مقدمات انفراط التسوية اللبنانية ـ السورية (وولادة أضغاث اجتماع وسياسة)
وضاح شرارة
أنتج جلاء القوات الإسرائيلية في أيار 2000 عن الألف كلم مربع اللبنانية المحتلة منذ 22 عاماً، نتيجتين إقليميتين متباينتين: رفعت الأولى الجلاء السريع والمتعثر، ومن غير مفاوضة، قرينة على جدوى الأعمال العسكرية المنظمة والمتصلة طوال نيف وعقد من السنين، وحققت ظاهراً دعوى أصحاب “المقاومة” و”الكفاح المسلح” على خلاف دعوى المفاوضة والعمل السياسي.
ونزعت النتيجة الثانية من الفريق السوري الحاكم، في دوامة انتقال قيادته من رئيس مجرب ومسن الى رئيس قليل التجربة وضعيف الدالة، ركناً من أركان سياسته “السورية ـ اللبنانية” هو حرفه المجابهة العسكرية غير المتكافئة بينه وبين عدوه القومي المفترض عن الميدان السوري، والأرض السورية، الى الميدان اللبناني الاحتياطي أو الفرعي. ووسع السياسة السورية الأسدية حمل النتيجة الأولى على إنجاز يعود إليها معظمه، واقتسمته جماهيرياً و “شارعاً” مع “المقاومة الإسلامية” الشيعية، وانفردت به رسمياً في العلاقات بين الدول (وظللته على بعض التحفظ يومها ايران الخمينية). وهي لم تنفك تستثمر فصوله السابقة والممهدة، من طريق دعاوة الحزب الخميني وجهازه “الإعلامي” الثري والضخم، في الترويج لسيطرتها على الحركات المسلحة، الفلسطينية واللبنانية، في المشرق، وفي سداد رأيها واستراتيجيتها الإقليمية.
وعندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، غداة نحو 4 أشهر على الجلاء الإسرائيلي، بدا اندلاعها البرهان الملموس على عدوى “المقاومات” والإنجازات، وعلى صدق استراتيجية التصدي المسلح للسياسة والاحتلال الإسرائيليين. وسوغ ذلك، في حساب المصدقين والمؤمنين وميزانهم، احترام السياسة السورية الهدنة الطويلة والساكنة على الحدود المشتركة الإسرائيلية ـ السورية. فالسياسة (العربية) السورية “تقاتل” على الأرض اللبنانية، بواسطة لبنانيين أقحاح هم جزء متعاظم من الهيئات والمؤسسات الوطنية الدستورية، وجزء قديم من “النسيج الاجتماعي” والتاريخي، على ما ابتدأ القول. و”تقاتل” بواسطة فلسطينيين أقحاح لن يلبثوا طويلاً وينصبهم “الشعب” الفلسطيني حاكمين عليه. وهي تسدد الثمن من حرب الغرب الأميركي الديبلوماسية والاقتصادية عليها (ولو اقتصرت الحرب المزعومة على بيانات دورية ورتيبة تندد بانتهاك حقوق الإنسان، ورعاية زراعة المخدرات ثم تمدح محاربتها، وبصلة بأعمال إرهابية معظمها قديم)، ومن رخائها.
