من يريد عثمنة العرب؟
ميشيل كيلو
تعم من حين لآخر أقوال أو مصطلحات يتلقفها اللسان السياسي العربي، ويبدأ بتكرارها بمناسبة وبدون مناسبة، كأنها حقائق متعالية لا يرقى إليها شك. آخر هذه الكلمات، التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، تلك التي تقول: ان حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامية التركية تعثمن بلادها، تمهيدا لعثمنة العالم العربي، وتشن هجوما عاما يطاول سائر الجبهات العربية، وخاصة منها الفلسطينية والعراقية، لتحقيق هذا الهدف.
هل صحيح أن أردوغان ورفاقه في حزب العدالة والتنمية يريدون عثمنة تركيا، أي إعادة بلادهم إلى الزمن السابق لعام 1908، الذي بدأ معه تتريك الدولة العثمانية وإضفاء طابع قومي حديث عليها قضى على طابعها الثنائي: العثماني/ العربي، وسعى إلى إخضاع العرب للترك، مع ما ترتب على ذلك من سياسات إكراهية نفرت عرب ذلك الزمن من الشريك الجديد، ودفعتهم إلى الثورة عليه، بعد أن كانت الامبراطورية إسلامية: لا عثمانية ولا عربية، وكان ممكنا إيجاد صيغة لتعايش جناحيها في إطارها الواسع: غير القومي ؟.
هل يمكن أن يفكر رجل عاقل كأردوغان بحذف تاريخ عمره قرابة قرن، وقع خلاله تحديث تركيا وتخليصها من أعباء ميراثها العثماني، ليعود ببلاده إلى حقبة تخطاها تطور تركيا والعالم، وصار الرجوع إليها ضربا من الاستحالة، يهدد وجود الدولة التركية برمته، إذا افترضنا أن موازين القوى الداخلية تسمح لأردوغان بإعادة تركيا إليه، وكان بوسع قرابة أربعين بالمئة من الناخبين المؤيدين له فرض إرادتهم، غير القابلة للتحقيق، على بقية مواطنيهم، المتمسكين بالدولة القومية التركية في صيغتها الأتاتوركية المتطرفة قوميا، المعارضين لأسلمتها، الذين يرجح مراقبون كثر أن يطيحوا في الانتخابات المقبلة بحكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي ينفي بحرص شديد أنه حزب إسلامي؟
تمارس حكومة أردوغان سياسات تستهدف ترميم واستعادة علاقات تركيا، كدولة قومية، مع العالم العربي، المستقل عنها. هذا أمر لا جدال فيه. لكن أي نوع من العلاقات يريد أردوغان، ومع أي عرب؟. وهل ستكون علاقات تركيا مع سوريا المجاورة من نوع علاقاتها مع مصر والمغرب البعيدين؟. وهل ستكون علاقاتها مع العراق من نمط علاقاتها القديمة معه زمن الحكم العثماني، حين كان ساحة صراع وقتال بين إسلامها السني وإسلام إيران الصفوية الشيعية؟. وهل ستستطيع، كما فعل النظام العثماني، احتواء وتهدئة العالم العربي بدوله المتعارضة المصالح والسياسات والأهداف، المتباينة الأحجام والرهانات والارتباطات؟.
ثمة هنا استحالة مضاعفة: استحالة رد تركيا إلى زمن العثمانية الإسلامية، بعد أن تحدثت أقسام واسعة من مجتمعها وتعلمنت، واستحالة سيطرة تركيا القومية على عالم عربي كبر كثيرا على قبضتها الصغيرة، لم تعد الرابطة الدينية تشده بعضه إلى بعض، كي تشده إلى غير العرب من المسلمين، وأحلت حكوماته ونظمه رابطة المصلحة، بأكثر معانيها مباشرة وفسادا، محل أي رابطة أخرى: قومية كانت أم دينية، وخرج منذ زمن طويل من الرغبة في توحيد أو تجميع قدراته وطاقاته، واستطاب حكامه قطريته، لاعتقادهم أنها تضعف مجتمعاته وتمكنهم من التحكم فيها بالطريقة التي تحلو لها، فليس في مزاج الاتحاد أو الارتباط مع أحد، إلا في حالتين:
ـ أن تجبر صراعاته بعض أطرافه على الاستقواء بدول من خارجه، منها تركيا، التي ستجد نفسها غارقة في صراعات وتناقضات عميقة وضاربة، وستركز جهودها على الابتعاد عنها وتحرير نفسها من النتائج الوخيمة التي يمكن أن تترتب عليها، وسترغب على الأرجح في تقييد دورها فيها إلى أدنى حد، وفي الانكفاء على ذاتها، لمواصلة طريقها بعيدا عن مشكلات العرب القاتلة .
ـ أن يستدرجها الضعف العربي العام، وضعف بعض جيرانها، إلى لعب دور يتخطى قدراتها داخل المجال العربي، حيث ستجد نفسها بعد حين على الجانب الخاسر من المعادلات والصراعات الإقليمية والدولية، وتسارع إلى التملص من التزاماتها تجاه من وضعت يدها في أيديهم.
