سمير أمين مُحبَطاً: أيّ إسلام سياسي يتحالف مع الإمبرياليّة؟
دياب أبو جهجه *
أو العولمة البديلة، والحركات الاشتراكية الثقافية، سواء الزاباتية في المكسيك أو الحركات ذات النزعة البوليفارية في فنزويلا وبوليفيا، إلا أن هذا التجدد لم يجد صدى فعلياً له في وطننا العربي. ومن المهم الملاحظة أن اليسار العالمي راجع مقولات مركزية ذات طابع دوغمائي وتخطّاها ليعيد إنتاج ذاته، وهو وإن كانت الماركسية لا تزال تشكل إرثه التاريخي وركيزته المنهجية، إلا أنه تخطاها الى خطاب أكثر مرونة وأكثر قدرة على استيعاب التنوع الذي باتت المطالبة بالحفاظ عليه وإثرائه مطلباً يسارياً، بينما كان التنوع صفة الرأسمالية البراقة خلال فترة الحرب الباردة.
اليوم، تفرض الرأسمالية فكرها النيوليبرالي الأوحد ونمطها التذويبي لكل الثقافات، ويدافع اليسار الجديد عن الثقافات والقوميات وانعتاق الشعوب والإثنيات، وعن عالم تعدّدي في ظلّ نظام اشتراكي إنساني. إلا في وطننا العربي، حيث تبقى أصداء هذا اليسار الراديكالي التنوعي الجديد محدودة ويتشبث اليسار الماركسي التقليدي بطرح سوفياتي بائد لنموذج قضى نحبه، وذلك تحت حجة أن هزيمة الاتحاد السوفياتي لم تكن فكرية ولا منهجية، بل نتيجة أخطاء بالتطبيق ومؤامرات.
ويندفع يسار آخر، يحب تسمية نفسه الديموقراطي، بخطى متسارعة الى الحضن الرأسمالي، متحالفاً مع عتاة الليبرالية الجديدة ومنظّراً للهيمنة الأميركية وحاملاً لواءها. وتعلو من حين إلى آخر، أصوات يسارية عربية تطالب بإحياء تيارها وطرح مشروع جديد لأخذ دور لا بد من أن يكون لها بحكم أنها وحدها طليعة نضال هذه الأمة. ووحدها من يدرك مصالح الشعوب ويمتلك الأسرار المكنونة للمقاربة الاقتصادية الاجتماعية العلمية من أجل الانعتاق والتقدم.
وفي هذا السياق، طالعنا أخيراً المفكر الكبير سمير أمين بمقالة في مجلة «مانثلي رفيو» [2] تحت عنوان «الإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية» يشنّ فيها هجوماً حادّاً على تحالفات بعض اليسار المناهض للإمبريالية مع بعض التيارات الإسلامية، ومعتبراً بشكل جازم، أن الاسلام السياسي بطبيعته لا يمكن أن يكون الا في خدمة الامبريالية. يحقّ لسمير أمين طبعاً أن يطرح فكرة كهذه الا أن عليه أن يعززها بالحجج والبراهين، وهو لا شك ما يحاول فعله من خلال هذه المقالة. فهو يبدأ مقالته بمعاينة واقع هو أن هذه الحركات الاسلامية لا تفصل بين الدين والسياسة، وبالتالي فهي غير علمانية. ومع أن علمانية هذه الحركات أو عدمها مسألة لا علاقة لها بتماهيها مع الإمبريالية، لأنّ هذه الامبريالية ذاتها تكون أحياناً مفرطة في علمانيتها كما هي حال فرنسا مثلاً، الا أنّ تعريف أمين للعلمانية هو تعريف حصري وضيق. فالعلمانية في كثير من نماذجها بل وفي معظم تطبيقاتها لا تعني فصل الدين عن السياسة، بل تعني فصل المؤسسة الدينية سواء كانت الكنيسة أو دار الإفتاء أو رهبنة بوذية عن الدولة. العلمانية كما تطبّقها معظم الدول التي تسمي نفسها علمانية لا تتناقض مع التدين ولا مع تدين السياسيين ولا حتى مع أحزاب خلفيتها دينية. وهل يجب علينا أن نذكّر سمير أمين بأن أكبر تيار سياسي في أوروبا العلمانية هو التيار المسيحي الديموقراطي؟ وبأن الأحزاب المسيحية الديموقراطية تحكم هولندا وألمانيا ودولاً أخرى علمانية وتتناوب على الحكم في غيرها من الدول. إن أي طرح سياسي لا بد له من خلفية معرفية فلسفية، وهذه الفلسفة قد تكون دينية أو مادية أو ليبرالية، والقول بأي منها لا ينفي العلمانية عن أي حزب سياسي. أي حزب سياسي ولو بنى عقيدته على الدين هو حزب علماني بالمعنى المؤسّساتي للكلمة إذا ما احترم الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية. ونحن لا نقول إن الحركات الإسلامية واضحة تماماً في هذا الإطار بل على العكس، فعلى الأحزاب الإسلامية المتحالفة مع اليسار العربي أن توضح برأينا الكثير عن موقفها من الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة، لكننا نعترض على التعريف الضيق للعلمانية وكذلك لا نرى الربط بين الموقف من العلمانية والموقف من الإمبريالية وهو ما يعنينا هنا. ثم يتابع سمير أمين معلناً أن حركات الاسلام السياسي تخوض صراعاتها على أرضية الثقافة وفكرة الانتماء وهي همّهم الأساسي. قد يكون ذلك صحيحاً جزئياً من حيث إن فكرة الانتماء للجماعة وللأمة هي فكرة جوهرية عند الحركات الإسلامية، ولكن فكرة الانتماء لجماعة أو لثقافة كمنطلق لعمل سياسي ليست حصراً على هذه الحركات، وإنما هي قاسم مشترك بين معظم حركات التحرر الوطني في العالم. وقد تكون الحركات الاسلامية أقلّ اهتماماً بطرح ثقافي، بالمعنى الحقيقي لكلمة «ثقافة»، وارتباطها بالهوية، من الحركات التحررية القومية مثلاً، لأنها تحمل في عقيدتها فكرة أممية الطابع وتبني تحركها على عقيدة دينية مفتوحة لكلّ البشر. كان حريّاً بسمير أمين أن يهاجم الحركات القومية والثقافية مثل حركة الزاباتيين والحركة البوليفارية لتشبثها بالثقافة والهوية والانتماء رغم طرحها الاشتراكي. ولكنه يوجّه سهم التقوقع الثقافي الى حركات لا عرقية وقابلة للمنطق الأممي. ومن المؤسف القول إن أمين من خلال نقده المغلوط للحركات الإسلامية حول هذه النقطة يظهر أنه لم يستوعب المنحى التقدمي الجوهري الذي يمثله النضال من أجل الحقوق الثقافية للشعوب المهمشة والنضال ضدّ العنصرية. يطرح خطاباً تجزيئياً جامداً ومنحصراً بالطرح الاقتصادي الاجتماعي، متجاهلاً إشكالية الهوية والتعددية في العالم. نعم لقد أدخلت بعض الحركات الاسلامية في سياق نضوجها الفكري مقولات قومية الى خطابها وهي خطوة الى الأمام تسمح لهذه الحركات من خلال استيعابها للبعد الوطني والقومي بأن تقبل بالآخر الذي يشاركها الهوية القومية ولا يشاركها الدين وتعتبره ابن أمّتها وتصل معه الى مشروع مواطنة حقيقي. أما الحركات الأكثر تطرفاً ورجعية فهي تلك التي تتشبث بالطرح الإسلامي الأممي الحصري. ويبدو أن أمين يحبذ هذه الحركات لمجرد عدائه الدوغمائي لكل ما هو ثقافي وقومي وله علاقة بالهوية. وينطلق أمين من تهمته هذه ليرى بأن هذا التقوقع الثقافي يسمح لهذه الحركات بمقاربة الصراع مع الغرب على أنه صراع ثقافي وصراع حضارات. ومع موافقتنا له بأن طروحات كهذه تجد مكانها في أوساط الحركة الاسلامية كما تجد مكانها في الغرب، الا أن الواقع هو أنها طروحات هامشية ولا يعبر عنها الخطاب الرئيسي لهذه الحركات. فحركات المقاومة الاسلامية في لبنان وفلسطين والعراق كلها تقارب صراعها مع العدو من حيث كونه محتلاً ومغتصباً، وتربط هذه المعركة بالاحتلال والاعتداء. وحتى المفكّر اليساري سمير أمينالمفكّر اليساري سمير أمينتنظيم «القاعدة»، وعلى لسان أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وإن كان يسمي الاحتلال «الهجمة الصليبية اليهودية»، الا أنه يربط قتال ما يسميه الصليبيين واليهود باعتدائهم على المسلمين واحتلالهم لأراضيهم. وبالتالي، فحتى هذا التنظيم يربط المعركة مع الغرب بعوامل سياسية تقليدية وعقلانية.
