تركيا ومعركة الاستفتاء
خورشيد دلي
تحول الاستفتاء المرتقب على التعديلات الدستورية في تركيا إلى معركة سياسية متعددة الجوانب بين حزب العدالة والتنمية الذي يرى فيها خطوة لتعزيز الديمقراطية في البلاد وإعطاء قوة دفع لخيار الانضمام إلى العضوية الأوروبية، وبين الأحزاب المعارضة التي ترى أنها ستعزز من قبضة حزب العدالة والتنمية على الجسم القضائي والقانوني وبالتالي السياسي تمهيدا للمزيد من خطوات أسلمة الدولة والمجتمع.
وتكتسب معركة الاستفتاء هذه حساسية خاصة, نظرا لأن نتائجها ستكون بمثابة استفتاء على الانتخابات البرلمانية المقررة في يوليو/تموز القادم, ولعل هذا ما يفسر تهديد رئيس الحزب رجب طيب أردوغان بالاستقالة إذا خسر حزبه الانتخابات المقبلة أو جاء ثانيا، في إشارة إلى ضراوة المعركة الجارية في وقت يسعى فيه حزب الشعب الجمهوري برئاسة زعيمه الجديد كمال كليغدار أوغلو إلى تعزيز مواقعه بعد أن تراجع كثيرا في السنوات الأخيرة.
دلالة التوقيت
لموعد الاستفتاء المقرر في الثاني عشر من سبتمبر/أيلول الحالي رمزية خاصة دون شك, فهو يوافق الذكرى الثلاثين للانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال كنعان إيفرين عام 1980 والذي يمكن أن يحاكم مع بقية قادة الانقلاب وفق التعديلات الجديدة, كما أنه يأتي مباشرة بعد عيد الفطر.
وعليه فإن الموعد المذكور يشكل تاريخا فاصلا, وفي الوقت نفسه يضع الناخب التركي أمام معادلة الاختيار بين مرحلتين، مرحلة الانقلابات وتحديدا انقلاب عام 1980 الذي انتهى بإعدام المئات واعتقال الآلاف وحظر الأحزاب السياسية قبل أن يضع قادة الانقلاب دستورا جديدا على مقاسهم “الدستور المعمول به حاليا والذي يتلخص في معادلة الجيش يحمي الدستور والدستور يحمي الجيش”، وبين وضع نهاية سلمية لهذه المرحلة والتخلص من سيطرة النظام العسكري والانتقال إلى مرحلة جديدة تترسخ فيها الديمقراطية والحكم المدني.
في الواقع, إذا كانت معادلة الاختيار تحظى بارتياح كبير لدى حزب العدالة والتنمية نظرا لأنه يصب في خانة السعي الشعبي إلى التغيير وتعزيز الإصلاحات السياسية بما يعني التصويت بنعم في الاستفتاء فإن قوى المعارضة وعلى اختلاف مشاربها السياسية تقف ضد هذه التعديلات وتشن حملة غير مسبوقة من أجل التصويت بـ(لا).
وفي مقدمة هذه القوى حزب الشعب الجمهوري الوريث التاريخي للكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية), وهو ينطلق في معارضته من أن هدف حزب العدالة من هذه التعديلات ليس تعزيز الديمقراطية كما يقول بقدر ما هو تعزيز سيطرته على الحياة السياسية التركية ومؤسسات الدولة.
وهو هنا يستشهد بالمادة 35 التي لم يطرحها الحزب للتعديل أو الإلغاء, وهي مادة ثبتت في دستور عام 1983, وتقول بالحرف (إن وظيفة القوات المسلحة هي حماية الوطن والحفاظ على الجمهورية التركية كما هي محددة بالدستور).
وإذا كان مفهوما أن وظيفة أي جيش في العالم هو حماية الوطن فإن الإشارة وفقا لما حدده الدستور فيها عودة إلى المادة 85 التي تعطي للجيش صلاحية التحرك بالسلاح حتى ولو في مواجهة الداخل, بمعنى بقاء إمكانية قيام الجيش بانقلاب عسكري في هذا الظرف أو ذاك.
ومع أن مثل هذا الانتقاد يبدو منطقيا فإن حزب العدالة يرى فيه نوعا من المزايدة السياسية أو التشويش على مسيرته, إذ إنه يرى أن وراء ذلك أسبابا سياسية لها علاقة بالمساعي الجارية لتفجير أزمة قوية بينه وبين الجيش الذي ما زال يعد من أهم المؤسسات التركية على الرغم من تراجع نفوذه وبريقه في عهد حزب العدالة والتنمية.