مهما كان ما سيحدث، فإن تركيا الراهنة ستكتفي ـ على الأرجح ـ بعلاقات طيبة مع العرب: من طبيعة اقتصادية أكثر مما هي سياسية، أو سياسية بدمغة اقتصادية غالبة، وستراقب ما يجري عن كثب، أي عن بعد، لتفيد من الأمر القائم العربي، وتتفادى ما قد يترتب على انخراطها المباشر فيه من ضرر يلحق بمصالحها ومكانتها الإقليمية والدولية. وللعلم، فإن توجهها الجديد نحو العرب تلازم مع تطورين مهمين:
ـ الانخراط الإيراني العميق، المباشر والواسع، في الشؤون العربية، الذي يهدد مكانتها الإقليمية ودورها، ويستوجب الرد عليه توسيع دائرة اهتمامها نحو الشرق، بعد أن كانت طيلة نيف ونصف قرن مكرسة للغرب وصراعاته مع السوفيات، واقتصرت على تحديث داخلي من نمط برجوازي/ غربي، اكتشفت بعد الثورة الإيرانية أنه لا يحصنها داخليا، وأن عليها مصالحة جوانب من عثمانيتها، لتتمكن من حماية نظامها. أليس هذا هو السبب المحتمل لصعود نجم حزب العدالة والتنمية، الذي جاء من الإسلام السياسي إلى العلمانية والمدنية، فجمع في سياساته ومواقفه خير ما في التيارين من مشتركات، ووسع دور تركيا دون أزمات وخضات داخلية، وفتح أمامها أبواب الشرق، العربي والإيراني، دون أن يؤدي ذلك إلى إغلاق أبواب القومية والعلمانية، والقطيعة مع الغرب، أو يحول دون بلورة نموذج إسلامي جديد، نجح في التوفيق بين ما كان يعد متناقضا: عنيت القومية والعلمانية والجمهورية والديموقراطية والإسلام والرأسمالية، بينما تتمسك إيران بنموذج يصعب عليه اختراق العالم العربي (يقتصر الاختراق إلى اليوم على تنظيمات محدودة ومبعثرة هنا أو هناك)، يتخبط في عزلة دولية خانقة، فلا يجد غير السلاح لغة يكلم الغير من خلالها، مع ما في هذا التطور من تقويض لفرص إضفاء طابع إسلامي جامع عليه. في مقابل هذا النموذج، تراهن تركيا على كسب الدول دون اختراقها، وتطوير مشتركات معها حاملها الاقتصاد وليس الدين أو المذهبية، هي سبيلها إلى الخروج من مشكلاتها، وليست السبيل إلى مزيد من الغرق فيها أو إلى مشكلات جديدة ليست بحاجة إليها ولا تقوى على التخلص منها .
ـ الحاجة إلى دور مختلف عن ذاك الذي لعبته في الماضي القريب وقام على الانخراط في تكتل دولي، غربي، يصارع تكتلا آخر، سوفياتيا/ شرقيا، وهو دور حامله جيش يتبنى نزعة قومية نجحت في تحديث تركيا بدون أن تعرضها لخطر الاشتراكية، ووضعتها في سياق عالمي لم يتعارض مع طابعها الداخلي، نماها في سياق رأسمالي دون أن يهدد استقلالها. ليس الجيش أداة ملائمة لتنفيذ السياسة الجديدة، التي تراجع فيها خطر الصراع المسلح، وبرز الاقتصاد كساحة تواصل مع الآخرين وكأداة تفاعل معهم ودخول إلى بلدانهم، والاقتصاد بطبيعته ليس عثمانيا أو تركيا، ولا يتطلب العثمنة كي يصل إلى الأسواق الخارجية، وليست لديه أساسا القوة الكافية لتحقيق ما يجب أن تتضافر لبلوغه جهود وقدرات سائر مؤسسات وقوى الدولة السياسية والعسكرية، فضلا عن الاقتصادية. لا يتطلب نجاح الدور الجديد عثمنة أحد، وإلا فشل فشلا ذريعا، ولاحق هدفا مستحيل التحقيق. كما لا يتطلب عثمنة تركيا، وإن أعاد إليها بعض ما فقدته من أواصر تاريخية مع جيرانها الأقربين، وخاصة منهم العرب، الذين انفصلوا عنها لأن جامعة الإسلام لم تكن كافية لبقائهم تحت سيطرتها، والرابطة القومية أبعدتهم عنها، وليسوا اليوم مؤهلين، رغم تلاشي رابطتهم القومية من سياساتهم، لاستعادة ماض تستحيل استعادته، في ظل قطرية نظمهم العضوض.
لا يريد أحد عثمنة العرب، أقله لأن عثمنتهم تخضعهم من جديد لمركز واحد. وهذا ممنوع أميركيا وصهيونيا. ولا يستطيع أحد عثمنة العرب، لان تركيا نفسها ليست قادرة على، أو راغبة في استعادة الحقبة العثمانية من تاريخها، ولان محاولة استعادتها ستعني الحرب الأهلية بين نصفيها المتعادلين: الإسلامي والعلماني، وعودة جيشها إلى الموقع والدور اللذين تحاول السياسة إخراجه منهما، بقوة ظروف عالمية ومحلية وإقليمية تغيرت سياسيا واقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا. تجتهد حكومة العدالة والتنمية لرسم ما يناسبها من رؤى جديدة. ليست ولن تكون عثمانية بالتأكيد، مهما بلغ حجم الشوق الإسلامي إلى ماض جسده سلطان كان اسمه عبد الحميد، أطاح به الجيش التركي، بعد فشل عثمنة الإسلام التي بلغت ذروتها في سياساته، ورفضها العرب باسم الإسلام والعروبة في آن معا، وانقلب أتاتورك وجيشه عليها، قبل أن يقضوا على بقاياها باسم القومية التركية.
لن تعود تركيا إلى الماضي، بينما هي تقدم نموذجا ناجحا للتقدم نحو المستقبل. ولن يتعثمن عرب تابوا عن عروبتهم لا كي ينخرطوا في إطار إسلامي، بل كي لا يكون هناك أي إطار يجمعهم، غير خلافاتهم وتناقضاتهم المستشرية، المتفاقمة من يوم ليوم ومن ساعة لساعة.
السفير