ماكينة التزوير السياسي
سليمان تقي الدين
في حديث غير مسبوق، وبلا مقدمات، أُعطي خصيصاً وبالقصد لصحيفة «الشرق الأوسط» السعودية، اعترف رئيس الحكومة اللبنانية بخطأ الاتهام السياسي لسوريا في جريمة اغتيال والده. ووصف شهود الزور بأنهم أضرّوا بالتحقيق، وخرّبوا العلاقة اللبنانية السورية، مؤكداً حرصه على بناء علاقات أخوية تاريخية استراتيجية مع سوريا وعدم تكرار الخطأ.
في مكان ما هناك إيجابية لهذا الموقف، لكنه مراجعة نقدية لبعض التفاصيل لا ترقى إلى مستوى الحدث الذي أخذ البلاد خمس سنوات إلى انقسام وإلى اصطفاف ما زالت تداعياتهما تتفاعل، ونتائجهما تحفر في عمق العلاقة بين اللبنانيين، وبينهم وبين سوريا.
لكن الكلام «المبتور» أو الحقيقة المجتزأة لا تسهم أبداً في إرساء العلاقات اللبنانية السورية على ركيزتها الصحيحة. ليس عن طريق «تحييد سوريا» المزعوم ما يمكن أن يؤدي إلى الخروج من المشروع السياسي الذي استهدفها مباشرة ولا يزال يستهدفها بالواسطة.
على أي حال، أصبحت لازمة الاعتراف بالاتهام السياسي ووجود الشهود الزور كأنها تنظف السجل العدلي لتلك القوى التي ركبت في عربة المشروع الأميركي بكل مفاصله وفصوله، ولم يكن الاتهام بالاغتيال السياسي إلا فصلاً واحداً لا يزال يُستثمر بطرق مختلفة.
في القراءة السياسية التي يجب ألا يتم تزويرها أبداً، أن الانقلاب الخطير على العلاقة مع سوريا ومع أصدقائها قد بدأ ينفذ في ظل القرار الدولي 1559 الذي كان يستهدف استكمال مشروع احتلال المنطقة وإخضاعها وضرب كل قوى الاعتراض من المتوسط حتى وسط آسيا. سقطت هنا أو هناك ورقة من هذا الملف بالمقاومة والصمود، لكن المشروع يستوطن في الدواخل، في العراق المفكك، وفي فلسطين الممزقة، وفي لبنان المرشح للفتنة ضد مناعته وعناصر قوته. لم تكن المسألة حصراً «الشهود الزور»، تلك الحفنة من المرتزقة الصغار وشذاذ الآفاق. لقد ظهر هؤلاء على المسرح السياسي الضخم لذاك الانقلاب الخطير الذي شهدنا، ولن ننسى استعراضاته في ساحة «الحرية» وهو يدحرج كل القيم الوطنية، ويعلن هدفه في اجتثاث «النظام الأمني المشترك». وفي ضمنيات ما يعنيه ذلك، عرف المنفذون أم لم يعرفوا، يدفعون البلاد إلى هاوية الفوضى. فهل كان «الاتهام السياسي» مزحة نعتذر عنها، وفي رقبته سقط ضحايا أبرياء من اللبنانيين والسوريين وخرجت سكاكين العنصرية تفتك بالبلاد والعباد وتخوّن وتجرّم وتتهم، وتحاصر وتلغي، وتطاول كرامات الناس، وتوهن سلطة الدولة، وتشحن النفوس بالحقد والكراهية، وتضرب في صميم العيش الإنساني للعائلة الواحدة، قبل أن تضرب في «العيش المشترك». في حقيقة ما جرى أن ماكينة ضخمة من التزوير السياسي المدفوع الثمن في كل الوسائل أدارتها غرفة سياسية سوداء لها رموزها وقواها، هي التي يجب أن تحاسب بالسياسة أولاً، ومن ثم إذا أمكن بالعدالة القضائية اليتيمة الآن بعد أن أفقدوها شرعيتها ونسبها، وصارت خرقة لمسح بعض الوجوه وتشويه أخرى.
لا معنى لأي نقد سياسي لتجربة سنوات المحنة الوطنية لاستجداء رعاية هنا أو هناك، فيما المشكل الأصلي هو منهج التفكير والعمل وأدواتهما.
لا نحتاج إلى سنوات خمس أخرى تنشب فيها أظافر السياسات الدولية في جسدنا كي ندرك أو نصحو من كوابيس المحكمة الدولية التي لم تكن إلا قناع الأهداف المعروفة التي ذقنا منها حرب تموز، ويسعى المشروع نفسه الى أن يذيقنا مجدداً حرب الرايتين بين الخلافة والإمامة.
السفير