأنا بين الدهشة والرعب مرفوعة الرجلين في الهواء، وقد سقط الجلباب عنهما ولم يعد يغطيهما إلا الجوارب والسروال الشتوي الطويل، ولا قدرة لي على تحريك أي من مفاصل جسدي).
…
كتبت هبة. د أيضاً:
(عائشة، وهي طبيبة من مدينة الشمال في سجن… معتقلة لأنها قامت بعلاج شاب من الإسلاميين الملاحقين).
تولى التحقيق معها مصطفى.ت، فسألها في البداية:
ـ أترضين أن تبقي بلا جلباب؟
ـ لا طبعاً
ـ فما رأيك أن تبقي بلا جلباب؟
انتفضت تتطلع إلى مكان تلجأ إليه، لكنه لم يترك لها فرصة، وهجم عليها كالوحش، يصفعها ويضربها، وهو يمزق ثيابها قطعة قطعة، وهي مكبلة تقاوم بكل ما أوتيت من قوة دون أن تستطيع الدفع.. فلما مزق كل شيء وصل إلى جواربها، وقال لها: سأتركهم عليك حتى لا تبردي. وأمر فمددوها على بساط الريح، ومرّ عليها بكافة أنواع التعذيب: الخيزران والعصي والكهرباء.. علاوة على نزع نظارتها الطبية وحرمانها من استعمالها فترة من الزمن. ثم أتى دور عمر، فأجلسها على كرسي وقد كبّل يديها ورجليها من الخلف ببعضهم البعض، وجعل يطفئ أعقاب السجائر في أعف منطقة ببدنها).
1984
ـ ما في نوم.. اليوم سنظل نضربك حتى تعترفي.
صاح المحقق بعد أن أنزلوا هند.ق إلى القبو، وشرعوا بالتحقيق معها. الطميشة على عينيها، الأصوات حولها من هنا وهناك.. كأنهم كانوا يريدونها أن تجنّ. بالتأكيد كانوا يريدونها أن تجنّ.
ـ تضعونها تحت دوش الماء الباردة بعد كل فلقة.. وإذا لم تجلب الشباب تصلونها إلى الكهرباء…
صرخ الضابط قبل أن يغادر غرفة التعذيب ويتركها لعدد مبهم من العناصر كي يكملوا تعذيبها.
بدؤوا بالدولاب، حشروها فيه، راحت العصي تنهال على قدميها وساقيها وجسدها المطوي حتى كاد يغمى عليها. وتنفيذاً لأوامر الضابط شحطوها، وهي شبه فاقدة للوعي، تحت الماء البارد. أعيدت الكرّة مرات.. حين يكاد التعذيب يغيّبني عن الوعي يعمل الدوش البارد على إعادتي إلى الحياة. لا أذكر إلا جسدي وهو يسبح في فضاء آخر. ألم فظيع يجعلني أتهاوى، ثم دفق ماء بارد كالثلج يعيدني من جديد إلى غرفة التعذيب. أخيراً أشفق أحد العناصر عليّ، همس إلي بصوت مبحوح خافت بعد أن أصبحنا وحدنا:
ـ اشلحي الفيلد لتلبسيه بعد الدوش.. وقفي إلى جانبي.
ما كان منه إلا أن تركني أتهاوى على الحائط، وعاد بعد لحظات جالباً قصعة معدنية عبأها بالماء، وصار يرشّني بها بلطف. لكني لم أستطع أن أتبين وجهه من تحت الطميشة.
همس إلي من جديد:
ـ إذا قالوا لك قعدت تحت الدوش؟ تقولين نعم قعدت..
ظلوا يضربونني طيلة الليل. في أول الصباح تركوني واقفة بلا استراحة في غرفة التحقيق. كنت منهكة حتى الموت، لكن إحساسي من تحت الطميشة بوجود مراقب منعني من الانهيار على الأرض.