ومن ثم ينزل سمير أمين الى الساحة السياسية الداخلية ليشير إلى أن الاسلام السياسي لا وجود له في ساحة النضال الاجتماعي وبأنه اذا ما تحرك في اطار ساحة العمل الاجتماعي، فإنه يتحرك لبناء مدارس ومستشفيات ما هي الا وسائل للتصدق على الناس ولتعبئتهم واجتذابهم فكرياً وليست وسائل لتوعية الناس في مواجهة النظام المسؤول عن إفقارهم. بل وأبعد من ذلك، يرى أمين بأن الإسلام السياسي متحالف مع الرأسمالية لأنه يدافع عن حق الملكية المقدس ويشرعن عدم المساواة وكل متطلبات الانتاج الرأسمالي. ويأخذ أمين مثلاً على ذلك تأييد الاخوان المسلمين في مصر لقوانين رجعية تمّ اصدارها أخيراً تقوّي حقوق ملكية الأرض في مواجهة حق الاستثمار والانتفاع الذي يعتاش من خلاله معظم صغار الفلاحين. نحن نتّفق مع أمين بأن الاسلام السياسي بشكل عام يفتقر الى برنامج اجتماعي ـــــ اقتصادي لا رأسمالي وتقدّمي ولكن هذا لا يعني بأن هذا التيار هو بالضرورة تيار رأسمالي. فالاسلام السياسي لا يزال في طور التشكل من حيث كونه حركة سياسية مدنية، ولم يمض عليه الكثير من الوقت خارج القوقعة الفقهية والماورائية. ونحن لا ننكر وجود خط يميني الطابع، فاشيّ الخطاب داخل هذا التيار. وقد تظهر تجليات هذا الخط من خلال بعض المواقف السياسية لهذا التنظيم أو ذاك. الا أن ثمة خطاً عقلانياً ينحو نحو اليسار داخل التيار الاسلامي وهو خط يعترف بالآخر وبالمواطنة وبالهوية القومية من جهة، ويسعى الى التماهي مع مقاربة يسارية للاقتصاد من جهة أخرى. اذا كنا نستطيع أن نعتبر بأن خط الاخوان المسلمين لا يزال فعلاً يميل نحو الطرح اليميني للمسائل الاقتصادية ـــــ الاجتماعية، إلا أن تيارات عديدة مثل حزب الله مثلاً وتيار واسع داخل إيران وعدة أحزاب في بلاد المغرب العربي كلها تميل الى اليسار. إنّ طروحات رفض الخصخصة التجارية ورفض سياسات البنك الدولي المفروضة على لبنان والتي يواجهها حزب الله تفنّد ادعاء أمين بأن الاسلام السياسي يتماهى دوماً مع مصالح الطبقات الرأسمالية. كما أنّ خطاب مواجهة المستضعفين للمستكبرين هو خطاب يساري وإن غُلّف بقالب اسلامي، وهو خطاب لا يعرّف المستضعفين بالمسلمين حصراً، ويقرّ بوجود بعض المسلمين في صفوف المستكبرين. وهذا بحد ذاته دليل على اتساع أفق بعض الحركات الاسلامية. كما أن بعض الطروحات الفكرية الاسلامية تتخطى بكثير طروحات الاشتراكية الديموقراطية يسارية. فالاسلام من حيث المبدأ يرفض الاقتصاد المبني على الفائدة وإن كان عملياً يتلاعب على هذا الرفض المبدئي من خلال ما يسمّى البنوك الاسلامية، التي تطبق نظام الفائدة من خلال الاختباء وراء عملية بيع وشراء وهمية، الا أنه بالإمكان تخيل مقاربة أكثر التزاماً لاقتصاد غير مبني على الفائدة يتفق عليه الاسلامي واليساري. وصحيح أنّ الفكر الاسلامي لا يضع سقفاً معيناً لتراكم رؤوس الأموال وتمركزها وهي العملية المحورية في النظام الرأسمالي، إلا أنه يفرض عليها ضريبة هي الزكاة. والزكاة ليست ضريبة على الربح ولا على القيمة المضافة ولا هي صدقة اختيارية، بل هي ضريبة سنوية على أصول رأس المال تساوي 2،5 في المئة. وكلنا يعلم بأن فرض ضريبة على أصل رأس المال هو أحد المطالب الأساسية للحركة الاشتراكية في الغرب وهو من المطالب التي تعدّ راديكالية. أنا لا أقول إن الاسلام السياسي ككل هو ذو توجّه يساري اشتراكي، إلا أنني أعتقد بأن بعض المقولات الفكرية الاسلامية في الاقتصاد تتقاطع بشكل كبير مع بعض الطروحات الاشتراكية. وبالتالي، فهنالك إمكانية لتعميق هذا التقاطع وتطويره من خلال مطالبة الحركات الاسلامية بتقديم رؤية اقتصادية ـــــ اجتماعية متكاملة ومن خلال محاورتها ولفت انتباهها الى آليات النظام الرأسمالي القمعية والمدمرة. إن الفكر الاقتصادي الإسلامي الناشئ ليس أكثر يمينية ولا أقل يسارية من الفكر الاشتراكي الإصلاحي، ومهمة اليسار الجذري هو أن يحاور الأفكار الإصلاحية لكي يحملها على إدراك ضرورة تعميق مقاربتها من أجل بناء نظام عدالة اجتماعية لارأسمالي. ويأخذ سمير أمين على هذه الحركات الاسلامية انتماء الطبقات الحاكمة في السعودية وباكستان إليها. ونجهل الى أي من حركات الاسلام السياسي ينتمي آل سعود وبرويز مشرف إلا اذا كان أمين يرى أن الدين الإسلامي نفسه حركة سياسية منظمة. أما الانتماء الوهابي لآل سعود فهو انتماء الى طائفة دينية، وليس حركة إسلام سياسي. إن الطبقات الحاكمة في السعودية وباكستان مختلفة الطابع؛ ففي الأولى هنالك حكم قبلي عشائري مبني على نظام ملكية مطلقة ويعتاش من النفط ويوظف الدين في إبعاد المجتمع عن السياسة لا في تسييسه. أما في باكستان، فالطبقة السياسية بكل ألوانها هي طبقة إقطاعية يهيمن عليها كبار ملاك الأرض وينضم اليها من وقت لآخر عسكري طامح من الجيش، ويعتبر دور الحركات الإسلامية في باكستان سواء كانت جماعة كتلك التي يرأسها القاضي حسين أحمد وبقيّة فصائل مجلس العمل المتحد الذي يضم أحزاباً إسلامية سنية وشيعية أو التيار السلفي في باكستان، تعتبر كلها خارج إطار الطبقات الحاكمة وفي صدام شبه مستمر مع الحكم.
نعم، لقد دعمت السعودية الحركات الإسلامية السياسية خلال فترة الستينات من أجل محاربة الناصرية ودعمتها خلال الثمانينات من أجل إبعادها عن الاصطدام معها ونفيها عملياً الى أفغانستان، ولكنها في نهاية المطاف اصطدمت معها منذ بداية التسعينات سواء بشقها الإصلاحي أو السلفي الراديكالي. ويجب الفصل هنا بين الفكر الوهابي، الذي يرفد قسم منه الفكر الراديكالي الإسلامي ويموّله، وبين نظام الحكم في السعودية الملتحق كلياً بالمركز الرأسمالي وبالمشروع الأميركي. ثم يسوق أمين بعض الحجج التاريخية فيعتبر بأن تنظيم الاخوان المسلمين أسّسته الاستخبارات البريطانية لمقارعة حزب الوفد ومن بعده الناصرية. ويمتدح أمين الوفد معتبراً إياه حركة حداثة وعلمنة وديموقراطية، متجاهلاً طابعه الارستقراطي والرأسمالي وهو ما يظهر انجراف طرحه الى الأصولية العلمانية وبعده عن الفهم الطبقي. فـ«الاخوان» لم تؤسّسها الاستخبارات البريطانية، وشكل تنظيمها منذ البدء حالة تمثل البورجوازية الصغيرة المصرية وتطرح مقاربة وطنية وإصلاحية دينية. وحاول البريطانيون في مرحلة ما تجيير هذه الحالة في مواجهة الوفد، إلا أنه كان للاخوان أجندتهم الخاصة. ولا يجب أن ننسى بأن الاخوان منذ نشأتهم كانوا أول تنظيم يرسل كتائب مقاتلة الى فلسطين من أجل محاربة المشروع الصهيوني. أما خلال الحقبة الناصرية، فقد استغلت السعودية الاخوان لمحاربة عبد الناصر وكان هنالك دينامية مشتركة بين القمع والتمرّد ولدت صراعاً أخذ منحىً عنيفاً في مرحلة ما، وكان بالإمكان تجنبه.
إنّ قول أمين بأنّ إسرائيل دعمت «حماس» فيه تجنّ على الواقع وعلى التاريخ، وقصر في فهم آليات الصراع. ثم إن إسرائيل تدعم من لا يحاربها وتحارب من يحاربها من دون أن تنظر إلى موقف هذا من العلمانية أو من الرأسمالية. إنّ أي طرح فكري سواء كان إسلامياً أو علمانياً بالإمكان توظيفه في خدمة الاحتلال أو القمع ويكفينا أن نلقي نظرة على العراق لنرى كيف يتعامل حزب الدعوة والمجلس الإسلامي في العراق مع الاحتلال ثم ننظر إلى حزب الله، وهو شقيقهما الفكري، ونرى كيف يحارب هذا الحزب الاحتلال. ويحاول أمين تلطيف اتهاماته من خلال ذكر أنّ حزب الله و«حماس» وبعض حركات المقاومة في العراق تعدّ حالات مميزة ومختلفة لكن الإسلام السياسي برمّته غير معادٍ للإمبريالية. غير أن حزب الله و«حماس» والمقاومة العراقية و«القاعدة» وتنظيماتها السلفية هي الحالات الأقوى في ما يسميه الإسلام السياسي وليست مجرد حالات هامشية بالإمكان عدّها استثناءات.
الانحدار الإيديولوجي لسمير أمين لا يتوقف عند هذه النقطة بل يأخذ منحى أكثر خطورة عندما يؤسّس لمقولات قد تشرعن الدكتاتورية والقمع. فهو عندما يتساءل عن النوايا الحقيقية للإسلاميين وعن مدى قدرتهم على القبول بالآخر عندما يتسلّمون الحكم نوافقه الرأي، وخاصة في ظل تصفية القوى العلمانية واليسارية التي تحالفت مع القوى الإسلامية في إيران بعد انتصار الثورة. لكنه في الوقت نفسه يقول إنّ الفرق الجوهري بين اليسار واليمين هو أن اليمين يؤمن بالنمو العفوي للمجتمع سواء على مستوى السوق أو على المستوى الفكري والسياسي، بينما على اليسار أن يهندس المجتمع اقتصادياً وأن يربط بين مقاربة راديكالية علمانية للمجتمع وبين الحداثة فيه. هذه المقاربة تخيفني جداً بصفتي يسارياً علمانياً راديكالياً، وهي لا تعكس فهمي لما هو اليسار وما هي مهمته. ولو كان الأمر كذلك فأنا على يقين من أنني، ومعي الكثيرون من اليساريين، سيرون أنفسهم يمينيين. فبالنسبة لهندسة السوق والتحكم بها كلنا نتفق على أن هذا أمر ضروري من أجل منع الاستغلال وتحقيق العدالة الاجتماعية. أما عن الآليات فلذلك حديث آخر.
