سمر يزبك: الخيال فضاء الكتابة والواقع جذرها الغامض
حوار: محمد ديبو
ربما ، أجمل ما في هذا الحوار هو الاستفزاز المتبادل بين أسئلة وضعتها كي تستفز روائية أصبحت ، عبر مسيرة طويلة وجهد دؤوب ، علامة فارقة من علامات الرواية السورية ، لأفجأ أن أجوبتها تحمل من الاستفزاز ما جعل أسئلتي ، التي اعتقدتها مستفزة ، تبدو هادئة ومستكينة أمام رصانة أجوبتها التي تذهب نحو القلب ، من دون مهادنة.
“الدستور الثقافي” التقى الروائية سمر يزبك بمناسبة صدور روايتها االجديدة ، “لها مرايا” ، حيث دار الحوار حول هذه الرواية الإشكالية والجريئة: رواية تغوص في وحل الواقع والتاريخ في آن ، لتستخرج لنا تبرهما معاً ، عبر “مرايا” ترصد المشوه فينا ، علنا نخرج من وحل الواقع باتجاه “صفاء” الحكاية.
ھ وأنا اقرأ الرواية ، كنت ، دائماً ، أتساءل: ما الذي يدفع سمر يزبك إلى كتابة هذه الرواية؟ لذا سأبدأ من هذا السؤال: ماهي الهواجس التي دفعتك إلى كتابة رواية “لها مرايا”؟
ـ لا أدري إن كان مشروعاً أن نسأل الكاتب عما دفعه إلى كتابة نص. هذا يشبه أن تقول للسمكة: ما الذي دفعك إلى لتنفس تحت الماء؟ لكني أستطيع أن أحدد لك بدايات الإحساس الغريب ، الذي انتابني في أثناء كتابة هذا النص بخاصة ، قبل عدة من سنوات ، وأنا أبحث عن المكان الذي جئت منه إلى الحياة ، عندما شعرت برغبة في كتابة رواية عن تاريخ قديم وحديث: تاريخ ملتبس يخص الطائفة العلوية ، وإحساس بالحاضر المستبد ، والتاريخ الظالم. في النهاية وجدت أن كلا الحالتين قد ظلمت هؤلاء البشر: الحالة الأولى عندما تاهوا في الأرض ، وتعرضوا لأنواع التعذيب والمجازر والإبادات الجماعية شتى ، والتي لم يذكرها التاريخ ، والحالة الثانية في التاريخ المعاصر ، عندما تم تخريبهم على أيدي العسكر.
ما هي المراجع التي اعتمدتها في كتابة الرواية؟ هل هي مراجع تاريخية أم اكتفيت بالمراجع الشفوية والحكايا؟ وكيف وازنت ما بين التاريخ المكتوب والتاريخ الشفوي ، بعيداً عن الانحياز للشفوي الذي يضخم مأساة الضحايا ، كما يحصل دائما؟
ـ مراجع عدة: الحكايات الشفوية من عائلتي ، من أقربائي وأصدقائي ، حكايا النساء العجائز على الساحل السوري ، وبعض رجال الدين العلويين الذين أثق بهم وبنزاهتهم وأخلاقهم ، ومن ثم الكتب والمراجع ، وهي قليلة: لأن التاريخ الرسمي لا يذكر هذه الطائفة إلا بوصفها فرقة دينية منشقة ، في حين أنها كانت إحدى الفرق السياسية المعارضة. وفي الحقيقة أنا أرى أنّ التاريخ يضخم مأساة الضحايا ، دائماً ، وفي غالب الأحيان يفعل الضحايا ـ في دورات التاريخ ـ ما فعل بهم القتلة: يتحول الضحية إلى جلاد ، والجلاد ـ في ما بعد ـ يتحول إلى ضحية. لم أحاول تضخيم ما حدث في تاريخ هذه الطائفة ، فما كتبته حكاياتّ منسية في التاريخ: بذرة حكايات تحولت إلى رواية ليست من الخيال ، ولكنها ليست من الواقع ، أيضاً. إنّ الخيال فضاء الكتابة والواقع جذرها الغامض.
مرة أخرى ، عدت إلى موضوع العسكر بعد أن عالجت الأمر في رواية “صلصال” ، ولكن ، هنا ، بدا لي أن النقد للعكسر موارب وخجول؟ هل هو تراجع في مستوى النقد عندك؟ أم إن الأمر فني بحيث إن الرواية لا تحتمل أكثر من ذلك؟
ـ أتفق في أنّ النقد ـ في “لها مرايا” ـ خجول ، وأن “صلصال” أكثر جرأة ، وأرى أن “صلصال” أكثر مباشرة ووضوحاً ، بينما “لها مرايا” أعلى فنية وأكثر إحاطة. السرد الروائي يحتاج إلى متعة وليس إلى تنظير: يحتاج إلى ألعاب فنية ، وليس إلى مانشيت سياسي. لكن ، في النهاية ، ماذا تقول الرواية؟ هذا هو المهم ، في “لها مرايا” كان الحديث أكثر جرأة ، لكنه كان بعيداً عن المباشرة ، وانتصر لروح العمل الفني على حساب المقولات المباشرة.