كان الجلوس، أو حتى الاتكاء، يعني عقاباً جديداً ليس باستطاعتي تحمّله بعد. بقدرة ما ظل جسدي متماسكاً ولم يتشظّ على الأرض إلى عشرات الأجزاء المفككة تعباً وألماً وإحساساً بالعجز أمام كل ذلك القهر اللامنتهي. حين دخل المحقق من جديد، مصطحباً شتائمه معه، وعلم بعدم اعترافي صاح كالممسوس:
ـ لا تطعموا هذه الكلبة.. ترمونها في المنفردة، وتجعلون أرضها كلها ماء وبدون بطانيات..
ـ…!
ـ باب المنفردة يبقى مفتوحاً.. ويظل عنصر على الباب.. تمنعونها من النوم والطميشة على عيونها، وحين تجلس تضربونها حتى تقف.. لنشوف أنا أم هذه الكلبة..
ـ…
رميت في المنفردة حافية. كان محالاً أن يدخل أي حذاء في قدمي المنتفختين والمتقرحتين. الملح، المرشوش على أرض الزنزانة، يستفزّ أسفل قدمي كالسكاكين، والألم، الذي تركّز هناك، يصعقني كل لحظة حتى يصل حدّ الموت. ثم ملؤوا الزنزانة بالماء، وأجبروني على الوقوف حافية طيلة الوقت في شتاء آذار الذي كان استثنائياً بمطره وبرده في تلك السنة: سنة 1984.
في اليوم الثالث لوقوف هند في المنفردة، وحين لم تعترف، وضع الجلادون الكهرباء بين أصابع قدميها. بعد ضربتين على الجلد المتقرّح غابت عن الوعي.
وقت استيقظت كانت هند ممدة على طاولة معدنية عالية ورجل يرتدي الأبيض يدهن أسفل قدميها باليود. رائحة اليود القاسية تثير غثيانها، ألم عميق يتشعّب من الأسفل مروراً بأجزائها وحتى داخل رأسها، والطبيب المتجهّم صامت طيلة الوقت لم ينطق بكلمة. كانت هند تتمنى أن يكلّمها ذاك الرجل الأبيض، يسألها عن أي شيء، أو حتى يشدّ أزرها بنظرة، لربما نشلها همسه المتعاطف من ضعف مقيم امتلكها. لم يتنازل عن صمته! بعد أن انتهى أعيدت هند إلى الزنزانة من جديد.
مع الوقت صار السجان يغادر باب الزنزانة لفترات وجيزة. الأمر الذي جعل هند تجلس، ولو لدقائق، حين يذهب، وتعود للوقوف وقت تقترب خطواته في كوريدور الفرع. مع الزمن صارت متأكدة من أنه يقوم بكل ذلك تعاطفاً معها، يجعل باب المنفردة موارباً بدل أن يكون مفتوحاً بشكل دائم! وحين يعود يعمل على خبط الأرض بقدميه عامداً، فتتحامل هند على نفسها وتقف، على الرغم من أن صدى خطواته القادمة كانت أشبه بخطوات فيل تضجّ بصداها جدران الفرع كلها. خلال تلك الأيام استطاعت هند أن تشتري من السجان، ببقايا نقود بقيت في جيب الفيلد العسكري الذي ما تزال ترتديه، باكيتين دخان حمراء، منشفتين، وعلبة محارم تواليت.
أما رولات المحارم الأربعة فقد تحولت إلى سجادة واهية، لم يكن الماء يصلها حتى تنقلب إلى وسادة أسفنجية مبللة، تزيد البرد في جسدها بدل أن تقيها منه.. البرد كان مجنوناً مجنوناً.. بعد سبعة أيام كنت ما أزال متكئة في زاوية المنفردة، وربما كان منظري يرثى له: كنت أحسّ بجسدي يتلاشى، أشعر بهزاله بعد أن راح سرج البنطال لا يعلق بخصري. كنت أحسّ بشفقة بعض السجانين علي من رمقاتهم الطويلة.
