رسالة مفتوحة إلى نيكولا ساركوزي: كي لا تقع فرنسا في فخ «الأبارتيد»
طاهر بن جلون
سيّدي الرّئيس،
من حسن حظّي أنّني أحمل جنسيّتين؛ أنا مغربيّ ـ فرنسيّ منذ العام 1991. يسعدني أنّني أنتمي إلى وطنين، وثقافتين، ولغتين، ولطالما شكّل لي هذان الانتماءان مصدر غنًى. ولكن، منذ أن أعلنت حضرتك في غرونوبل عن قرار يقضي بإمكانيّة معاقبة كلّ مواطن ارتكب جرمًا خطيرًا بسحب جنسيّته الفرنسيّة، أشعر أنّ جنسيّتي الفرنسيّة مستضعفة، لا بل مهدّدة نوعًا ما. لا يساورني هذا الشّعور من منطلق أنّني أنوي سلوك طريق الإجرام والإخلال بالنّظام العام، بل لأنّني أرى في قرارك هذا انتهاكًا يمسّ المبادئ الأساسيّة الّتي ترتكز عليها البلاد، أي دستورها. وهذا يا سيّدي الرّئيس، أمر غير مقبول في فرنسا الدّيموقراطيّة ودولة القانون، فرنسا الّتي تبقى على الرّغم من كلّ شيء، دولة حقوق الإنسان، والوطن الّذي حضن ومدّ يد المساعدة إلى مئات الألوف من المنفيّين السّياسيّين طوال القرن الماضي.
في خطاب لك يعود إلى العام 2004، وكنت آنذاك وزير الدّاخليّة، أعلنت قائلاً «إنّ كلّ جريمة ستلقى عقابًا شديدًا، سواء أكان مرتكب الجريمة فرنسيّ الجنسيّة أم لا». وعليه، فأنت الآن كرئيس للجمهوريّة، تناقض نفسك يوم كنت وزيرًا للدّاخليّة. وهذا ما يدفعني الى التّفكير بالمنصب الّذي تتبوّؤه والرّدّ متأخّرًا على الجدل الّذي طرحه وزير في حكومتك على السّاحة السّياسيّة، والذي تناول فيه مسألة الهويّة الوطنيّة.
جنسيّة المرء جزء لا يتجزّأ من هويّته. قد تكون جنسيّة الإنسان مزدوجة، وهذا ينطبق عليّ، إذ لا يمكنني أن أتخيّل نفسي محرومًا من جنسيّتي المغربيّة أو الفرنسيّة. فهذا الحرمان يشعرني بالنّقصان.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ما من مجتمع عنصريّ بطبيعته. لذلك، أمر سخيف وظالم أن يقال إنّ «فرنسا دولة عنصريّة». فهي، شأنها شأن الكثير من الدّول، تتقاذفها نزْعات نحو الاستبعاد والتّمييز عنصريّ، تنطلق تارةً من أسباب عقائديّة وسياسيّة، وطورًا تعزى إلى اضطراب في المجتمع، وامتداد رقعة الفقر والخوف. إنّ الربط ما بين تراجع الأمن والهجرة ليس خطأ فادحًا فحسب، بل إثم أيضًا.
يقتضي دور المسؤول السّياسيّ في إحباط هذه النّزْعات، لا بل وضع حدّ أمام تفاقمها. على رئيس الجمهوريّة ألاّ يتصرّف على هواه، فهو، على خلاف المواطن العاديّ، لا يمكن أن يسمح لنفسه بالتّفوّه بكلّ ما يخطر في باله. بل من واجبه أن يتكلّم برزانة، وأن يقدّر النّتائج الّتي قد تتأتّى عن كلامه، ذلك أنّ التّاريخ هو الشّاهد على التّصاريح الّتي يقدّمها، أجيّدة كانت أم سيّئة، أمنصفة كانت أم متعسّفة. إذًا يا سيّدي الرّئيس، سيتأثّر عهدك الرّئاسيّ حتمًا بالبعض من شوائبك اللّغويّة. فشأن المرء أن ينتفض إذا تعرّض لإهانة، أمّا رجل الدّولة فلا. هذا لا يعني أنّه من المباح أن يمسّ النّاس احترامك، بل العكس تمامًا، إذ يفترض أن تكون في منزلة أعلى من المواطن العاديّ، لأنّك تشكّل رمزًا، وتتبوّأ منصبًا نبيلاً واستثنائيّا. ليصبح المرء أهلاً لتولّي هذا المنصب وتعزيز هذا المطمح، عليه بلوغ المستوى المطلوب، وعدم الالتصاق بالحقائق بما ينسيه أنّه مواطن استثنائيّ.