بدأت الرواية بموضوع وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد ، وخصصت فصلاً كاملاً لوصف الجنازة ، ما أعطى انطباعاً أن العمل سيكون حافلاً بالنقد لمرحلة مضت ، ولكننا لم نجد هذا ، الامر الذي يجعلني أتساءل: ما أهمية تخصيص فصل لهذا الموضوع ، من دون أن يكون للرواية أي علاقة بالأمر؟
ـ هذا سؤال يتصل بالذي سبقه. الأهمية في فصل الجنازة هي في الحديث عن فكرة الخوف التي لازمت البشر ، وعدم تصديقهم موت الرئيس ، وتفاصيل مشهدية عن مدينة دمشق تتعمق في لحظات خوف كهذه. والشق الثاني يتعلق بشخصية الضابط الكبير ، الذي كان يتابع الجنازة من شاشة التلفزيون. ربما نسيت المشهد المباشر الذي جمع الرئيس بأحد ضباطه ، والحديث عن العسكر. كان هناك تفصيلات واضحة في الإشارة إلى ما حدث في تلك المرحلة التاريخية.
عالجت موضوع التقمص وكأنه قدر حقيقي ، وبدا أنك تؤمنين بهذا الأمر. على الصعيد الشخصي ، كيف تتعاملين ، علمياً ، مع مسألة كالتقمص ، خاصة أن العديد من الناس يتحدثون عن حيواتهم السابقة ، ولكن ، علمياً ، لا يمكن إثبات ذلك؟
ـ على الصعيد الشخصي أنا لا أؤمن بالتقمص ، ولكني سعيدة لأنك شعرت أني أؤمن به فعلاً ، هذا يعني أن اللعبة الفنية التي أمسكت بالرواية من أولها إلى أخرها قد أدت دورها. فكرة العيش في الزمن هي فكرة معرفية أنا أهواها وأعيشها عبر الكتب والبحث والغوص في التاريخ ، ولعل الكتابة هي أحد أشكال العيش في الزمن مثل حيوات متلاحقة.
في نهاية الرواية تعرضت لخيبة ما ، إذ إن البناء الدرامي كان يعد بأن هناك نهاية متوقعة: مواجهة ما بين البطل والبطلة. ولكنا نجد أنهما لم يلتقيا ، أي أن الرواية وضعتنا في جو ترقب لما سيحصل ، وعلينا التلهف لقراءته ، ولكنه في النهاية لم يحصل. السؤال: ما مبرر هذا الشحن الدرامي للقارئ ، إن كان لن يحصل على شيء؟
ـ في كل الروايات التي كتبتها كانت النهايات مفتوحة ضمن خط من العدم. لو قرأت “رائحة القرفة” ستجد أن بطلتي الرواية لم تلتقيا. الخادمة خرجت ولم نعرف ما حل بها ، والسيدة وقفت تنتظر في نافذتها ، رغم أنه من الواجب ـ حسب نهاية كل بناء درامي أن تلتقيا. في “صلصال” ، أيضاً ، هناك شخصيات لا تلتقي: تبقى معلقة ضمن سؤال النهايات المفتوحة في الحياة. هل من الضروري أن نجد أجوبة عن كل الأحداث التي تتصاعد درامياً؟ وماذا سيكون هناك: مواجهة؟ أجد فكرة المواجهة ، والأجوبة في السرد الروائي ، فكرة بليدة ولا أحبذها ، يعجبني التأويل والأسئلة ، وعلى القارئ أن يترك ذهنه مع النص مفتوحاً على قدرة تأويليه تعمق إحساسه بالنص. ما هو مبرر الشحن الدرامي؟ هناك قمم تراجيدية في الحياة ، لا بد أن توجد في الأدب ، وفكرة المبررات لا تعجبني. أقود شخصياتي إلى حيث تقودني هي ، أحياناً ، وأقودها ، أحيانا أخرى ، بلا تخطيط لنهاية مألوفة أو واجبة.
تكتبتن المقال وتمارسين التدريس وتكتبين الرواية والعمل التلفزيوني والسينمائي ، وشاركت في التقديم الإذاعي ، بشكل مشترك ، في برنامج تلفزيوني ، وتناضلين في الشأن العام مدافعة عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني. أين تجدين نفسك أكثر؟ ما هو أكثر نشاط يعبر عنك وتتمنين لو تتفرغين له ، فقط؟ أم إن كل ماسبق هو أنت؟
ـ تغريني فكرة تعدد الهويات والأماكن والحيوات. أنا كل ما ذكرت ، وفي الوقت نفسه ، لست شيئاً منها تماماً ، لكني ـ عندما أفكر في ما هو أنا من كل هذا ، أجد أنني ، فقط ، سمر يزبك الروائية. ولو كنت أعيش في مجتمع لا يعاني هذه الإشكاليات ، وخاصة في ما يتعلق بأحوال النساء في عالمنا العربي. ولو كنت لست مضطرة للعمل كثيراً من أجل العيش ، لنأيت بنفسي عن كل هذا. إنني أتفرغ ، شيئاً فشيئاً ، فقط لكتابة الرواية.