بعث قميص شبعا
وأما خسارة المسرح الاحتياطي اللبناني، فعَظُم للوهلة الأولى في عيني الفريق الأسدي. فلوح على لسان بشار الأسد، وهو يومذاك الوصي، بانفجار القتال في لبنان، وعلى حدوده، إذا انسحبت القوات الإسرائيلية من غير مفاوضة مع دمشق. وزكّى يفغيني بريماكوف، وزير خارجية روسيا، التلويح. وتخوف الفريق أمرين متصلين: الاضطرار الى تجميد الجبهة اللبنانية تجميداً ينقل تأزم العلاقات السورية ـ الإسرائيلية الى الجبهة السورية الرخوة، ويجدد احتمال حرب أو احتمال اشتباكات رأسية ومباشرة لا يملك الفريق الحاكم عدتها، وتزرع التشكيك في جدارة الفريق العسكرية والقيادية “القومية”. وهذا ما لن يعدم أرييل شارون التوسل به فعلاً. والأمر الثاني هو العود، اللبناني والدولي، على ربط “الوصاية” (صيغة الاحتلال الساحق المخففة) السورية بالاحتلال الإسرائيلي، والخلوص من انتفاء الاحتلال إلى إبطال “الوصاية”، وسحب ذريعتها، وطلب رفعها. وهذا ما لن يتأخر حصوله. فذكر بيان مجلس المطارنة الموارنة “الأول”، في أواخر أيلول 2000، بالرابط هذا. وخلص الى وجوب فكه، والعمل بموجب الفك هذا. وتابعه، بعد نحو شهر واحد، وليد جنبلاط، على التذكير والطلب. وسكت رفيق الحريري ظاهراً. ولكن ظلال جبهة وطنية عريضة تخللت الحياة السياسية اللبنانية. ولم يسلم الشيعة المحليون منها سلامة تامة. فمال نبيه بري، وارث أفواج المقاومة اللبنانية (“أمل”) المتصدعة بإزاء سطوة الحزب الخميني المتعاظمة على محرومي الشيعة ونخبهم، ميلاً حيياً وخفياً الى فك الحجر عن استئناف الجيش اللبناني مرابطته على الحدود الوطنية، والحجز بين اسرائيل وبين الجيش الشيعي السري، قبل ان يرجع في رأيه هذا (على عادة مستقرة يجري عليها سياسيون حولهم وطولهم ليسا من صنيعهما).
ولم يتأخر الفريق السوري، ومعه الراعي الإيراني ورعيته المحلية، في الرد على الانسحاب الإسرائيلي. وصيغ الرد على نحو لا يضيع الثلاثة معه رأس المال الذي بنوه في لبنان، ويعولون على عوائده استتباعاً محكماً وثابتاً. ولا يبددون أثر “الدومينو” الذي يتوخونه من القاعدة أو البؤرة اللبنانية، أي عدوى “الانتصارات” المسلحة وانتشارها في الطوق حول اسرائيل، وخارجه فيما يعني إيران. فرفضت القيادة الشيعية المسلحة اضطلاع قوات الأمم المتحدة بتقدم الجيش اللبناني الى الحدود، ومرابطتها حاجزاً بينه وبين الدولة العبرية، على ما نص عليه القراران 425 و426 (في 1978) وشككت في مطابقة الخط الأزرق، وهو رسمته لجنة دولية ولبنانية مشتركة، الحدود الدولية (وفي الأثناء، أسرت القيادة الخمينية وأعلنت ان الحدود الدولية بدعة استكبارية واستعمارية، والقبول بها باللسان تحايل “شرعي”). وتفتق التشكيك عن بعث مزارع شبعا قميصاً مخضباً بالاحتلال والاغتصاب الإسرائيليين، تلوح به السياسة السورية على المنابر الإقليمية والدولية، وتلقمه الأفواهَ اللبنانية والدولية الداعية الى ترك “المقاومة” الشيعية سياستها وجهازها المسلحين. وترفض، في الوقت نفسه، إيداع الأمم المتحدة إقرارها الرسمي بهوية المزارع أو تابعيتها اللبنانية. وسخر قادة الجهاز الشيعي المسلح من خطة أوروبية تقضي بتمويل تنمية الجنوب اللبناني من صندوق خاص، شريطة ترك الجهاز سلاحه. فلم يقيض للخطة أن تعرف، ودفنت قبل بلورتها ومناقشتها. وطوقت الخطوات والإجراءات هذه مترتبات “التحرير” المتوقعة. وأولها المترتبات السياسية والسيادية على الدولة والجماعات اللبنانية. وثانيها المترتبات الاقتصادية والاجتماعية على اللبنانيين. فثبّت لبنان كله ميداناً احتياطياً متقدماً تتولى السياسة السورية، ومن ورائها الإيرانية، تدبيره والتصرف فيه بناء على أولوية “تحرير” غير ناجز على رغم عظمته وأسطوريته وسابقته… ولا يحتمل إنجازه (فوراء ستارة المزارع في أقصى الشرق اللبناني، والسني، تراءى، بين خطبة “قدسية” وأخرى، طيف القرى السبع، المختلطة مذهباً، وما بعد هذه وتلك، وما بعد بعدهما طيف إمارة ظاهر العمر في القرن الثامن عشر بين سهل الحولة وساحل عكا ويافا…).
فإذا ثُبّت دوام حرب التحرير واستمرارها، وثُبِّت اضطلاع الكتلة السورية ـ الحزب اللهية بمهمات الحرب وأعبائها، ترتب على التثبت المزدوج والقسري هذا انفراد الكتلة بقيادة الدولة ورسم سياستها، في الداخل والخارج. وكان فرض إميل لحود رئيساً، في خريف 1998، استباقاً للمرحلة الآتية. فهو ترك تحفظ الرئيس السابق، الياس الهراوي، عن تصدر “المقاومة”، و “قياداتها”، وتوحيد الدولة بها، وتخلى عنه. واحتذى ـ وهو رئيس دولة في مجتمع دول يتقيد، ولو شكلاً، بأعراف وقواعد ترمي الى لجم العنف والحرب، وتقدم المفاوضة عليهما، وتمتنع من التصريح بإرادة القتل، وتميز المدنيين من المقاتلين، وتعامل الأسرى بموجب اتفاقات معروفة… ـ على مثال جماعة أهلية مسلحة لا تكتم ازدراءها أعراف الدول وتقاليدها، سياسة ولغة، وارتضى النطق باسمها، والانحياز إليها، وإلحاق الدولة التي يرئس بها. فألفى رفيق الحريري سياسته، وهي تفترض حلف الإعمار و”التحرير”، ومركبهما، وتفترض رعاية الفريق السوري الحاكم تقييد جموح “التحرير”بدواعي الإعمار والاستقرار والازدهار، ألفى سياسته في مهب استيلاء الاحتياجات الإقليمية السورية على الدولة اللبنانية وعلى مجتمع اللبنانيين. فقمة جنيف الثلاثية، الأميركية ـ السورية ـ الإسرائيلية، وهي آخر عمل ديبلوماسي بارز اضطلع به حافظ الأسد قبل رحيله، لم تثمر اتفاقاً، على رغم مرونة سورية لم تفت المراقبين ولا المشاركين. ولم تحل بين رئيس الحكومة الإسرائيلي ايهود باراك وبين الإعداد لانسحاب منفرد من لبنان، والتملص من “التنسيق” مع السياسة السورية في ميدانها الأثير والأقرب إليها. وعلى خلاف التصلب الإسرائيلي على جبهة سوريا، بدا ان باراك يتساهل مع الفلسطينيين، في آخر دورتي مفاوضات في الولايات المتحدة ومصر. فردت السياسة السورية على وجهي الموقف الإسرائيلي بالمضي على نهج لم تحد عنه منذ ظهور قوة الحزب الخميني المسلحة. فولته ولاية غير مقيدة على جنوب لبنان، على جهتي الليطاني، وعلى ضواحي بيروت. وأطلقت يده، وهي لم تكن مغلولة، فيهما، ارضاً وأهلاً، عسكراً وأمناً وتسلحاً.
المتفائل
ولكن لبنان، ودولته وأهله ومجتمعه، لم يكن مسرحاً أو ملعباً إقليمياً ودولياً ومحلياً، ديبلوماسياً وعسكرياً، وحسب، على خلاف تمني الحلف السوري ـ الإيراني (الحزب اللهي). فهو، شأن المجتمعات كلها، مصدر حاجات ورغبات وصاحب تطلعات وتقاليد. وكان رفيق الحريري يعول على هذا الشق من لبنان، دولة ومجتمعاً، في محاولاته موازنة الدواعي السورية ـ الحزب اللهية، الاستراتيجية والإقليمية الوطنية (أو “القومية”)، وتثقيلها. ولم تثن خيبة توقعاته، بعد الجلاء الإسرائيلي، الرجل عن المضي على خططه الاقتصادية الإنمائية. فهو لم يرجع، على رغم اختبار ثمانية أعوام اثنان منها على مقاعد المجلس النيابي، في احتسابه إفضاء النماء الاقتصادي اللبناني والسوري معاً، وتجدد الحراك الاجتماعي اللبناني وابتدائه بسوريا بعد سبات العقود الناصرية والبعثية، الى تسليم القيادة الأسدية بسيادة واستقلال لبنانيين ومتدرجين. فالسيادة والاستقلال اللبنانيان هما شطر نماء وإعمار وطنيين فعليين. وحسب رفيق الحريري، معه شرط راجح من الدول العربية والغربية على حد واحد، ان اتفاق الطائف يضمر تقييد الكفة الاستراتيجية من المسألة اللبنانية (وفي الكفة هذه إجلاء القوات الإسرائيلية عن الأراضي المحتلة من غير فصل الجلاء هذا فصلاً قاطعاً عن سعي سوريا في تحرير الجولان السوري) بالكفة “الاقتصادية” ولوازمها وفروعها. وحسب، ومن ماشوه على حسبانه، أنه يملك من الموارد والدالة والمهارة والصبر وصفاء الطوية ما يمكنه، في نهاية المطاف، من حمل الفئة الأسدية على تعرف “مصلحتها”، والإقرار بها، والعمل بمقتضياتها في لبنان وسوريا والعالم العربي، جميعاً. ولعل السبب الأول في تفاؤل رفيق الحريري، ومن رعى سياسته وساندها، انهيار التسلط الشيوعي في معاقله الحصينة قبل أعوام قليلة (يومها) وتأويل الانهيار المدوي هذا تزكية حاسمة و”نهائية” لليبرالية والديموقراطية، من وجه، وإرساء للعلاقات الدولية والإقليمية على ركن الندّية والتعاقد، من طريق تكافل وتضامن معولمين، من وجه آخر.
وما عول عليه رفيق الحريري هو عينه ما خشيه الفريق الأسدي الحاكم، وحلفاؤه بإيران، وأعوانه وصنائعه بلبنان، واحتاطوا له. وربما أرجأت الانتخابات النيابية، في صيف العام 2000، إدراك رئيس الوزراء المستبعد طوال سنتين (1998 ـ2000) عمق الهوة بين سياسته اللبنانية وخططه ومصالحه وبين سياسة الفريق الأسدي وخططه ومصالحه. فهو وسعه قيادة حملة انتخابية ببيروت، وخارج بيروت (في الشمال والبقاع الغربي على وجه الخصوص)، لا قيد عليها تقريباً من الفرع اللبناني للبيروقراطية البوليسية المركزية السورية. فاللواء غازي كنعان، رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في قوات الردع العربية (كذا!)،
وحليف عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، كان لا يزال على رأس الجهاز. ولم يكن مناوئاً لرئيس الوزراء اللبناني (السابق موقتاً). وكان مدركاً، وربما أدرك معه رأس فرعه اللبناني المزدوج اللواء جميل السيد والعماد إميل لحود، أن الحكم من طريق الرئيسين إميل لحود وسليم الحص، والرجلان هزيلا الدالة وخاويا الوفاض من المورد السياسي الشعبي ولا يتعدى صيتهما الحارة أو البلدة التي ينزلانها، يتهدد السيطرة السورية بالزعزعة. وكان إقصاء رفيق الحريري عن رئاسة الحكومة، على النحو المتعسف الذي حصل عليه، نفخ في التضامن السني، وبعث طيف “الغبن” الذي تذرع به المسلمون اللبنانيون الى خروجهم على “المارونية السياسية”، على ما سماها بعضهم. ولم ينكر الزعيم السني التضامن هذا. وإليه رضي رأس لائحة بيروت، أي رفيق الحريري، ترشيح مرشحين، هم صنائع الاستخبارات السورية، وسُمّوا من غير تورية “وديعة غازي كنعان”، على لائحته. وضمن الجهاز السوري، في معظم الدوائر الأخرى، وأولها الدوائر التي يكثر فيها السنّة، انتخاب صنائعه. ولم يكن وليد جنبلاط أعلن “انشقاقه” بعد (فهو أرجأ إعلانه الى أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 2000، حين انعقاد المجلس النيابي الجديد، غداة شهرين ونصف الشهر على نداء مجلس المطارنة الموارنة “الأول”)، ففاز بكتلة نيابية كبيرة، ائتلفت من نواب الشوف، جبلاً وإقليماً ساحلياً، والمتن الجنوبي. ورجع الرجل الى المجلس بكتلة كبيرة وحلفاء كثر. ولم يُعمِل إميل لحود حيلته “الدستورية” السالفة.
فوسع رئيس مجلس الوزراء “الجديد” الدعوة الى مؤتمر اقتصادي دولي، سمي باريس ـ 1، التأم في أواخر شباط/ فبراير 2001، ومهد، من طريق بنود إصلاح مالي وضريبي، الى انعقاد باريس 2ـ (وضرب تشرين الثاني 2002 موعداً له)، على ان تتعهد الجهة اللبنانية صوغ برنامج إصلاحات بنيوية تقليدي (على مذهب صندوق النقد الدولي)، ركناه تقليص إنفاق الدولة على إدارة ثقيلة وضعيفة الفاعلية، أو زبائنية، وخصخصة، أو تخصيص، خدمات عامة يستنزف توليها شطراً راجحاً من موارد الدولة، ويقصر عن ادائها إلى المستهلكين، ويكبح تجددها وتوسعها وتحسينها. وانعقد المؤتمران في موعديهما. وحضر الثاني حشد من رؤساء الدول والحكومات والهيئات الدولية، وانتهى بتقديم 4.4 مليارات دولار بشروط متساهلة. وحمل هذا المصارف اللبنانية على إقراض الدولة، طوال سنة، 4 مليارات دولار من غير فائدة، لحظها مشروع ميزانية 2003.
الاستقرار والاستنقاع
وناقض هذا سياسة الفريق الأسدي، المحلي والسوري، مناقضة حادة. واجتمعت المناقضة، والخلاف السياسي تالياً، من عاملين متضافرين، اجتماعي وسياسي. فتقليص الإدارات يصيب عشرات الآلاف من “زبائن” القيادات الحزبية والحركية، ومواليها المذهبيين، ويقطع موارد يتقاضونها من المال العام لقاء ولائهم. وكانت القيادات الحزبية والحركية، وكلها تدين بالولاء للفريق الأسدي وضباطه وحاشيته، تسدد من المال العام “ديون” المقاتلين السابقين والناخبين الحاليين وأهل العصبية الدائمين، وأسرهم وآبائهم وذراريهم، عليها، وعلى حلفائها وأولياء أمرها الذين اختصرهم ولي أمر واحد. فاجتمعت من هؤلاء، ومعظمهم من أهل الضعف في جماعاتهم وأولها الجماعة الشيعية، قاعدة اجتماعية عريضة. ووسّع القاعدة الاجتماعية هذه، ومد فيها، بطء استعادة الدورة الاقتصادية المحلية حيويتها في تسعينات القرن الماضي، وإصابتها، في 1993 (“أداء الحساب” الإسرائيلي) و1995 (تمديد ولاية الياس الهراوي) و 1996 (عناقيد الغضب)، بنكسات قاسية. وفي الأثناء كانت اسعار النفط تهوي طوال العقد، وتنكمش اقتصادات دول الخليج، ومعها سوق عمل حيوية تستوعب يداً عاملة لبنانية مؤهلة هي مصدر عوائد نقدية تؤدي دوراً راجحاً في الثبات النقدي الوطني.
وعلى هذا، فاضطلاع الدولة، وماليتها، بإعالة عدد كبير من الموظفين الثابتين والمتعاقدين لقاء موالاتهم زعماء عصبيات مذهبية يدينون بمكانتهم الى التقريب السوري، لا يثقل على المالية، ويفاقم الدين العام ويؤدي الى الركود، وحسب. فهو يرسي نظام إعالة اجتماعياً معطلاً وراكداً، ويرسخ دوائر الولاء والتكسب والمحافظة العصبية والأهلية، ويبطل المنافسة والتحصيل على أنواعهما، ويزهق المناقشة والمحاسبة والخلاف. وجلي ان هذه السمات هي ما ينشده الاستبداد الأسدي، على مثال قسر السوريين عليه طوال أربعة عقود، وأثمر “استقراراً” واستنقاعاً خانقين. فإذا اقترن ذلك بقصر السياسة، والحياة السياسية، على تصنيم “مقاومة” إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وحصر “المقاومة” المزعومة في نطاق جماعة مذهبية، وغذى عصبيتها وانكفاءها على نفسها وحارتها، ولد اجتماعاً ودولة ممزقين، وأوكل بسلطة مستبدة وأمرية خالصة جمع الفتات المتباعد. فإذا أقصيت هذه السلطة، أو طردت، لعلة طارئة، وسبق إقصاؤها أو طردها تبلورَ حلف سياسي ووطني عريض (وهذا يقتضي وقتاً طويلاً واختباراً تحول دونهما السلطة الأمرية)، وسعها تأليب العصبيات الأهلية بعضها على بعض، وزينت للعصبية صاحبة الشوكة الاستيلاء على الدولة واغتصابها.
وشأن الخصخصة قريب من تقليص الأعباء والنفقات العامة، وصرف الموالي والزبائن. فالخدمات التي تتولاها “المصالح المشتركة”، من نقل وكهرباء وماء وهاتف (الى مرافق أخرى مثل التعليم والصحة)، عمدت السلطة السياسية الى توزيع شطر منها مجاناً على بعض أهل عصبيتها، في الضواحي على وجه التخصيص. وكان نصيب الكهرباء من التوزيع المجاني، ولا يزال الى اليوم، كبيراً. والتوزيع هذا زبائني بدوره، شأن الأشغال الوهمية التي “يقوم” بها الأنصار والمحازبون والحواشي. وهو هبة يهبها الرؤساء، على مراتبهم، الى الأنصار والموالي، ويحتسبونها جزءاً من دولة رعاية، أو عناية، “اجتماعية” عادلة وموعودة. وتسدد الهبة هذه ثمن القتال الذي قاتله الأنصار والموالي في صفوف الأحزاب والحركات المذهبية، وثمن “الشهداء” الذين سقطوا في ميادين لا تحصى أنواعها وأصنافها ولا دواعي حربها وقتالها. وتسدد ثمن الإقامة على العهد والولاء واللحمة. وتتولى المنظمات الأهلية والعصبية حماية توزيع الهبة (الكهربائية والمائية، والهاتفية في بعض الأحوال والصحية) إما بالنفوذ و”الواسطة”، الآخذ بعضها بذيل بعض والمتراصة، أو بالقوة المادية والمسلحة. وخَبِر جباة فواتير الكهرباء، ومراقبو الأشغال العامة، الأمر. وشرط الحماية هذه، ونجاعتها وفاعليتها، هو السكن المجتمِع والكثيف والمتصل، والإقامة في وسط “الملة”، والانتحاء ناحية من السكن المختلط والمديني، في ختام حركات الهجرة والتهجير والنزوح. فنشأت “المربعات”، وهي ثوب أرباع المدن الإسلامية (أو أسباعها، في بعض الأمصار) الجديد، على شاكلة الحارات أو الخطط. واستبطنت “أمنها” الذاتي والأهلي، أو استبطنه لها، وعنها، جهاز التعبئة الحزبي المنظم والطاغي. وحملت الخدمات الأولى المجانية على جزء من العطاء. وحملت الدولة على “ديوان العطاء” في دار الحرب أو “مجتمع الحرب” المزمن والمقيم الى يوم الساعة. وآذن هذا، أي تضافر الولاء والاعتيال والسطو والانتحاء والتضامن العصبي والحماية المسلحة، بسريان حال الحرب في الجماعات، وفي علاقاتها بعضها ببعض. وولدت السياسة “القومية” العربية، وتعبئتها الشاملة في سبيل الحرب على إسرائيل والامبريالية، نظاماً اجتماعياً ومادياً قوامه تجزئة أهلية ومذهبية وعصبية متطرفة، ضحيتها الأولى الرابطة السياسية الوطنية والدولة والسياسة عموماً.