إنّ رئيس الجمهوريّة، سواء تحدّر من حزب يمينيّ أو يساريّ، عليه أن يكون رئيسًا لجميع الفرنسيّين سواسية، ومن ضمنهم الفرنسيّون ذوو الأصول الأجنبيّة، لأنّه انتخب رئيسًا بالاقتراع العام؛ وذلك في جميع الظّروف، حتّى عندما تعصف المصائب بمصيرهم، أو تهيّئهم سلفًا إلى العيش وحالة تزعزع مرضيّ. ولكنّ تصريحاتك الأخيرة، يا سيّدي الرّئيس، الّتي انتقدتها افتتاحيّة صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركيّة، فضلاً عن شخصيّات لها ثقلها، مثل رئيس المجلس الدّستوريّ الفرنسيّ الأسبق، روبرت بادنتير، تشير إلى انزلاق قد يكسبك بعض الأصوات من حزب الجبهة الوطنيّة قي العام 2012، إلاّ أنّه سيضعك في موقف حرج حتمًا.
سيّدي الرّئيس، أفهم انشغالك بالأمن. أؤّكّد لك، لن تجد أحدًا يدافع عن قطّاع طرق يطلقون نيرانهم على عناصر الشّرطة والدّرك. العدالة موجودة لإنزال «عقوبة شديدة» بكلّ مواطن يرتكب جريمة ما، وعليه، ينبغي محاكمة المجرمين بصرف النّظر عن أصلهم ودينهم ولون بشرتهم، وإلاّ، وقعنا في فخّ «الأبارتيد». غير أنّ قمع هذه الجرائم لا يكفي وحده، بل لا بدّ من اقتلاع الشّرّ من جذوره، وإيجاد العلاج اللاّزم أمام الوضع المأساوي.
إنّ تعميم ثقافة التّخوّف من الأجنبيّ، والحثّ على كرهه، أسهل بكثير من العمل على تثبيت أسس الاحترام المتبادل. ليس رئيس الجمهوريّة شرطيًّا عالي المقام، بل قاضٍ يتبوّأ المنصب الأعلى في الدّولة، ويفترض بالتّالي، ألاّ يشوب سلوكه أيّ شائبة؛ فهو الّذي يضمن العدالة ودولة القانون. وأنت، يا سيّدي الرّئيس، عندما تعد بمعاقبة كلّ مجرم ينتمي إلى أصول أجنبيّة بتجريده من الجنسيّة إذا تعرّض إلى عنصر من الشّرطة أو الدّرك، إنّما تتفوّه بكلام يرفضه الدّستور من أساسه، ولن يلقى آذانًا صاغية، لأنّك تعلم أنّ قانونًا كهذا، إن تمّ إقراره ثمّ تطبيقه، سيخلق مشكلات كثيرة، وسيتعذّر في الوقت نفسه حلّ المشكلات المحدقة راهنًا. إذًا، لم يكن حريّاً بك إطلاق اتّهام كهذا.
سيّدي الرّئيس، لا يخفى عليك ما أشارت إليه منظّمة الشّفافيّة الدّوليّة المعنيّة بمحاربة الفساد، في التّقرير الّذي صدر مؤخّرًا. سأطلعك على خلاصةٍ وردت في التّقرير، مفادها «أنّ فرنسا مستمرّة بنقل صورة متدهورة نسبيًّا عن طبقتها السّياسيّة، وقطاعها العامّ»؛ يضاف إلى ذلك أنّ فرنسا تحتلّ المركز الرقم 24 على قائمة الشّفافيّة الدّوليّة من بين 180 دولة شملتها الدّراسة حول الفساد.
لا جدوى من استخدام ورقة الأزمة الاقتصاديّة كعذر يبرّر ما يجري، بل من الأدقّ أن نتحدّث عن أزمة أخلاقيّة. لذلك، ينبغي عليك يا سيّدي الرّئيس، ترميم صورة فرنسا بحلّتها الأبهى، دولةً تحتضن حقوق الإنسان، ووطناً يسوده التّضامن والإخاء، وأرضاً معطاءً، غنيّة باختلافها، غنيّة بألوانها وتوابلها، تشهد أنّ الإسلام منسجم مع مناخ الدّيموقراطيّة والعلمانيّة. من أجل هذا كلّه، أرجو منك يا سيّدي الرّئيس، أن تمحو من خطابك الأفكار الخاطئة الّتي ينشرها حزب يمينيّ متطرّف، بهدف إغلاق هذا الوطن على ذاته، وعزله عن سائر العالم، والنّكث بقيمه الأساسيّة الّتي هي جوهر وجوده.
ترجمة أسيل الحاج
[ عن «لوموند» الفرنسية 4/9/2010
السفير