حديثنا عن عاداتك في الكتابة ، متى تكتبين؟ كيف تلتقطين فكرة الرواية؟ وكيف تشرعين العمل بها؟ هل ثمة مراجع تعودين إليها؟ وهل ذلك يكون أثناء الكتابة أم قبلها؟ بمعنى: هل تقطعين الكتابة للبحث في مرجع ما حول حدث صادفك أثناء الكتابة ، أم إنك تقرئين مراجعك كلها ، ثم تعكفين على الكتابة دفعة واحدة؟
ـ في الغالب أكتب صباحاً. نادراً ما أكتب بعد الساعة السابعة أو الثامنة صباحاً. أفضل وقت عندي للكتابة هو بين الخامسة والثامنة. لا أعرف كيف التقط فكرة الرواية ، تأتيني فجأة ، مثل السحر ، تأتي فكرة غامضة ، لكنها تتوسع ، شيئاً فشيئاً ، عبر البحث في هذه الفكرة. بالتأكيد أعود إلى مراجع ، وأرى بعض الناس الذين لهم علاقة بموضوع الرواية. أقطع ، أحياناً ، الكتابة وأعود إلى البحث ، وأحياناً أكتب فصولاً كاملة من دون أي مرجعية ، القصة ليست سهلة والتنظير لها صعب ، يفقدها رونقها في داخلي. هناك أسئلة الأجوبة عنها لا معنى لها ، أستطيع أن أقول إني أعيش في الكتابة ، أنا مشغولة ، دائماً ، بنص روائي ، لا أعيش من دونه ، موجودة دائماً داخل ذلك المكان البهي الشهي ، هذا الوجود يتعبني ويقلقني ولكنه أهم ما في حياتي ، من دون منافس.
الرواية السورية التي تكتبها المرأة متهمة بأنها تركز على مواضيع جنسية تحاكي المكبوت الجنسي ، عربياً ، وذلك من أجل الشهرة.. ما ردك عن الأمر؟
ـ رد بسيط ، أن النصوص التي يكتبها الرجال ليست أقل حديثاً عن الجنس ، والجنس جزء من الحياة ، وتغييب جزء من الحياة هو نقص. ولكن النساء ، عندما تكتب عن هذا الجزء ، يُتهمن. أنا لم أعد مشغولة بهذه الاتهامات السخيفة ، ولا تشغلني فكرة هذه الإتهامات. ثم ، إذا أردنا الحديث عن الشهرة ، فهذه الاتهامات لا تجلب الشهرة ، بل تجلب القرقعة المؤقتة فقط ، وتنتهي مع الريح. متى سنتجاوز هذا العقل الحجري الشمولي في رؤية الأدب؟
من جهة ثانية اتهَم ، مرة ، الروائي عمر قدور الروايةَ السورية الحديثة ، التي تقدم نفسها على اعتبارها ضد الإيديولوجية ، بأنها إيديولوجية بطريقة مقلوبة. كيف ترين الأمر؟ وهل يمكن للرواية ، حقاً ، أن تكون بلا إيديولوجية؟ وما العيب إن احتوت الرواية على إيديولوجية ، أصلاً؟
ـ هذا سؤال مهم ، يقودنا ، أصلاً ، إلى الحديث عن الأدب ودوره في الواقع ، وعن نظرية الفن للفن ، أيضاً. في العموم ، الرواية السورية تحمل طابعاً إيديولوجياً ، والأسباب كثيرة ، الخوض فيها ـ هنا ـ لن يكفي. لكني أرى أن الرواية السورية الجديدة هي تيار حقيقي يثبت نفسه وملامحه بوضوح وتقدم ، وقد خرجت هذه الرواية ، قليلاً ، على هذا الإطار الإيدلوجي. ربما هناك بعض الأصوات التي ما زالت تعاني هذه النمطية ، لكني أجدها زائلة. لكن الأدب ، في العموم ، لا يأتي من الفراغ: الأدب يأتي من الواقع ، والواقع يذهب إلى الأدب ، والفن ، عموماً تغيره الحياة ، والحياة يغيرها الفن ، التأثير متبادل ، لذلك لا يمكن لي أن أقول إن على الأدب أن يحمل رسالة. السؤال هو: كيف يحملها وبأي صيغة؟ هنا الرهان الحقيقي.
ماذا تقولين لطفلة صغيرة اسمها “سمر يزبك”؟ وهل كانت تلك الطفلة تتوقع أن تصبح كما هي الآن؟ أي هل ما أصبحت عليه ، الآن ، كان حلما لهذه الطفلة ، أم إن الأمر تحقق تراكمياً ، على وفق مسيرة حياة لم تكن تتوقعها؟
ـ تلك الطفلة لا أقول لها شيئاً. أصمت عندما أتأملها. لا يسعني أن أخبرك ماذا أقول لها في داخلي ، هذا صعب علي ، لكني أعرف أن الأمر تحقق تراكمياً ، على وفق مسيرة حياة صعبة ، توقعتها ، دائماً ، وما زلت.
الدستور