تركيا التي تشبهنا في لحظتها السياسية الراهنة
رستم محمود
صبيحة هذا اليوم، سيكون قد مر على تركيا ثلاثون عاما بالتمام والكمال، منذ قيام انقلابها الشهير، من عام 1980، واليوم سيتجه قرابة أربعين مليون مواطن تركي للتصويت على التعديلات المقترحة على بعض من أهم مواد الدستور الذي كان قد خطه الانقلابيون وقتها. حيث تشير استطلاعات الرأي إلى تقارب كبير بين نسبة الذين سيصوتون بنعم على تلك التعديلات ونسبة الذين سيصوتون بلا.
حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي قدم هذه التعديلات الدستورية، يرى فيها الخطوة العملية الأولى لتغير الصورة النمطية التي لاحقت الكيان التركي منذ نشأته عام 1923، حيث كان يقال إن لكل دولة جيشاً، إلا تركيا، فجيشها له دولة. فالتعديلات المقترحة حسب رؤية الحزب المذكور، تقيم توازنا وضبطا بين السلطات العسكرية والمدنية في البلاد، وتسمح لكل طرف بممارسة دوره وفعله الطبيعي في الحياة العام . فهذه التعديلات ترفع عن العسكريين كل أشكال تميزهم القانوني أمام المحاكم والهيئات المدنية الأخرى، كما إنها من جهة أخرى تسحب ذلك الكمون المضمر لرأس المؤسسة القضائية المتمثلة بالمحكمة الدستورية، وتزيل عنها معظم قوتها الفعلية في كبح كل إشكال التغير، التي تتم خارج رغبتها. وفوق ذلك كله فإن التعديلات المذكورة تصعب لدرجة كبيرة موضوع إقفال الأحزاب السياسية ورفع الدعاوى عليها… الخ.
حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية، اللذان يعبران عن رفضهما لهذه التعديلات الدستورية، يعزيان ذلك لثلاثة أسباب وجيهة حسب رأيهما. فمن طرف لم تأت هذه التعديلات كنتيجة لحوار سياسي داخلي بين القوى الفاعلة في البرلمان، لذا فأن هذه التعديلات ربما تكسر من الطبيعة الاستحواذية للمؤسسات العسكرية على ميكانيك الحياة العامة في البلاد، لكنها بالمقابل تكرس استحواذ حزب العدالة والتنمية وتيار لها الأيدلوجي على تلك المكانة، وعبر المؤسسات التي يسيرها راهنا من رئاسة البلاد والوزراء إلى المؤسسات البلدية. فلو كان دستور الثمانينات دستور الانقلابيين، فإن الدستور المفترض هو دستور حزب العدالة والتنمية. ومن طرف آخر فأن هذه التعديلات تلعب بنظام الدورة الدموية السلطوية في البلاد، بحسب الحزبين، كانت الدولة التركية دوما قائمة على توزيع عادل للسلطة، بين القوى التي تحافظ على الطبيعة العلمانية للبلاد، وبين القوى التي تحفظ ديمقراطيتها. وهذه التعديلات، تضع القوى الأولى في يد الأخرى، وبذلك تكون الطبيعة العلمانية للبلاد في خطر شديد. وأخيرا فأن هذه التعديلات، ودوما حسب الحزبين المذكورين، تفتح الباب أمام اندراج عرف في الحياة السياسية التركية، يخضع فيها الدستور لأمزجة الأحزاب الحاكمة فالموافقة ستعني، أن لكل حزب يصل لسدة الحكم الحق في جر الدستور لمكان ييسر دوام بقائه في حكم البلاد، وهو ما لا يليق بأهم نص في العقد الاجتماعي التركي، والذي تأسس نتيجة تراكم تاريخي طويل، وليس نتيجة فعل ومزاج سياسي زمني عابر وقصير، كوصول حزب سياسي ما لسدة الحكم.