دون طعام ولا بطانيات. الماء ما زال يغطي الأرض وأنا بلا حذاء.. ركبتاي توجعانني، جروحي تقيّحت وراحت تنزّ صديدها. مرت أيام طويلة دون أن أتمدد ولو لدقائق.
فُتح الباب فجأة، لم أستطع الوقوف من فوري فقد كان إنهاكي أشبه بالموت، فكرت لثوان: سأعاقب بالتأكيد.. إلا أن السجان، لدهشتي، لم يقل أية كلمة ولم يقم بأي فعل إلا أنه أغلق الباب. تنفست الصعداء وأنا متكوّمة في مكاني في الزاوية. غاب السجان قليلاً ثم عاد. كان يشتم، يسبّ عناصر الأمن وقلوبهم الحجرية، يلعن زمناً رماه هنا وجعله يرى صبية على هذه الحال.
يشتم ويشتم.. جلب معه بطانيتين: واحدة فرشها على الأرض، ورمى بالأخرى لي. ثم قال قبل أن يذهب:
ـ ستنتهي دوريتي في الساعة 6، الصبح لازم تفيقي قبل ما تخلص حتى لا يعرفوا أني أعطيتك البطانية.
لم أصدق أن بإمكاني أخيراً أن أتمدد! أن أنام كالبشر العاديين مستلقية، وأتدثر أيضاً ببطانية!! يا إلهي!.. كان الحدث أكبر من أحلامي. لا أذكر إلا إني خلال ثوان غبت في نوم عميق عميق.
…
لم تستيقظ هند إلا وساعات الليل قد مرّت عليها هنيهات، وكان ثمة رجل يهزّها بجنون صائحاً:
ـ قومي يا 48(30) قومي يا 48..
وهند لا تستطيع الاستيقاظ..
لما أحسّ بأن الصراخ لن يفيد شدّ البطانية من تحتها، خطف الأخرى، وطفق يهرول في الكوريدور قبل أن يلمحه أحدهم.
مرمية على الأرض الرطبة كانت هند، غواية النوم والتدثّر ما تزال تمتلكها، وشعور الامتنان للسجان الغريب يغمرها تماماً.
بقيت هند.ق في المنفردة خمسة عشر يوماً بدون بطانيات.
سمحوا لها في اليوم السابع بالخروج إلى الحمامات، حينئذ استطاعت أن تقعد قليلاً. كان التواليت بالنسبة إليها ترويحاً عن النفس. في اليوم الخامس عشر جلبوا لها الأكل صباحاً فلم تأكل، مما حدا بمدير السجن للمجيء، ووقف صائحاً أمام المنفردة:
ـ خير يا 48 لماذا لا تأكلين؟
ـ لم أعد أستطيع التحمل بدون بطانيات.
هز رأسه وذهب.
بعد قليل جاء أحد العناصر، الذي طالما كان لطيفاً مع هند، يصرخ فرحاً وهو يقترب في الكوريدور، حتى أن صوته سمعه جميع معتقلي المنفردات:
سمحوا لك بالبطانيات.. سمحوا لك بالبطانيات..
يومئذ أعطاها عشر بطانيات عسكرية وعازلين.(31) لأول مرة، بعد أيام طويلة، تنام هند باطمئنان لساعات متواصلة. ويبدو أنها أغفت طويلاً حتى استيقظت وقد حلّ الليل في طاقة الزنزانة الصغيرة.
…
مع الزمن ومن أجزاء الفروج، الذي كانوا يدخلونه إليها كل حين، شفّت هند عظمة مدببة قاسية، صارت تستخدمها، بغياب الأقلام والأوراق، لتحكّ على الحائط الإسمنتي العاري ما يخطر لها. بذلك نقشت هند كثيراً من الجمل والخربشات، ملأت جدران الزنزانة بكل ما اعتمل في روحها، بكل الأغاني والكلمات، بحالات الحب الغامض، وبالحزن والأمل. أما فوق الباب مباشرة فقد حفرت جملتها الأثيرة: غاب نهار آخر. بالعظمة أيضاً عملت هند على نقش روزنامتها الخاصة التي استطاعت من خلالها معرفة مرور الأيام المتشابهة والمتكررة، المتكررة كدوامة لا بداية لها ولا نهاية.
