الديمقراطية في العالم العربي.. حلم أم كابوس؟
شادي جابر
“يوم الثلاثاء المقبل سيكون تاريخاً فاصلاً لانتهاء سبع سنوات من المهام القتالية للقوات الأمريكية في العراق”… هكذا قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما في الثامن والعشرين من شهر أغسطس الماضي، معلناً انتهاء ما سماها “المهام القتالية” للجيش الأمريكي في هذا البلد.
الغريب، أن أكثر من مسؤول وسياسي عراقي، كانوا قد أعلنوا تخوفهم من الانسحاب الأمريكي، بذريعة أن الجيش العراقي ليس جاهزاً لحفظ الأمن في البلاد… والمضحك المبكي، أن مسؤولاً كبيراً في عهد الرئيس السابق صدام حسين (طارق عزيز) عبر أيضاً عن خطورة انسحاب الجيش الأمريكي من العراق.
يمكن لأي مراقب أن يلحظ أن الوضع السياسي في العراق انقلب رأساً على عقب بعد الاحتلال الأمريكي في العام 2003، ويمكن أيضاً أن يلحظ أن الانسحاب الأمريكي يأتي في خضم أزمة سياسية تعصف بالعراق منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مارس الماضي. ولسنا بصدد مقارنة الوضع الراهن في ذلك البلد بالوضع السابق، ولكن ألا يفترض أن يكون النظام السياسي الجديد قد أصبح ديمقراطياً بالأفعال لا بالأقوال فقط، وقادراً على حكم العراق بعد الانسحاب الأمريكي؟!.
فلماذا فشلت الطبقة السياسية الموجودة في السلطة وخارجها في الاختبار الديمقراطي؟.. بل إن الانتخابات البرلمانية الأخيرة أنتجت أزمة سياسية وانقساماً حاداً بين الأحزاب والتيارات السياسية العراقية، وأدت إلى تزايد العنف والتفجيرات، بدل أن تكون استحقاقاً يعزز الأمن والاستقرار، ويُفرز تداولاً سلساً وسلمياً آلياً للسلطة كما يحصل بأي بلد ديمقراطي في هذا العالم.
وإذا كانت الأزمة السياسية في العراق تبدو من حيث الشكل وكأنها نتاج خلاف على شخص رئيس الحكومة، فإن هذه الأزمة تحيلنا إلى التساؤل التقليدي المستجد الآن حول مدى استعدادنا وقابليتنا وأهليتنا نحن العرب شعوباً ونخباً لإنجاح ذلك الاستحقاق الديمقراطي والقبول بما تفرزه صناديق الاقتراع بغض النظر عن هوية هذا الحزب أو التيار السياسي الفائز بالانتخابات أو ذاك.
لم يكن يخطر ببال أدهى عقول السياسة في الغرب أن يصل العراق إلى ذاك المستوى من الفوضى التي شهدها منذ غزوه في مارس من العام 2003. لقد ظن معظم المراقبين للمشهد السياسي العراقي في فترة ما بعد إسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين، أن العراق قد لفظ الديكتاتورية والاستبداد إلى الأبد وتحول إلى بلد ديمقراطي سيكون أنموذجاً يحتذى لباقي بلدان المنطقة، كما كان يروج المحافظون الجدد في واشنطن وكثيرون غيرهم.
الآن وبعد كل هذا الدمار والخراب والضحايا من الأطفال والشيوخ والنساء فضلاً عن اليتامى والأرامل والمهجرين والمشردين… لن يكون مفيداً أن نبكي على الأطلال ونتفنن في تحميل الآخرين المسؤولية عن بؤسنا وانحطاطنا وتخلفنا وضعفنا وانقساماتنا وأزماتنا ومصائبنا وويلاتنا… إنما ينبغي أن نستخلص الدروس والعبر ونتعلم مما جرى في العراق وغيره من عالمنا العربي من جانب ومن تلك التجارب الديمقراطية التي خضناها أو عايشناها من جانب آخر.. نحن يا سيدي لا نزال نسقط في كل اختبار ديمقراطي من لبنان والجزائر إلى فلسطين وموريتانيا وصولاً إلى العراق.. وغيرها من بلاد العرب.
صحيح أن العراقيين بل والعرب عموماً حديثو العهد بالديمقراطية، وليس ذلك مستغرباً بالنظر إلى التاريخ الطويل من الاستبداد الذي عايشوه، فضلاً عن ضعف الوعي العربي بالديمقراطية وعدم الحماس لها باعتبارها نتاجاً غربياً غريباً عن ثقافتنا وتراثنا وتقاليدنا كما هو سائد… ولكننا لسنا الوحيدين في هذا العالم الذين عانوا من الاستبداد والديكتاتوريات؟.. فلماذا نجح الآخرون إذاً في التخلص منها بينما لا نزال نحن العرب ننتقل من فشل إلى آخر؟.
وإذا كان من المعيب أن يكون الواقع العربي على هذه الحال من التخلف في حين يتقدم الآخرون ويحققون الإنجاز تلو الآخر، فإن المعيب أكثر أن يبقى العرب غير مستعدين أو قابلين أو مؤهلين لممارسة الديمقراطية والعمل بمقتضاها وفقاً للمعايير السائدة في غرب المعمورة وشرقها.. المعيب أن نبقى عاجزين عن إنتاج صيغة حكم نبني من خلالها دولاً حديثة ترتكز على المؤسسات الديمقراطية أساساً، وتعتمد الدستور والقانون منهجاً، وتؤمن بقيم الحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
ألم يحن الوقت لاستخلاص العبر؟َ!.. ألا يؤكد ماضينا وحاضرنا أن المستبدين والطغاة يعبدون الطريق للمحتلين والغزاة؟.. ألا يؤشر واقعنا الراهن إلى أن الجسد العربي لا يزال معرضاً لكل أنواع الآفات والأمراض؟.. هذا إن لم يكن مريضاً بالفعل، وهو كذلك، وضعيفاً هشاً عاجزاً عن النهوض والتقدم والتنمية الحقيقية وإثبات حضوره بين أمم الأرض.
قد لا يتكرر ما جرى في العراق في بلد عربي آخر، وقد يتكرر.. كل شيء وارد في هذا العالم العربي البائس، أما الأمر المحسوم فهو أن التنازع على السلطة لا يزال القاسم المشترك بين السواد الأعظم من عالمنا العربي، وأن الأزمات تتوالد بأسرع وأسهل مما نتوقع كلما خضنا تجربة ديمقراطية جديدة نحلم أن نتخلص عبرها من الاستبداد وننتقل بها إلى نظام سياسي أكثر توازناً وعدلاً.
لا بد من القول بأن الأنظمة العربية تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن هذا الواقع العربي البائس، ذلك لأن غسيل الدرج عادة ما يكون من الأعلى إلى الأسفل… ولا يعني ذلك أن على هذه الأنظمة أن تفرض الديمقراطية على شعوبها وتلزمها بها كما تفرض عليها الالتزام بقانون السير مثلاً، بل أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية من خلال العمل على تعزيز الانتماء الوطني وبناء دولة المواطنة والقانون والعدالة وترسيخ دعائمها.
صحيح أن الديمقراطية ليست حلاً سحرياً لجميع مشكلاتنا أو علاجاً لكل آفاتنا وأمراضنا، ولكنها وسيلة الحكم الأكثر تقدماً وعدلاً التي توصل إليها الجنس البشري، وبدونها لا ملاذ آمناً ممكناً للخلاص من الاستبداد والظلم والقهر والقمع والبؤس والتخلف والانحطاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي… وحدث ولا حرج.
ولا شك أيضاً أن كل هذه الآفات ستبقى سائدة ومسيطرة على المشهد العربي من المحيط إلى الخليج، طالما بقيت المجتمعات العربية تقدم الانتماء الطائفي أو العرقي أو المذهبي أو القبلي على الانتماء الوطني، وستبقى الديمقراطية، إما حلماً بعيد المنال أو تتحول إلى كابوس مرعب كما نرى الآن في العراق.
إن الحل يبدأ من تأهيل المجتمعات العربية بالاعتماد على المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والدينية إلى جانب الجمعيات والمنظمات الأهلية، وتعزيز دورها في هذا الإطار، وقبل ذلك دور وسائل الإعلام، ذلك لكي يكون لدينا مجتمعات تؤمن بالديمقراطية ولديها الاستعداد لقبول نتائجها، باعتبارها نهجاً وطريقاً وسلوكاً وممارسة لا مجرد نظرية أو مفهوماً أو اختراعاً غربياً غريباً عنا لا يمكننا استيرادها وتطبيقها في بلداننا.
– الراية القطرية