حزب المجتمع الديمقراطي، الذي يعتبر حزب الحركة القومية الكردية في البلاد، اتخذ موقفا مخالفا لكافة الأحزاب السياسية، حينما قرر مقاطعة العملية برمتها. بحسب هذا الحزب، فأن التعديلات الدستورية المقترحة بكل صخبها ليس لها القيمة التي تتصور بها، فهي أخير حافظت على مبدأ وروح حركة الانقلابين، حينما أبقت تركيا جمهورية اللون والطعم الواحد، فهي لم تنص على تغير أي بند من بنود الدستور التركي التي تكاد تحصر كل السلطات والسيطرة بيد القومي التركي المسلم الحنفي الأبيض، ولا شيء ولا اعتراف بكافة الطيف الإنساني الآخر الموجود في البلاد، ومن بين هذه الأطياف الأكراد والأرمن والعلويين… هؤلاء الذين تناهز أعداهم نصف سكان البلاد. وأيضا هؤلاء الذين سعى انقلاب 82 لتصفية كافة تطلعاتهم الديمقراطية المشروعة.
المراقبون من خارج الفعل السياسي التركي يرسمون عددا من السيناريوهات المصيرية تبعاً لنتيجة هذا الاستفتاء.
فلو جاءت النتيجة بنعم، فان هذا سيعني امتداد مشروع حزب العدالة والتنمية لآفاق سياسية أوسع بكثير، وبضمانات دستورية، ودون أية عقبة مؤسساتية رسمية تعترضها وتشك بنواياها، كما كانت المؤسستان القضائية والعسكرية تفعلان حتى الوقت الذي سبق هذا الاستفتاء. وهذا بمجمله سيفتح الباب أمام تهيئة البلاد لتقبل دستور جديد عام 2011 وعلى مقاسها الخاص. وهذه الكتلة مجتمعة ستعني سيطرته السياسية والأيدلوجية على مجمل لوحة البلاد، وهو شيء لا بد أن يلقى معارضة من قبل القوى الاجتماعية والسياسية التركية التقليدية، تلك التي لها قوة لا يستهان بها في الشارع التركي. حيث من المحتمل جدا، أن تشهد البلاد موجة كبيرة من “النزول للشارع” من قبل تلك القوى، وذلك كحائط دفاع أخير من قبلها لرد هذه الموجة، هذا الموقف الذي شهدت البلاد مثيله قبل عامين تقريبا، حينما عرض حزب العدالة والتنمية تعديلات يسمح بموجبها للمحجبات بدخول الجامعات، فووجه بموجة من الاحتجاجات في الشارع التركي، كانت لها تأثيراتها على قرار المحكمة الدستورية برفض تلك التعديلات، وتهديد حزب العدالة والتنمية بالإغلاق. لكن التعديل الراهن يسحب حتى تلك الإمكانية الدستورية، بعد أن تكون التعديلات قد شلت دور المحكمة الدستورية، وهو الشيء الذي سيدفع البلاد نحو معادلة ” شارع مقابل شارع”.
أما لو جاءت النتيجة بلا، فأن المتوقع ليس بأقل من المشهد السابق. فهو سيعني بدء مرحلة الهبوط لمشروع حزب العدالة والتنمية، الشيء الذي يدفع نحو عدم قدرته على الاحتفاظ بأغلبيته النيابية في الانتخابات النيابية، ومعه عدم قدرة أي تيار سياسي آخر في البلاد تشكيل تلك الحكومة، حيث ستكون الدولة وقتها أمام معضلة سياسية ضخمة. ولو قدر لتيار سياسي تشكيل الحكومة، فلا بد من أن يتكون من تحالف حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية، وبينهما وبين العدالة والتنمية ما صنع الحداد. فلو جرى ذلك، فإن تركيا بكل سياساتها الداخلية والخارجية ستتخذ منحى وشكلاً آخر مختلفين تماماً، وربما تكون الخطوات الأولى لتلك الحكومة، تغيير جملة من الهيكليات التي أحدثها حزب العدالة والتنمية على البنية القانونية والدستورية التقليدية في البلاد خلال سنوات حكمه الثماني. من مشروع انفتاحه على الأكراد إلى سياساته الشرق أوسطية الخاصة إلى موقفه من الدخول للإتحاد الأوروبي…. الخ.
مقارنة بالعالم العربي، دون شك تبدو البنية الدولاتية في تركيا أكثر رصانة في مجابهة مشاريع مثل هذه. فهي بالنهاية تجري بواسطة مؤسسات مدنية ودون عنف واضح ويسلم الخاسر بها بحق الرابح. لكن قليلا في العمق، يمكن ملاحظة كمية روح الهوية والذات والانقسام الشاقولي المختفي وراء تلك الخطابات، فكل من تلك البنى ترى في تلك النوازع التغييرية تهديداً لها أو تعزيزاً لوجودها.
المستقبل