الدراما إذ تفضح ترويضنا على العيش
ورد كاسوحة *
أحياناً تبدو الدراما التلفزيونية «بديلاً» ممكناً لممارسة السياسة. بديل مجازي لا يسعه إلا «نصب الفخاخ» لمن أوصله هراء السياسيين إلى حائط مسدود. والفخّ بهذا المعنى هو معطى مقبول أو يخيّل إلينا أنه كذلك. فبالقياس إلى كمّ التفاهات التي تلوكها الأنظمة العربية وبطانتها «المثقفة»، يبدو التحايل على الواقع الرديء (درامياً) أفضل الخيارات الممكنة. خيار تزداد الحاجة إليه كلّما أظهر صنّاعه استعداداً لنقاشات لا يستطيع التعقيم السياسي السائد مقاربتها. هنا لا وجود فعلياً لتناقض بين «التحايل على الواقع» وتفكيكه. فنحن إزاء صناعة استهلاكية تبغي الترفيه وإيصال مادة تلقى رواجاً لدى أكبر شريحة ممكنة من المشاهدين. شريحة لا يضيرها كثيراً أن تخلط بين تجميل الواقع وتعريته ما دام الاثنان يقدمان لها في إطار استهلاكي غير قابل للصرف عملياً. أضف إلى ذلك استماتة الرأسمال الريعي في استقطابها، ووضع ميولها في الحسبان لدى تفعيله خطط الإنتاج الفني السنوية. ولأن هذه الميول متنوعة وذات منابت طبقية واجتماعية وسياسية متعدّدة، فهذا يضعها في مرتبة متقدمة على أي اعتبارات أخرى لدى الجهات المشرفة على الإنتاج والتسويق والعرض. اعتبارات قد تكون السياسة التي تنحاز إليها هذه الجهات من بينها! فعندما تتعارض السياسة بمعناها الإجرائي (وكذا الدين والجنس) مع النّهم إلى الربح، يغدو تجاوزها أمراً نافلاً. هكذا لا يعود إنتاج مسلسل جريء اجتماعياً كمسلسل «تخت شرقي» مشكلة كبيرة بالنسبة إلى قناة خليجية تضع عادة «المسّ بأخلاقيات المجتمع» على قائمة أولوياتها! لقد تجاوز الرأسمال الأصولي هذه العقبة بمجرد رصده معدلات المشاهدة التي يمكن أن يحظى بها العمل. أما المحظورات الاجتماعية والسياسية التي نوقشت على الشاشة، فقد «مرّت» لأنها ببساطة لم تمرّ كما أراد لها صنّاعها الأساسيون، ولأن معالجتها على هذا النحو لا تلزم مجتمعاً محافظاً كالمجتمع الخليجي بها! بهذا تكون المعادلة الاستهلاكية قد استوت تماماً: الرأسمال (الإنتاجي والإعلاني) أكمل دورته وحصد ربحاً باهظاً من دون أن يظهر بمظهر من يخدش حياء مجتمع محافظ (حذفت كلّ المشاهد الحميمية من النسخة الخليجية للعمل). صنّاع المسلسل استدرجوا رأسمالاً محافظاً إلى منطقة محظورة، واستفادوا من دعمه ليميطوا اللثام عن سردية مجتمعية مسكوت عنها، ومحالة على الهامش. والمشاهد ـــــ المستهلك حظي بمقاربة جريئة وحقيقية لنمط عيشه الواقع بين التعويد والترويض، من دون أن يسقط تماماً في فخّ الاستهلاك السهل.
وبعد اكتمال حلقة الاستهلاك في البيئة الخليجية يكفّ المنتج عن كونه موضوعاً ملحقاً بالبنية الاستهلاكية، ويصبح معطىً إبداعياً قابلاً للأخذ والردّ، ومتفاعلاً مع شتّى صنوف النقد. وما يهمنا هنا ليس النقد الفني على أهمية ما ينطوي عليه من معايير، بل رصد التفاعلات التي تركها هذا العمل على البيئة التي أنتجته. وهي«بيئة مدينية» تتخذ من العاصمة دمشق (وريفها) مسرحاً لها. دمشق بوصفها حاضنة «للحراك السوري» الذي أظهره مسلسل «تخت شرقي» على نحو مغاير للسائد. و«الحراك» كما بدا لنا في النص الذي كتبته ريم مشهدي لا مكان فيه للسياسة بمعناها الإجرائي، لكن هذا لا يمنع في المقابل تسرّبها إلى الشخصيات المرصودة اجتماعياً. فكما نعلم، إنّ السياسة لا تعيش بمعزل عن الحاضنة المجتمعية التي تغذّي ديناميتها. إذاً الدينامية هنا مجتمعية بالدرجة الأولى؛ لأن الشرط الإبداعي يقتضي ذلك. ومعاكسة هذا الشرط تعني وقوع النصّ في فخّ المباشرة والوعظ السياسي الذي يقتل العملية الإبداعية. غير أن الهرب من المباشرة ليس كلّ شيء. فكما تتحايل السياسة على المعطيات الموجودة لتسوّغ مقاربتها البراغماتية، كذلك تفعل الدراما حين تقترب