كانت الروزنامة تبدأ بيوم الاثنين: يوم اعتقالي. وبما إني لم أكن لأتكهن بمدة اعتقالي فقد رحت، في صباح كل اثنين، أشخط خطاً صغيراً عمودياً حتى يستوعب حائط الزنزانة الضيق روزنامتي الآخذة بالامتداد كل أسبوع. كما أني حفرتها وراء الباب الحديدي حتى لا يلمحها السجانون حين يدخلون الزنزانة. الشيء الأساسي الذي كان علي أن أتأكد منه كل صباح.. هو قدوم الصباح! لم يكن ذلك صعباً في الحقيقة، على الرغم من غياب الشمس وضوء الحياة، لأن الصخب المجنون الذي يخلقه السجانة كل صباح، وهم يفتحون ويغلقون أبواب الزنازين الحديدية على طول كوريدور السجن الطويل، كان كافياً، لأن ذلك يعني أنهم يوزعون قصع الفطور على المعتقلين، ويأخذونهم، كل بدوره، إلى الخط(32).
بقيتُ في الاعتقال الثاني أكثر من شهرين في المنفردة ذاتها، ومن ثم نُقلت إلى سجن النساء الأول، وبعده إلى سجن النساء الثاني. أما هناك فقد كانت حياة جديدة.. جديدة تماماً!
بعد سنتين من ذلك، في سنة 1986، اعتقلت حسيبة.ع(33).
مرّ أكثر من 11 يوماً حتى اكتشف فرع الضابطة الفدائية الفلسطينية هويتها. كان هذا هو الاعتقال الثاني لها والسنة ما تزال في بدايتها. إثر اكتشافهم أن حسيبة عملت على إخفاء حقيقة هويتها صار العناصر يقحمون الخرق الوسخة والأسمال في فمها، يغلقونه بتلك القاذورات حتى كادت تختنق. لكن غلّهم تجاهها لم يشفَ، فانهالوا عليها بالكابلات الرباعية على قدميها وساعديها وأجزاء جسدها الأخرى وهي مقيّدة مرمية أرضاً بحيث لا تستطيع الحراك. كلما كان جسدها يوشك على الانهيار، أو تقترب من الإغماء، يدلقون سطول الماء عليها كي تستيقظ. ويعاودون التعذيب مجدداً. كتكملة لحفلة التعذيب تم صعق حسيبة بالكهرباء. صعقت مرات ومرات قبل أن تبعث، شبه منهارة جسدياً، إلى فرع الأمن2 العسكري.
في فرع الأمن2 كان ينتظر حسيبة ما هو أكبر. الاعتقالات هناك على قدم وساق، الفرع مليء بالمعتقلين، والزنازين متخمة على آخرها الأمر الذي جعلهم يرمونني في كوريدور الفرع. أفكر اليوم بأني عشت الجحيم بكل معناه. بقيت أياماً بلا نوم ولا طعام، لا يمكنني أن أسمع إلا صراخ المعتقلين وهم يعذبون بوحشية، وأصوات المحققين والأنات.. لأيام لم أعِ شيئاً متمايزاً! كنت كمن ألقي في هيولى ليس لها تحديد، هيولى قاتمة، أترنح فيها والطمّيشة على عيني لا يسمحون لي بخلعها. لا أذكر إلا دخولي إلى غرفة التعذيب، مطمّشة بالطبع، أعذّب لساعات، يحقق معي، ثم أرمى في الكوريدور حتى موعد الجلسة التالية.