أمّا بالنسبة للأفكار الانسانية والمعتقدات، فاليسار اليوم هو أشدّ المدافعين عن التعدّدية والاعتراف بالآخر وحقّ البشر بالتعبير عن هويتهم كما يرتأون. ويهاجم أمين هذه النزعة الانسانية لليسار في أيامنا معتبراً إيّاها تقهقراً فكرياً وتراجعاً عن الالتزام بالعلمانية والاشتراكية. ويقوم بخلط خطير بين ترك العنان للفكر الانساني ولحرية التعبير، وبين فوضى السوق الرأسمالية، وكأنّ مقاربة اشتراكية للاقتصاد لا بدّ لها من أن ترتبط حكماً بقمع الحريات الفردية والجماعية. ومن هذا المنطلق بأي حق يطرح اليسار على الاسلاميين مسألة الثقة بقبول الآخر والتعايش معه؟ وأين الفرق بين طروحات سمير أمين وطروحات غلاة الأصوليين الداعية الى تصفية كلّ فكر علماني وكلّ عمل سياسي علماني جماعي؟ وإذا ما نظرنا إلى السجلّ التاريخي لليسار فنجده حافلاً بالمجازر ضدّ أصحاب الطروحات الفكرية المختلفة وبالقمع الممنهج لحرية الرأي والتعبير. ولذلك علينا التحلّي بالموضوعية وبالنقد الذاتي والاعتراف بأنه كما أنّ الاسلام السياسي مطالب اليوم بإعادة النظر في موقفه من الآخر وإثبات أنه لا يقبله فقط في إطار تحالف تكتيكي محدود وإنّما في إطار فهم متكامل لتنظيم المجتمع على أساس تعدّدي وتداول السلطة فيه بشكل ديموقراطي، وهو ما لا تعكسه الأنظمة الاسلامية القائمة حالياً، كذلك على اليسار أن يثبت الشيء ذاته.
نشارك سمير أمين إحباطه من انحسار دور القوى القومية واليسارية العلمانية في وطننا العربي، وليس في مقدور أحد أن يلوم ذاته على تمنّي انتصار تياره الفكري. إلا أن المنطق العلمي يفرض علينا ألا تجعلنا هذه الإحباطات ننجرف إلى افتراءات على الآخر وإلى ضيق الأفق والتقوقع. نعم إنّ اعتبار أن الإسلام لا بدّ له من أن يكون المحرك الأساسي لنهضة شعبنا العربي هو اعتبار خاطئ ولا تاريخي لأن هذا الشعب في نهضته الأولى ضدّ الاستعمار الحديث، ثار تحت عناوين علمانية وقومية ويسارية وحقق انتصارات لا يستهان بها سواء في الاستقلال الوطني أو على المستوى الفكري والاجتماعي. لكن اعتبار أنّ الإسلام لا يؤلف جزءاً من هويتنا القومية والحضارية وبالتالي أنه بصفته فكراً، لا دور له في حياتنا وفي مجتمعنا هو أقل منه تاريخية. ليس هنالك حتمية لنهضة إسلامية وليس هنالك حتمية لنهضة علمانية بل ليس هنالك حتمية لنهضة بالمطلق. إن تحقق أي من الأهداف التي تطرحها حركة سياسية ما في مجتمع ما، متوقف على الظروف الموضوعية التي تحيط بتحركها وعلى إدراكها العلمي لهذه الظروف والتعاطي العلمي معها. قد تنتصر أمّتنا تحت شعار الإسلام وقد تهزم تحت الشعار نفسه، وقد ينتج هذا الشعار مقاومة وقد ينتج عمالة، وكل هذا نراه في واقعنا اليوم. وسمير أمين محقّ عندما يفضّل الطرح الوطني للمقاومة على الطرح الديني، وعندما يرى أن الطرح الوطني أقدر على تجاوز الانقسامات الاجتماعية.