من المناطق المصنفة تحت خانة الحظر. والتحايل على الواقع بهذا المعنى لا يتناقض (كما أسلفنا) مع رغبة الكاتب والمخرج في تفكيك سرديته. لنقل إنها إعادة إنتاج لهذا الواقع على نحو لا يجعل من البنية الدرامية معطىً تلفيقياً، كما يحصل مع كثير من النصوص الخاضعة لأجندة مسبقة سلطوية أو دينية. وهذا ما يجعل من نصّ «تخت شرقي» متجاوزاً للأجندات و«خاضعاً» فقط للشرطين الإبداعي و«الجماهيري». خذوا مثلاً موضوع الحجاب الذي عالجه العمل بوصفه نتاجاً لهواجس مجتمعية تربط بين التديّن الاستهلاكي وصورة المرأة كما «يشتهيها» هذا النّسق من التدين. لم تقحم الكاتبة سردية التطرف الإسلامي الرائجة في النص، ولم تجعل منها «بؤرة درامية» وتختلق لأجلها مشاهد وشخصيات لا علاقة لها بالواقع المعيش. لقد استعاضت عن ذلك كله بشخصيات من لحم ودم تشبهنا وتشبه هواجسنا الاجتماعية والاقتصادية. ومن يرد أن يعالج ظاهرة الحجاب فعليه أن يبحث في هذه الهواجس أولاً قبل أن يستنفد «رصيده» في السرديات السلطوية وملحقاتها. أما العلاقات الإنسانية، فبدت في النصّ كما لو كانت خارجة من لحمنا وأعصابنا ودمنا. إلى هذا الحدّ، كانت مقاربة حيوات الشخصيات حقيقية وطازجة. لا يعود مهمّاً هنا رصد المحظور السياسي أو الاجتماعي. فقد أدمجه النصّ الحاذق في منطقه الداخلي. وهذا يعني أنه لم يعد قشرة خارجية كما تعوّدنا عليه في أعمال سابقة، بل بات جزءاً لا يتجزّأ من عملية التشريح الاجتماعي الجارية. فمثلاً عندما تتكلّم إحدى شخصيات العمل على حصانة الفساد في البلد، وتبوح أخرى بهواجس النازحين جراء هزيمة عام 1967، لا يصدر منطقهما عن سياق مفارق لسياق النصّ، بل يبدو كأنه استكمال لحديث حميمي بين الشخصيات. فهنا ابن وأمّه يناقشان فساد الأب الموظف في الدولة، وهناك نازح يشرح لزميلته في العمل ما كان يمكن أن يحدث له «لو طحشت إسرائيل كم متر زيادة». وعلى المنوال ذاته، نوقش موضوع العنصرية تجاه العاملات الآسيويات في سوريا. وهذه ظاهرة طارئة على سوريا ومجتمعها الحيوي والطارد للعصبويات على أنواعها. ولولا مظاهر «اللبرلة» والخصخصة المتفشية في البلد هذه الأيام، لما وجدت ظواهر مريضة كهذه طريقها إلينا. فكلّما استفحلت النزعة الاستهلاكية، ازدادت حاجة مجتمع الاستهلاك إلى تدوير «فوائضه». هنا يأتي دور العاملات الآسيويات. وقد شاهدنا في المسلسل نموذجاً لهنّ. نموذج غير واقعي تماماً، لكنه يتيح للمشاهد فرصة لمعاينة تفشّي ظاهرة «العبودية» في المجتمع السوري. إذ تُضرَب العاملة في أحد المشاهد ضرباً مبرحاً لمجرّد الاشتباه بسرقتها نقود سيدتها من دون سَوق الدليل على ذلك، تماماً كما يحدث اليوم في لبنان ودول الخليج.
وكما تطرّق النص فنياً وإبداعياً لمواضيع مثل النزوح القسري والعنصرية والحجاب والفساد، كذلك فعل مع قضايا أقلّ تجرّداً وأكثر حميمية: العلاقات الحرّة بين الجنسين، العنوسة، الوحدة، عدم الإنجاب، الخوف من الموت، النفاق الاجتماعي… إلخ. يبقى أن البطل الحقيقي في هذا العمل هو النصّ. نصّ غير تقليدي وذو طبقات متعدّدة. بمعنى أن وصوله إلى المشاهد على نحو جيّد بحاجة إلى بذل قليل من الجهد. وهذا ما يضع المسلسل بأكمله خارج نطاق الاستهلاك السهل. وتموضع العمل في هذه الخانة يصعّب أكثر فأكثر مهمّة الرقيب السياسي (وكذا الاجتماعي والديني) الذي يفترض به أن يتولّى تعقيم المسلسل ووضعه في طابور المَرضيّ عنهم. لكن مع ذلك مرّ العمل بأقلّ خسائر ممكنة. ومجرّد مروره يعني أن الهامش بدأ يتوسّع تدريجاً. توسُّع فرضه «الحراك» المجتمعي والثقافي السوري على سلطة قد «لا ترغب به»، لكنها مضطرّة إلى التنازل حتى لا تنتقل عدواه إلى السياسة. وهذا نقاش آخر لا مكان له في فسحة الدراما التي قلّلت من وطأة ترويضنا على العيش.
* كاتب سوري
الأخبار