الافتراق
فلما ضم رفيق الحريري الى مشروع ميزانية 2003 مشاريع قوانين تنظم خصخصة بعض قطاعات الخدمات (وأولها قطاع الاتصالات المنافس والرابح)، عمد نبيه بري وإميل لحود الى فصل مشاريع قوانين الخصخصة من الميزانية العامة، وأخرجوها منها. وضمنوا ألا تحظى بالموافقة السريعة على الميزانية جملة. وقسروا رئيس مجلس الوزراء، على رغم كتلته النيابية الكبيرة ومساندة هيئات الأعمال والنقابات المهنية الحرة (الليبرالية) سياسته، على إفراد المشروع الواحد بقانون يحوّل الى مجلس النواب، ويناقش على حدة الوقت “اللازم”، ويخنق في المهد. واتفق ذلك مع قسر رئيس مجلس الوزراء على تأليف حكومة جديدة تولى فيها حقائب سيادية، وبعض حقائب الخدمات، موال مباشرون للسياسة السورية، و “باشكتّاب” تابعون، على ما اشتكى رئيس حكومة صلحي (سامي الصلح) في عهد ميمون سابق، على باب “باشكتاب” تابعين. فالمسألة، أي الخصخصة ومصير اعتيال القاعدة الاجتماعية الحزبية على المال العام ودولة الرعاية المجانية (من غير عمل ولا إنتاج ولا تأهيل ولا… “كرامة”)، هي الصراع على بنية الدولة والمجتمع اللبنانيين، وعلى نمط العلاقات السياسية والاجتماعية، والمثال المرجو لها. فالنمط الأسدي (و “العروبي” التاريخي) يقود الى وأد المجتمع تحت التجزئة العصبية، وإلى الاستنقاع الريعي، والغلبة الأمرية. وأما اللبنانيون، جماعات وأفراداً، فسبق ان اختبروا مثالاً آخر لا يقاس بالنمط الأسدي “العروبي” حيوية وتجدداً وإنتاجية وفردية.
ولم يقتصر الرد السوري على حلته الإجرائية، الشيعية و “المارونية” (ذلك ان إميل لحود اراد رئاسته وولايته ثأراً “مسيحياً” من هيمنة رفيق الحريري السني و”السعودي”، واستئنافاً لهيبة الرئيس الماروني التي كسرها اتفاق الطائف، وحماية من التطرف الإسلامي القاعدي، فلاقى الزعم الثأري والاستئنافي، من طرق مواربة كثيرة، “إحباطاً” واستقالة مسيحيين التقت مياههما ومجاريهما في “المقاومة” العونية الثأرية الإحيائية). فغداة التئام مؤتمر باريس ـ1 (شباط 2001)، تمهيداً للمؤتمر الثاني بعد نحو 20 شهراً، باشر رئيس الحكومة الإعداد للمؤتمر العتيد. وكان على موعد مع الرئيس الأميركي الجديد، جورج بوش الابن في الأسبوع الأخير من نيسان (2001). وقبل عشرة أيام، عداً ونقداً، من موعد الزيارة واللقاء، شنت “المقاومة” الشيعية الخمينية هجوماً وراء الخط الأزرق، وقتلت جندياً إسرائيلياً. وهي شاءت هجومها هذا انتصاراً للانتفاضة الفلسطينية غداة تضييق الدبابات والجرافات الإسرائيلية الحصار على سكان غزة. فرد الطيران الحربي الإسرائيلي على الهجوم اللبناني بضرب موقع سوري بضهر البيدر (اللبناني)، فقتل جنديين سوريين. وكان القصف هذا هو الأول بعد انقطاع أو تعليق دام 19 سنة (ويعود القصف الأخير الى 1982). فخرج رئيس الحكومة عن تحفظه المعتاد، وندد بتوقيت العمل العسكري “الخاطئ”. وأظهرت العملية، إجراء وتوقيتاً، الافتراق الحاد بين الحسابات اللبنانية، الحكومية الحريرية، وبين خطط الكتلة الأسدية الإقليمية. وعلى حين يسع الكتلة الأسدية والخمينية (الخامنئية) التذرع بالحوادث الإقليمية والدولية “العظيمة” والمصيرية الى القيام بالعملية، ولو من غير احتساب الرد عليها، لم يكن يسع رئيس الحكومة ومن يمثل، ومعه بطريرك الموارنة ومطارنتهم وبعض نخبهم ومقدم الدروز، غير الاحتجاج بمصالح اقتصادية واجتماعية وسياسية لبنانية “ضئيلة”. ويتستر على المصالح هذه، وعلى إدراكها والمحاماة عنها، التحام عصبي واجتماعي عَمِيَ عمى مستغلقاً عن روابطه التاريخية، وعن شروط دوامه السياسية والمادية. ولعل الموازنة غير المتكافئة هذه، وانقياد جماعات جزئية قليلة وجماعات أخرى عريضة لها، هي الإنجاز الكبير الذي أحرزه الفريق الأسدي في لبنان، واستخلصه من أعوام الحروب الملبننة والطويلة.
وتعاقبت الحوادث، الإقليمية والدولية، على نحو رجح كفة السياسات “الكبرى”، أو “اللعبة الكبرى” تيمناً بالاسم الذي سُمّيت به المنازعات الامبراطورية بآسيا الوسطى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وكان القيصر الروسي والملك البريطاني لاعبيها البارزين ـ على كفة البلدان الصغيرة. فمن 11 ايلول 2001 الى حرب أفغانستان بعد اليوم الشهير بنحو شهرين، الى حرب العراق، وقبل هذه، وفي أثنائها وبعدها، الحرب الفلسطينية ـ الإسرائيلية الدامية والمستمرة، وما تخلل “الحرب على الإرهاب” من أعمال إرهابية انفجرت في بعض الأوقات والأماكن منازعات على شفا الحرب الأهلية، توالت الحوادث الكبيرة. وصبغت بصبغة أهلية ومذهبية صريحة خلافات كامنة كان يلتمس أصحابها لها عبارة سياسية. وفي خضم المنازعات هذه، ظهر ضعف الدول الإقليمية، وتكشفت كياناتها وهيئاتها السياسية عن صدوع فاغرة. وخرجت من هذه الصدوع عصبيات محاربة وجارحة. وكانت السيطرة الأسدية الطويلة والمحكمة استبقت، على نحو يمت اولاً الى “غريزة” البقاء وليس الى التدبر والعقل، ضعف الدول الإقليمية وهيئاتها. فلم تسلِّم يوماً بصلاح الهيئات هذه للحكم والتسلط. فهي تباشر السلطة من طريق علاقة مباشرة بالجماعات الأهلية والعصبية، وبكتلها المعسكرة وصاحبة الشوكة. وكان لبنان، بعد سوريا، ميدان اختبارها. وعلى هذا، كان رفيق الحريري، والحقبة التي طبعها باسمه وطابعه، “مستقرضاً”، على المعنى المناخي. فهو بقية عهد سابق (أو طقس اسبق) في عهد خلفه. أو هو استباق عهد آت. وتحت المجلس النيابي أودعت السياسة الأسدية جيشاً لجباً من الزاعقين، وقبضايات المحلات، والسماسرة، والحواة، وحملة المدى، والمقامرين (معنوياً). وتحت الدستور والقوانين والأعراف وضعت خليطاً من “البروتوكولات” التي لا تتعدى دائرة الإقرار بها العصابة القليلة والضيقة. وإذا كان لبنان مثالاً لفوضى الحال الطبيعية، على ما زعم فرنسيس فوكوياما، فالفوضى التي أوجبتها السياسات السورية والإيرانية، وينسبها سليم الحص ومحمد حسين فضل الله الى “الأميركان”، لا تمت الى “الطبيعة” بصلة. وهي اصطناعية من أدناها الى أقصاها، وفي ساحاتها وميادينها كلها.
المستقبل – الاحد 17 شباط 2008