العلاقات السورية التركية الجديدة القديمة
محمد فاروق الإمام
إن عودة العلاقات السورية التركية إلى سابق عهدها يوم كانت تنبع من مشكاة الدين الإسلامي الواحد ووشائج القربى والجوار والمصالح المشتركة قبل قرن من الآن، حيث كانت بلاد الشام من أهم الولايات العثمانية وأجلّها وأعظمها، يوم كان أبناء الشام في الدولة العثمانية هم النخبة التي كان سلاطين الدولة العثمانية يقربونهم ويعتمدون على نباهتهم ويكلفونهم بأخطر المناصب وأهمها.
أقول إن عودة هذه العلاقات إلى سابق عهدها أمر يسعد الشامي والتركي ويثلج صدرهما ويحقق حلمهما بالعودة إلى عهد القوة والمنعة والعزة، وقد كانت هذه العلاقة تعني عظمة تلك الدولة الشامخة التي كانت أراضيها لا تغيب عنها الشمس ويدين لسلطانها الشرق والغرب من الأهواز حتى تطوان، مروراً بصوفيا وبلغراد وأثينا والقاهرة حتى جنوب السودان.
هذه الدولة العظيمة الشامخة التي دامت أكثر من أربعة قرون ونيف تزهر نوراً وتنبع عطاء وتثري الحضارة الإنسانية رقياً وعلماً، كان لمشاركة رجالات الشام من العلماء والمفكرين والقادة الباع الأكبر في علو كعبها لتكون في مقدمة دول العالم الكبرى في حينها، وحتى بعد أن تكالبت عليها دول الشرق والغرب واجتمعوا عليها وتوحدوا في أواخر القرن التاسع عشر – رغم ما بينهم من عداوات – مستعينين بكل ما لديهم من أفانين المؤامرات والكيد لقهرها وتفكيكها، صمدت هذه الدولة وبقيت عصية على الغرب والشرق ما يزيد على ثلاثة عقود، يقود سفينتها السلطان المؤمن عبد الحميد الثاني، ويشاركه في تلك القيادة الشامي أحمد عزت العابد الذي تميز بفكر نير وإرادة حازمة، ولعل الكثيرون لا يعرفون شيئاً عن الدور الكبير الذي لعبه أحمد عزت العابد في تأخير تفكك هذه الدولة العظيمة، ولابد من تسليط الضوء على ذلك الرجل الكبير الذي شهد له الأعداء قبل الأصدقاء قوة شكيمته وحسن أدائه وعظيم درايته!!
ينتمي أحمد عزت العابد إلى عشيرة عربية تعرف بقبيلة الموالي، وهي ذات أصول عريقة تعود إلى قبيلة بكر بن وائل الحجازية. ولد في دمشق عام 1855م وبها نشأ وتعلم. وأجاد التركية والفرنسية والإنجليزية.
بعد أن أنهى تحصيله العلمي عين كاتباً في جهاز المخابرات العثمانية بسورية، وترقى حتى عين رئيسا لقلم المخابرات سنة 1873م.
كُلف برئاسة تحرير الجزأين العربي والتركي في جريدة سورية الرسمية، وقام بعدها بإصدار جريدة خاصة به أسماها جريدة دمشق بتشجيع من والي سورية أحمد جودت باشا. كان دائم الدفاع عن الدولة العثمانية في جريدته بالإضافة إلى كثرة افتخاره بمآثر العرب وفضائلهم فيها. أدت مشاغله وكثرة الأعمال الموكلة إليه إلى إيقافه الجريدة عام 1887م.
تولى رئاسة محكمة الحقوق بسورية عام 1878م، وبعدها بعام عين رئيساً لجميع المحاكم في بلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين)، نظراً لكفاءته القانونية. ثم رقي بعدها لمنصب مفتش عام لمحاكم ولاية (سلانيك) عام 1884م، ثم نقل إلى عاصمة الخلافة رئيساً لمحكمة الاستئناف بها، ولم يمكث بهذا المنصب سوى شهرين حتى رقي رئيساً عاماً لمحاكم التجارة الأهلية والمختلطة وظل في منصبه ستة أعوام عين بعدها سنة 1891م عضواً لدائرة التنظيمات في مجلس شورى الدولة.
اشتهر العابد حتى وصلت شهرته السلطان عبد الحميد الثاني عن طريق الشيخ أبي الهدى الصيادي، فانضم إلى بلاط السلطان ككاتب خاص له، وعهد إليه السلطان بعدها بعضوية اللجان المالية ووثق به حتى جعله صديقاً خاصاً له وأمين سره ومستشاره الأقرب، حتى قال عنه: (الصديق الحميم الذي وجدته في النهاية).
كان السلطان عبد الحميد شديد الخشية من أوروبا التي كانت تتآمر عليه وتكيد له، فأعانه أحمد عزت العابد على انتهاج سياسة تحول دون اتفاق الدول الأوروبية على بلاده. ولازمه مدة قاربت ثلاثة عشر عاماً قام فيها بأعمال عدة أبرزها إشرافه على إنشاء خط سكة حديد الحجاز (وكانت فكرته التي أشار بها على السلطان) وتنفيذ خط التلغراف بين أزمير وبنغازي، وبين دمشق والمدينة المنورة.
ترجم أحمد عزت العابد العديد من الأعمال من التركية إلى العربية منها كتاب (حقوق الدول) لحسن فهمي باشا، والمجلد الأول من (تاريخ جودت)، وكتاب (الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية).
بعد نجاح الغرب في التآمر على السلطان عبد الحميد وخلعه من منصبه عام 1908م غادر أحمد عزت العابد اسطنبول، وسافر إلى أوروبا وتنقل بين عواصمها ومدنها منافحاً عن الدولة العثمانية وعن السلطان المؤمن عبد الحميد الثاني إلى أن استقر به المقام في القاهرة، وظل بها حتى وفاته عام 1924م.
أحمد عزت العابد كان واحداً من العشرات بل المئات من رجالات بلاد الشام الذين كان لهم بصمات جُلّى في نهوض الدولة العثمانية وتبوئها مكانة متقدمة بين الدول العظمى التي كانت تخطب ودها وتستعين بعضها على بعض لقرون، وهذه هي تطل على العالم من جديد بحلتها الجديدة، وبقيادتها الرشيدة، التي عرفت أن عودة تركيا إلى أيام عزها الغابر لن يكون إلا بتلاحمها مع أشقائها في بلاد الشام، فسعت بصدق وأمانة وإخلاص واندفاع إلى توطيد العلاقة مع دول بلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين)، مقدمة كل ما تملك من تجربة ورصيد عالمي واقتصادي لتمتين هذه العلاقات في كل المجالات التي فيها منفعة لشعوب المنطقة التي تجرعت لسنين طويلة مرارة القطيعة فيما بينها، التي تعمّد الغرب على مدى قرن من الزمان إيجادها بأساليبه الرخيصة المعروفة، ولابد لأهل الشام أن يكونوا عند ظن الشقيقة تركيا فيقدمون إليها كما أقدمت إليهم، ويفتحون لها صدورهم كما فتحت هي لهم صدرها، متخطية كل الخطوط الحمر التي خطها لها الغرب وأمريكا على مدى قرن من الزمان، وجعلت القضية الفلسطينية قضيتها الأولى رغم ما بينها وبين الكيان الصهيوني من علاقات متجذرة قامت مع قيام الدولة الصهيونية المغتصبة عام 1948م، متحملة ما قد ينشأ عن ذلك من تبعات وتداعيات وضغوطات سياسية واقتصادية.