صفحات سورية

عندما يغدو اليساري سلفياً!

null
حسن الصفدي
إذا صح العنوان لغويا ومنطقياً، فليس بالضرورة أن يمسي التقدمي سلفياً بالمعنى المتداول، بل يحدث أن يتشدد المرء في الدعوة إلى مبادئ أُشربها، أو اعتنقها، في أيام الصبا، دون أي يسبق له الإعداد لمراجعة مدى انطباق وصلاحية ما تعلمه على الواقع بعد عدة أو بضعة أو عقد ونيّف من السنين.. واعتياد اللجوء، سماعاً وقولاً، إلى تلبيس الظروف المتغيّرة، وتآمر وخيانة ونكوص وارتداد الآخرين، بمجملهم، مغبة عدم تحقق مؤدى الشعارات التي بُحّت الأصوات من تردادها.
من جانب آخر تبدو الصورة النمطية (المنوال) مبهمة، كيف يمسي اليساري سلفياً؟! هذا سؤال يجد جوابه في بعض مظاهر السلوك الفكري والتطبيقي. منها على سبيل المثال الموقف من الماركسية، فإذا كان يعدّها نظرية مكتملة ناجزة فستبقى كذلك في نظره طيلة حياته، وإذا كان يعتبرها منهجاً مستديماً لا يعتوِرُه اي استشكال فسيستمر في اعتبارها كذلك.
إلا أن سؤالا يطرح نفسه: بم يمكن وصف هؤلاء الذين مالوا إلى ما يمكن عدّه سلفية يسارية، بإزاء أولئك اليساريين الذين عمدوا إلى مراجعة المقولات والمسلمات والمصادرات والبديهيات، التي سبق أن قرؤوها، أو درسوها، في شبابهم، فتعاملوا مع الماركسية على أنها علم ذي أبواب، منها ما يُغلق، أي يتوقف البحث فيه لأن الزمن تجاوزه، ومنها ما انفتح على أبواب أخرى لا تكاد تجد من يتطرق إليها (عندنا، أي بالعربية) إلا من رحم ربك.
على أن الأولين يعدّون هؤلاء الباحثين أو المراجعين هراطقة محدِثون، لكنهم (الأولون) ما عادوا يلجؤون إلى المقاطعة العلنية والاتهام بالتحريفية، فهذا، أيضاً، باب قد أُغلق، لاندثار سند حاملي لوائه، وحل محله – بالتوازي مع تكفير المتعصبين دينياً لمن لا يجاريهم -، قيام من يُحْسَبون اليساريون الثابتون على ما سبق معرفتهم له، وربما الإلمام به فقط، الرافضون للمراجعة جزئياً وكلياً، بتخوين من لا يواليهم (للقضية، للمبدأ،…) في الحرص على التمسك السلفي المفترض…
أيضاً قلّ نشاط وفعل اليساريين الثابتين، إلى حد ليس بالصعب تقديره، لعدة أسباب لا مجال لمناقشتها الآن. وبعض الناشطين منهم، مازالوا، يعمدون في مواجهة المد الأصولي إلى التمسك أكثر بما سبق اعتقاده صحيحاً، فالخطاب يبقى نفسه عقوداً، رغم اختلاف الظروف، دون أي قبول بالمراجعة، أسوة بالأصوليين، (فما من أحد أحسن من أحد).
هل من غُبْنٍ في ملاحظة أن السلفية شملت معظم تياراتنا اليمينية واليسارية. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، إذ طفق الجانبان يتباريان في استكشاف ما كانوا، غافلين بالضرورة، أو متغافلين بالفعل عنه، من محاسن (ليس المصادفات) لم يسبق الانتباه إليها، أو لعلّ الأمر ردّ فعلٍ على ما يُظَنّ أنه تغيّر أصاب الجانب الآخر؟ وكلاهما كانا، وربما ما يزالان ضمنياً، لا يحسبان الآخر ذا حق في التعبير عن رأيه والدعوة إلى معتقداته أصلاً.
لم يفضّل التغافل عن النظر إلى أمور بعينها، لا تعد من المحاسن، فلا تنتقد، أو يجري، عند الشعور بالحرج، عرض ذرائع الاعتذار عن عدم فعل ذلك حالياً، أو عن قبولها مؤقتاً؟ غير أن هذا بذاته ليس موضع بحث حقاً! لماذا؟ لأننا سلفيون بالاختيار، لذا يغدو من حقنا اعتماد التبرير، فنجعله تسويغاً لما سبق أن اقترفنا، ولما أوقعنا أنفسنا فيه، وبذلك ينتفي وجود/ ارتكاب الأخطاء تلقائياً، وتنعدم ضرورة تحليلها وتفنيدها. على هذا ألا يبدو التمسك بـ، أو التحول إلى، السلفية ملاذاً ذرائعياً بامتياز لمجتمعات التخلف؟!
كم مرة ترانا نعدد، مفاخرين، ما ليس مؤكداً، لأنه محل خلاف، محاسن ما أنجزنا في الماضي، مغضين عن كوارث ومآسي صنعناها، والآن تغرقنا سُحُبَها بهذا المطر، عفوا، الجفاف والنشاف، في الشهر، في الأسبوع، في اليوم؟؟!!
أترى السلفية، في اتجاهيها المتعاكسين نظرياً، قدرنا؟! أتراها ستغدو جزءً أساسيا من ثقافتنا الجماعية والمجتمعية!!.
لعل وعسى شباب الانترنت والفايسبوك يزيحون عن كواهلهم عبء أفكار جيل أواسط القرن الماضي المثقلة بالمطلقات، ويغيّبون تلك الأوهام المشحونة بركام مخلفات هزائمنا وانتكاساتنا التي أسميناها متبجحين صموداً وانتصارات وتصديات وممانعات.
ليتنا مانعنا أوهامنا شبه الطهرانية فقط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى