خلط الأوراق!!
محمد فاروق الإمام
في علم السياسة هناك مصطلح اسمه (خلط الأوراق) الهدف منه إرباك عدو أو خصم وجعله يحار في فهم نوايا خصمه أو عدوه، وهذا ما يكون في سياسة الدولة الخارجية، أما في خلط الأوراق كسياسة داخلية فهذا مما لا يعرف في سياسة أي نظام تجاه شعبه أو مجتمعه، لأنه من المفترض أن هناك سياسة ثابتة صريحة واضحة معلنة حسب برنامج مسبق يعلنه أي حزب أو فئة مستقلة يطرحه ليكسب الرأي العام وبالتالي الفوز بالانتخابات لتسلم السلطة، كما هي الحال في معظم البلدان التي تحترم عقول جماهير شعبها وأمانيهم وطموحاتهم، وهذا غير موجود في بلدي سورية ذات اللون الواحد الشمولي الذي يحكمها منذ نصف قرن تقريباً.
فعندنا في سورية الأمر مختلف.. فسياسة خلط الأوراق في السياسة الداخلية أمر هو المقدم على كل سياسة لوضع المواطن السوري في دوامة التوهان والضياع، فلا قانون يضبط الأمور ولا لوائح تنظيمية ممنهجة وفق قنوات شرعية تضبط أحوال الناس وترعى شؤونهم، فخلط الأوراق في السياسة الداخلية جعلت صلاحيات المؤسسات الدستورية (التشريعية والتنفيذية والقضائية) تختلط على المواطن الذي يكون دائماً هو الضحية الأولى لخلط صلاحيات كل مؤسسة من هذه المؤسسات وطغيان إحداها على الأخرى، في غياب الرقابة الصحفية الحرة والمستقلة التي تكون – كحال مثيلاتها في الدول المحترمة – العين الساهرة لكشف الفساد وفضح الممارسات غير الدستورية ولا القانونية، وهذا أيضاً غير موجود في بلدي سورية، فهناك صحف ثلاث رسمية (البعث والثورة وتشرين) تصدر في سورية منذ نصف قرن تقريباً، ولم تسمع هذه الصحف والقائمين عليها أن العالم ولج القرن الحادي والعشرين، فلا تزال تعامل عقل المواطن السوري بعقلية خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
واستبشر الناس في سورية عندما حل بشار الأسد خلفاً لأبيه في الحكم، كونه شاب عاش لفترة في عاصمة الحرية واحترام عقل الإنسان (لندن) وأنه لابد من أن يكون قد تأثر بتلك القيم وسيحملها إلى بلده سورية وينتشلها من كهفها الظلامي الذي عاشته لنحو أربعين سنة في ظل حكم شمولي يرفض الآخر ولا يعترف به بل ويقصيه بكل وسائل القمع والقهر (الاعتقال والسجن والتغييب والنفي والموت في بعض الحالات).
كما توسم المواطن السوري الخير في رئيسه الجديد بعد ما سمعه من كلمات دغدغت وجدانه وعقله في خطاب القسم، وظن أن سورية قد دخلت عهداً جديداً سيعيدها إلى أيامها الخوالي حيث كانت تنعم بحرية التعبير والتعددية الحزبية والصحافة المتنوعة والحرة والعيش السلمي المشترك بين كل مكونات الشعب العرقية والدينية والمذهبية والعقدية دون تمييز أو محاباة، فالكل يحمل هوية الوطن وهمومه.
وراح المواطن السوري يحلم بأنه يعيش ربيعاً بعد فصول الخريف الطويلة القاتمة التي رسمت حياته ولونت عيشه.. فأقدم على إقامة المنتديات الثقافية والفكرية لينشر ثقافة الحرية والكرامة والمعرفة وحقوق المواطنة والعلاقة التي تربط المواطن بمؤسسات الدولة وواجبات هذه المؤسسات تجاه المواطن وما عليها من توفير مستلزمات الحياة الكريمة والسعيدة لكل المواطنين دون تمييز أو تفاضل فالجميع في الحقوق والواجبات سواء.
ولكن المواطن السوري الحالم سرعان ما صدم بالواقع، فقد أغلقت كل هذه المنتديات وسيق القائمون عليها إلى السجون والمعتقلات والمحاكم العسكرية التي حكمت عليهم بأحكام جائرة وغير مبررة، وأمضى هؤلاء سنين في هذه السجون، وتبع ذلك تغوّل بشع من قبل أجهزة الأمن (ملاحقة واعتقال وقتل) لكل نشطاء حقوق الإنسان وأعضاء منظمات المجتمع المدني وأصحاب الرأي الآخر والمعارضين.
ما جعلني أكتب ما كتبت هو مضي عشرة أعوام على تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم، وهو يتطلع – بلا منافس – لولاية ثالثة قريبة، نتمنى عليه إعادة النظر في أسلوب حكمه في العشر سنوات الماضية التي لم ترقى إلى الحد الأدنى من طموحات الشعب السوري الذي يستحق بما يملك من إرث حضاري أن تكون معاملته لا تقل عن أي شعب متحضر في هذا القرن الواحد والعشرون الذي نعيش.. نتمنى عليه إلغاء قانون الطوارئ، وإلغاء القوانين الاستثنائية والجائرة، وفي مقدمتها القانون رقم (49/1980) الذي يحكم على كل منتم لجماعة الإخوان المسلمين بالإعدام، وإلغاء المحاكم العسكرية والاستثنائية والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وإعادة حرية الصحافة والتعددية الحزبية، وتبييض السجون وعدم ملاحقة أصحاب الرأي الآخر، وفتح أبواب الوطن لعودة المنفيين والمهجرين موفوري الكرامة ودون مساءلة مع إعادة حقوقهم المدنية التي حرموا منها هم وأسرهم لسنين طويلة، ومنح الإخوة الأكراد – شركاءنا في الوطن – حق المواطنة وحرية التعبير وفق ثقافتهم الخاصة بهم، كما هو متوفر لجميع الأقليات في دول العالم المتحضرة، ووضع الأسس الكفيلة بالتداول السلمي للسلطة وحق الاختيار الحر للمواطن في اختيار نظامه وممثليه، ومعالجة الفساد المستشري بالبلاد، وملاحقة الفاسدين والتضييق عليهم، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب بغض النظر عن انتمائه الحزبي أو العقدي أو العرقي أو الديني أو المذهبي طالما أنه يحمل هوية الوطن ويملك الكفاءة والمؤهلات.
وإذا ما أقدم الرئيس بشار على فعل ذلك فإنه سيثبت جدارته في الحكم وأهليته لولاية ثالثة سيكون الشعب كله من ورائه سنداً ودعماً وتأييداً، وبذلك يكون رئيساً لكل السوريين وليس رئيساً لحزب البعث الشمولي الذي مجّه الشعب السوري الذي ذاق المرارة على يديه لعقود طويلة، وهو يتطلع إلى التغيير السلمي والتدريجي الذي يطل من خلال نافذته إلى رغد الحياة وسعادة العيش وصلابة البنيان وفضاء العالم الحر.
خاص – صفحات سورية –