في بعض مآزق التحديث
محمّد الحدّاد
انطلق المنظرون الكبار للحداثة في القرن التاسع عشر، وعلى رأسهم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، من تصور للمجتمع يقوم على التمييز بن مجالاته الحيوية المختلفة، فيتمتع كل مجال، مثل السياسة والاقتصاد والأعمال والفن والعلم والدين، بما دعاه فيبر الاستقلالية التي لا تعني الانفصال واعتماد نظرية الفن للفن مثلاً. فالمطلوب من الفنان مثلاً أن يبدع من أجل الفن لا أن يتصرف بمقتضى أهداف يرسمها الساسة أو رجال الدين للعمل الفني، والمطلوب من العالم أن يذهب بالبحث العلمي في كامل حرية إلى حدّه الأقصى غير عابئ بالتصورات القبلية التي يحملها المجتمع حول قضايا معينة، والمطلوب من الرأسمالي أن يقيم المشاريع المربحة لا أن يشغل فكره بقضايا البؤساء ويشغل وقته بتنظيم العون للمعوزين.
في المقابل ينشأ في المجتمع مجال العمل الخيري المنفصل عن الدين والدولة والطائفة ليساعد المحتاجين من دون أن يستغل حاجتهم لدفعهم إلى قناعات دينية أو حشرهم في مشاريع قد تجر عليهم بلاء أنكى من العوز نفسه. فعندما تتحرك كل مبادرة داخل المجال الخاص بها وتخضع لأهدافها المستقلة بذاتها، يتوافر في المجتمع قدر أكبر من الحرية وتزدهر المبادرات بما يقوي المجتمع ويجعله أكثر ازدهاراً. ثم يفترض أن يبلغ المجتمع محصلة عامة يجد من خلالها ضرباً من التوازن بين المجالات لا يتحدد مسبقاً ولا يصوغه شخص أو حزب لكنه يتحدد باتجاهات الرأي العام، من خلال الاختيارات الكبرى التي يعبر عنها المواطنون أثناء الانتخابات، أو تشجيعهم وتفاعلهم مع مبادرات من دون أخرى، فالمجتمع قد يتقبل مبادرات بأفضل مما يتقبل مبادرات أخرى، لكنه لا يفرض شيئاً على أحد، عدا طبعاً ما يدخل تحت طائلة الممنوعات المحددة قانونياً بمقتضى التشريعات التي تسنها البرلمانات.
يستفيد المجتمع حينئذ من الطاقات الخلاقة التي تفجرها الحرية في المجتمع إذا ما أصبحت قاعدة التعامل بين مجالاته المختلفة، ويتحقق التحديث باتخاذ هذه المجالات شأناً أهم من الولاءات الاجتماعية التقليدية، فتصبح العلاقة بين فنان وفنان أو شريكين في مشروع مربح أو باحثين أكاديميين أقوى من علاقة أحدهم بشخص ينتمي إلى نفس قريته أو طائفته أو يتحدر مثله من القبيلة نفسها، وليس المقصود هنا العلاقة الشخصية وإنما المقصود قوة الشعور بالانتماء إلى شيء اسمه الفن أو الأعمال أو البحث الأكاديمي، فيقوى هذا الانتماء ويطغى على الانتماءات التقليدية ويصبح أكثر فاعلية في توجيه المجتمع. إذ يدرك كل شخص أن ما يحمي الفنان أو الباحث أو رجل الأعمال هو وجود مجال اجتماعي مستقل للفن أو البحث أو الأعمال، وليس قرابة الفنان إلى زعيم طائفي وعلاقة الكاتب بشخصية مرموقة وانخراط رجل الأعمال في حزب نافذ.
وقد اهتم المنظرون آنذاك (القرن التاسع عشر) اهتماماً خاصاً بالقضية الدينية، لأنهم أدركوا أن المؤسسة الدينية هي الأكثر استعصاء عن قبول هذا التحول إلى التنظيم الجديد. فهي وريثة تراث عريق تعودت من خلاله على اعتبار نفسها قيمة على المجتمع كله، تحتفظ بالحق (بل الواجب) في توجيه كل مجالاته ورسم الصحيح والخاطئ من كل أنماط السلوك الإنساني، وتضع القواعد في الساسة والمعاملات المالية والفن والعلم ويمكن أن تحاسب حساباً عسيراً كل خروج عنها. وقد تطلب الأمر صدامات طويلة قبل أن تدرك المؤسسات الدينية أنها جزء من المجتمع وليست المجتمع كله، وأن من حقها أن ترعى مجالاً من مجالات المجتمع من دون أن تفرض رقابتها على المجالات كلها. فلا معنى لأن تتدخل بالمنع في قضايا العلم ومجادلات الفلسفة وتهويمات الفن، ولا معنى أن تحوّل إدارة الشأن العام والتوزيع السلمي للمصالح، وهذا جوهر السياسة، إلى قضايا متعالية على الإنسان. ولا يمكن أن تكون كلمة رجل الدين أعلى من كلمة الشعب عندما يعبر عن نفسه بواسطة الانتخاب أو الاستفتاء.
وتبدو قضية التحديث في المجتمعات العربية حالياً قريبة من الوضع الذي عاشه الغرب في القرن التاسع عشر. فالمواجهة الأساسية ليست بين أنصار الدين وخصومه، كما كان الشأن عند ظهور الأديان والدعوات الدينية، فالجزء الأكبر من الناس مؤمنون في كل أصقاع العالم ولا شيء يبرر أن يدعي فريق لنفسه صلاحية التنقيب عن إيمان الآخرين. لكن المواجهة الحقيقة هي بين الذين يرون الدين في إطار العلاقات الاجتماعية والولاءات التقليدية والذين يرون الدين متجدداً بتجدد التنظيمات الاجتماعية.
وأعتقد أن من جـــملة العوامل الأســـاسية التي تفسر ضعف حركة التحديث في المجتمعات العربية الانزلاق المستمر لقضية الإصلاح الديني في فخ الإيمانيات، مع أنها قضية اجتماعية أساساً، فالمـــحافظون الذين يعملون على تخليد الولاءات التقــــليدية يشهرون سلاح التكفير في وجه كل من ضاق ضرعاً بتـــلك الولاءات، فيستدرجون العديد من الحداثيين الذين ينزلقـــون بدورهم في فخ الخلط بين الدين ظاهرة اجتماعية والإيمان شعوراً فردياً، ولست أنكر أن للقضية الثانية مشـــروعيتها وأهميتها، بيد أن المجادلات بين الطوائف والمذاهـــب وبين المؤمنـــين والمتشككين ينبغي أن تؤطر في مجال اللاهوت والتاريخ والفلسفة، ومن المعيق للمجتمع أن تتحـــوّل إلى مواقــــف ما قبـــلية تخترق كل مجالاته، فتقوم الخصومات الســـياسية بين الأحزاب المتنازعة طائفياً ودينياً بدل أن تقوم على خيارات اجتماعية مثل الاشتراكية أو اقتـــصاد الســـوق أو نظرية الدور التعديلي للدولة، وينـــقسم قطاع المعاملات بين تلك التي تمولها المصارف الإســـلامية وتلك التي تمولها مصارف غير إســـلامية، بدل أن تقوم في المجتمعات مؤســـسات تتنافس في إنتاج السيارات أو الكومبيوترات الأكثر جودة، ويختار الفرد أغنية لأنها دينية أو غير دينية، ولوحة لأنها ملتزمة أو غير ملتزمة بأحكام العورة، بدل أن يختارهما لقيمتهما الفنية.
لقد حان الوقت للخروج بالتعامل مع الموضوع الديني من ثقافة الستر والمواجهة الشجاعة للموضوع من حيث أنه يحدد نوع المجتمع الذي نريد من دون أن ينقص من إيمان الأفراد أو يزيد.
الحياة