فالجميع أصبح يدرك اليوم أنّ الشعب المتعدّد دينياً وطائفياً لا يمكن أن يتّحد تحت سقف ديني، وأنه إذا ما وضع مقاومته على أساس طائفي فهو يعطي الفرصة للعدو أن يلتفّ عليها من خلال زرع بذور صراع طائفي أو مذهبي. ونحن كلنا نشاهد ماذا يعني هذا عملياً في العراق وفي لبنان. إنّ المقاومات الإسلامية في هذين البلدين مطالبة بتعميق طرحها الوطني وعلمنة خطابها. وكلنا يلاحظ أن هذه المقاومات تتّجه في هذا الاتجاه ما عدا تنظيم «القاعدة» الذي نرى جميعاً إلى أين يوصله الخطاب الأصولي والمذهبي اللاوطني. لكن جبهة مقاومة وطنية شاملة تتخطّى الانقسام تبقى هي الحل الأمثل والكابوس الأسوأ للمحتل في العراق وكل مكان، ولا يمكن تحقيقها من دون تبنّي خطاب وحدوي وطني صادق.
إن سمير أمين يفقد كل صدقية في رأيي عندما يقول في نهاية مقالته إن انتصار «حماس» في الانتخابات هو جزئياً نتيجة للدعم الاسرائيلي لها، وعندما يقول إن الحزب الشيوعي اللبناني ومقاومته دمرتهما مؤامرة سورية ـــــ إيرانية واستبدلتهما بحزب الله نافياً كل حيثية موضوعية لنمو الحركة الإسلامية الشيعية في لبنان ومختزلاً تاريخها الطويل منذ تأسيس السيد موسى الصدر لحركة أمل إلى نشأة حزب الله ومغفلاً عوامل عديدة أدّت دوراً في نمو حركة المقاومة الإسلامية في لبنان كمّاً ونوعاً. وهو لا يذكر معركة تموز 2006 إطلاقاً، كأنها مجرد تفصيل صغير في صراع هذه الأمة مع المشروع الإمبريالي لا ينبغي التوقف عنده. إنّ يساراً ما يعيش في مخيلة سمير أمين ويقود الصراع مع الإمبريالية في بلادنا اليوم، ونحن لا شك مقصرون لأننا لا نراه في العراق ولا في لبنان ولا فلسطين، ولا نسمع عنه إلا في خطابات وبيانات. لا شك في أن اليسار العربي سواء من التيار القومي أو الماركسي، كان له دور تاريخي عظيم في مصارعة الإمبريالية في بلادنا، إلا أننا لا نستطيع أن نسقط أحلامنا على الواقع ونقول إنه لا يزال القائد للمقاومة اليوم. إن التيار الإسلامي الجهادي بشقّيه الوطني المعتدل الذي يمثله حزب لله وتيار الإخوان، والأممي الفاشي الذي تمثله القاعدة هو الذي يقود المعركة اليوم. هذا لا يعني أن هذه الحال ستستمر، لكن أمراً واحداً مؤكّد: إنّ عودة اليسار إلى واجهة الصراع لا تكون عبر إنكار الواقع بل عبر التعامل معه كما هو، وهي لا تكون عبر الصراع مع الإسلام السياسي بل عبر التحالف معه من أجل محاربة العدو المشترك والاتفاق على التداول الديموقراطي للسلطة في حال الانتصار.
كما أن هذا التحالف لا يعني أن يختصّ اليساريّون بكتابة البيانات والعلاقات العامة في العالم بينما يختصّ الاسلاميون بالقتال واقتناء السلاح والتدرب عليه. إنّ المعركة يجب أن تخاض على كل الصعد وعلى الجميع أن يتواجد فيها على كل الصعد واذا كان الاسلاميون يريدون احتكار المقاومة فعلى اليسار أن يكسر هذا الاحتكار من خلال أرض الواقع ويثبت حضوره من جديد كما فعل في الماضي.
· باحث لبناني