أحسّ بأجساد المعتقلين والمعتقلات، المشلوحين مثلي على الأرض، تحيط بي من كل جانب. دماء وماء وصياح وأنّات.. إنه الجحيم الحقيقي.
الكرسي الألماني كان له نصيب أيضاً من جسدي، هذا ما أتذكره بدقة، على الرغم من أن تفاصيل التعذيب تغيب عني في بعض الأحيان، لا أكاد أستحضرها بدقة وأنا في ذاك الجنون لأيام. أذكر شعري، وكان وقتها طويلاً، وهو يتملّخ بين أيديهم، يضربون رأسي بالجدار، يشحطونني على بلاط الغرفة، ثم يسلخونني بالكهرباء على فمي ولساني وأصابع قدمي ويدي. لم أكن أعرف من أين يأتيني الضرب، ولا من أين تصيبني لسعات الكهرباء.. أصوات في كل مكان.. أصوات.. أصوات.. كأني دجاجة مذبوحة للتو تفرفر على الأرض.
بعد أكثر من أربعة أشهر في المنفردة نقلت حسيبة إلى مهجع المعتقلات. كان في المهجع معتقلتين من بعث العراق ومعتقلة عرفاتية واحدة. يومئذ أُحضر الطعام لهن وهو قصعة من البرغل لكل معتقلة كما في معظم الأوقات. على الرغم من الجوع الشديد والانتظار المضني للطعام تركت المعتقلتان قصعتيهما جانباً بعد تذوق لقيمات قليلة منه، فيما راحت العرفاتية في نوبة من السعال. ثم جلسن دهشات يتأمّلن حسيبة التي استمرت تأكل بنهم شديد كأن شيئاً لم يكن.
ـ كيف تستطيعين الأكل؟!
سألتها العرفاتية مستغربة.
ـ الأكل مالح كتير.
أردفت معتقلة بعث العراق.
لحظتئذ فقط عرفت حسيبة أن ثمة مشكلة ما في التذوق لديها، ولا بد أن يكون بسبب لسعات الكهرباء على لسانها، الأمر الذي لم تكتشفه وحدها في المنفردة طيلة شهور، فلم يكن هناك من يقول لها بأن الطعام مالح جداً. احتاج الأمر إلى شهور أخرى كي يعود شعور حسيبة بالطعوم تدريجياً.
…
زمان الفرع ذاك وأيامه العصيبة دوّنتها ناهد.ب حالما انتقلت إلى سجن النساء. كانت تشعر أن كل ما حدث هناك سينسى إن لم تكتبه، سيضيع من الحقيقة، وتنشله الأيام من الذاكرة مهما كان راسخاً. دفتر مدرسي صغير ومهمل، اشترته من الندوة الصغيرة في آخر باحة السجن، أصبح ديواناً لكل ما يمكن أن تشعر به، تحلمه، يحدث لها أو لغيرها.
سمّته: دفتر مذكراتي. وعليه كتبت(34):
(سمعنا صراخ انتصار وتصفيق، وهي عادتهم عند كل اعتقال رفيق جديد يعتبرونه مهماً، من نافذة فوق السقيفة مطلة على الطابق العلوي حيث يجري التحقيق. ثم تلا الضجيج صرخات ألم ناتجة عن التعذيب. صرنا نطرق جدران الزنازين علّنا نحصل على اسم المعتقل الجديد. ولم يدم بحثنا طويلاً إذ فتح باب المزدوجة، وطلبوا بثينة. فتهاوينا مدركين أنه نزار زوجها، وكانت قد أخذت رهينة من أجله. وعندما عادت أخبرتنا بأنهم عذبوها أمامه(35). في نفس اليوم علمنا أنهم اعتقلوا مضر.ج(36)، وكنا قد سمعنا أصوات تعذيبه، دون أن ندري أنه هو، لمدة تسع ساعات متواصلة).
* * * بإذن من الكاتبة روزا ياسين حسن، خصيصا لصفحات سورية