وعلى غرار حزب الشعب الجمهوري يعارض حزب الحركة القومية المتطرف بزعامة اليميني دولت باغجلي التعديلات الدستورية, إذ يرى أنها تفتقر إلى البعد الإصلاحي، ولها علاقة بسعي حزب العدالة إلى التخلص من إمكانية حظره من قبل المحكمة الدستورية العليا بعد أن نجا من دعوى بهذا الخصوص عام 2007، كما يرى أن قوى “انفصالية” يمكن أن تستفيد من هذه التعديلات، (في إشارة إلى الحركة الكردية) مما يشكل خطرا على وحدة البلاد.
بدوره يدعو حزب السلام والديمقراطية الكردي -الممثل في البرلمان بعشرين عضوا- إلى مقاطعة الاستفتاء, إذ يرى أن التعديلات الدستورية جاءت خالية من أية بنود من شأنها ملامسة المشكلة الكردية التي تشهد مرحلة جديدة من العنف الدموي بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي.
وقد اشترط الأكراد مسبقا دعم هذه التعديلات بخطوات إصلاحية تمس مشكلتهم, من أهمها الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية للأكراد وإلغاء نسبة عشرة بالمائة التي ينبغي على الأحزاب الحصول عليها في الانتخابات للدخول إلى البرلمان, وإلغاء عقوبة منع ممارسة العمل السياسي عن الأفراد, واعتماد تركيا وليس العرق التركي هوية لمسألة الانتماء حيث لم تلحظ التعديلات الدستورية هذه المطالب, وقد قيل بأن سبب ذلك هو حرص حزب العدالة على عدم الاصطدام مع الجيش وضمان نجاح الاستفتاء.
الاستفتاء والإصلاح
تتألف التعديلات الدستورية التي سيتم الاستفتاء عليها من 26 مادة, وهي تعديلات تتركز على مسألتين أساسيتين:
الأولى: إعادة هيكلة مؤسسات القضاء (زيادة عدد أعضاء المحكمة الدستورية من 11 إلى 17, وعدد أعضاء المجلس الأعلى للقضاء والمدعين العامين من 7 إلى 22), فضلا عن تغير آليات انتخاب كبار القضاة والمدعين العامين وطريقة تعينهم.
الثانية: محاكمة العسكريين بما في ذلك كبار قادة الجيش أمام المحاكم المدنية بدلا من العسكرية, وهذه مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لحزب العدالة في ظل المعركة المستمرة مع شبكة (أرغينيكون-الوطنيون الجدد) حيث تشير الوقائع إلى أن مجموعة من كبار الضباط هم من يقفون وراء أعمال هذه الشبكة, بما في ذلك المحاولة الانقلابية التي عرفت بـ(البايلوز–المطرقة) ضد حكومة رجب طيب أردوغان.
إضافة إلى ما سبق, كان حزب العدالة اقترح أمام البرلمان مادة تقضي بمنع حظر الأحزاب من قبل المحكمة الدستورية العليا ونقل هذه الصلاحية إلى البرلمان عبر آلية قانونية إلا أنه أخفق في تمرير الاقتراح في تعبير عن أزمة بنيوية بينه وبين القوى التقليدية المصنفة في خانة العلمانية والمؤلفة بشكل أساسي من مؤسسات الجيش والقضاء والتعليم العالي, وهي أزمة لها علاقة بطبيعة النظام وتركيبته وآلياته.
وعليه ينبغي عدم النظر إلى معركة التعديلات الدستورية التي تمس قضايا حساسة على أنها مجرد تعديل في بعض المواد الدستورية التي لم تعد صالحة للعمل بها, بل ينبغي النظر إليها كقضية مصيرية لطرفي الصراع, إذ إنها تتعلق بنظرتين مختلفتين للدولة والمجتمع والدين وآلية إدارة البلاد وخياراتها السياسية.
ومن هنا تنبع أهمية المعركة المحتدمة التي تأخذ طابع الإصلاحات السياسية بنظر حزب العدالة, فيما ترى الأوساط المعارضة لها أنها بمثابة انقلاب أبيض على آلية إدارة مؤسسات البلاد التي تمثل الإرث السياسي للأتاتوركية.
ينطلق حزب العدالة وعلى رأسه أردوغان في معركة التعديل الدستوري من قضيتين، الأولى: التطلع إلى ترتيب البيت الداخلي في إطار مسيرة إصلاح سياسي يسعى الحزب إليه منذ تسلمه السلطة في عام 2002، وكان من أهم معالمها إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي والحد من دور الجيش في الحياة السياسية لصالح الحكومة المدنية.
والثانية: تعزيز فرص الانضمام إلى العضوية الأوروبية وتقوية الدبلوماسية التركية في الخارج عبر تحررها من قيود الداخل. وعليه يرى أردوغان أن مسألة الإصلاح السياسي أصبحت أولوية لا رجعة عنها.
في المقابل, فإن القوى المعارضة ترى أن هذه التعديلات ستمكن حزب العدالة من وضع يده على مؤسسات البلاد من جهة, ومن جهة ثانية فإن العملية أعدت بطريقة بعيدة عن التوافق السياسي.
ما بعد الاستفتاء
في الواقع, بغض النظر عن هذا الجدل, فإن الاستفتاء المرتقب يعد أهم محطة سياسية في مسيرة حزب العدالة والتنمية وفي نفس الوقت هو امتحان لقيادته في المرحلة المقبلة, فالاستفتاء الذي هو بمثابة بروفة حقيقية للانتخابات النيابية المقررة في يوليو/تموز المقبل يرى فيه العدالة والتنمية أن التصويت بـ(نعم) على التعديلات الدستورية سيكون أشبه بثورة دستورية ديمقراطية على إنهاء نظام الوصاية العسكرية والقضائية المستمدة من الدستور القديم الذي اعتمده الجيش عقب الانقلاب العسكري, في حين من شأن التصويت بالرفض توجيه ضربة قوية لخطة الإصلاح الحكومية والضرر بمعنويات حزب العدالة والتنمية مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، وعليه فإن ما سيترتب على الاستفتاء مهم جدا لمسيرة الحزب.
حتى الآن, تشير استطلاعات الرأي التي تنشرها المؤسسات الإعلامية القريبة من المعارضة إلى احتمال رفض الناخبين للاستفتاء بنسبة ضئيلة, فحسب استطلاع أجرته مؤسسة “سونار” المعنية باستطلاعات الرأي تبين أن 50.9% من الناخبين سيرفضون الاستفتاء مقابل تأييد 49.1% له, ويبدو أن المعارضة تراهن في رفضها على ما يتحدث به البعض عن تراجع في شعبية حزب العدالة على خلفية الركود الاقتصادي الجاري.
ولكن في المقابل فإن ثمة مؤشرات تصب في مصلحة حزب العدالة, لعل أهمها نجاح أردوغان في إيجاد آلية لإدارة المعركة مع الجيش في الداخل، وقد تجسد ذلك في التعيينات العسكرية الأخيرة (رئيس الأركان وقادة القوات) والحديث عن إمكانية انفراج في المشكلة الكردية بما يعني إمكانية كسب الصوت الكردي في الاستفتاء, فضلا عن أن سبب الركود الاقتصادي أزمة مالية عالمية وليس له علاقة مباشرة بسياسات حكومة حزب العدالة, بل إن التقارير تشير إلى أن السياسات الاقتصادية لهذه الحكومة نجحت في إنقاذ البلاد من انهيار اقتصادي بعد أن كان الاقتصاد التركي يعيش قبل حكم حزب العدالة على وصفات صندوق النقد الدولي.
في جميع الأحوال, من الواضح أن معركة الاستفتاء تبدو مصيرية في معركة الصراع على المشهد السياسي التركي وصوغ هذا المشهد وتحديد شكله في المرحلة المقبلة.
فهي بالنسبة لحزب العدالة مرحلة جديدة لترسيخ الديمقراطية وتعزيز خياراته السياسية الداخلية والخارجية حيث يتطلع أردوغان إلى نظام رئاسي قوي على الطريقة الأميركية يكون هو في قصر “تشانقايا” الرئاسي عام 2012 بعد إقرار نموذج نظام رئاسي يحظى بصلاحيات كبيرة, في حين ترى الأطراف الأخرى أن تجربة حزب العدالة والتنمية محكومة بحالة سلطوية وهي كتجربة باتت مهددة بالتراجع أمام متغيرات الداخل واصطفاف القوى السياسية وإعادة هذه القوى لتجميع صفوفها.
دون شك, ستحدد نتائج معركة الاستفتاء الكثير من معالم تركيا الجديدة في المرحلة المقبلة, ولمستقبل حزب العدالة الذي نجح حتى الآن في تحويل خطواته التكتيكية إلى نجاحات إستراتيجية، بينما تطمح المعارضة إلى إلحاق هزيمة به في معركة الاستفتاء ليكون وقعها مدويا في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
الجزيرة نت