الحداثة وسلطتها
غسان المفلح
بداية لابد أن أشير إلى أهمية الحوار بشكل عام، والحوارات المتحركة بلا ضغائن شخصية أو حزبية أو دينية أو طائفية أو مثاقفاتية بشكل خاص، تجعل الفكر دائم الحركة، والنقد الذاتي، مما يجعل احترام العقل بحاجة إلى معبر حتمي في أحيان كثيرة، وهو مناقشة البديهات، أو التي تبدو لنا كذلك..
هذه البديهات التي اتداولها مثل غيري من المهتمين، مفهوم الحداثة ومشتقاته الزمانية والمكانية، غرب حداثوي وشرق متخلف، حداثة ومابعد الحداثة، الحداثة صدمة، وفضاء دخلناه..لم يعد الحديث عن انقسام العالم خارج هذا الفضاء أمرا مقبولا، لهذا لم يعد النقاش حول الإسلام في الحداثة، أو وضع الحداثة قبالة الإسلام.
الحداثة ليست تيمة مقدسة، يجب السجود لنقاءها المعرفي والقيمي وأحيانا الديني كبعد تأخذه عند بعضنا، نحن مربكين لأننا داخل الحداثة، وسبب إرباكنا أن العالم كله تحدث، وكله متصل كالشبكة العنكبوتية- النت- التي اغرقتنا أكثر في إرباكنا، نحن جميعا داخل حدث الحداثة منذ ان انفصلنا عن العالم القديم بفضاء استعماري تقليدي تركنا خلفه دولا منضددة في تراتبية الحداثة ذاتها، وهذا التنضيد ليس تنضيدا مغلقا كما يخيل لبعضنا، ولكنه تنضيدا مفتوحا ومحكوما بموازين القوة، القوة هي حاملة الحداثة وشعلتها التي لازالت تنير لها طريق القوة نقسه.
الحداثة هذه هي نحن خارجها لأننا نقرأها كذلك، لانها كأية ظاهرة تاريخية لها هامشها، ومن هو هامش لا يعني أن لاوظيفة له داخل المتن، فيكفي أنه هامش حتى يعرف المتن به، هل الهامش في المجتمع الفرنسي هو خارج الحداثة؟ هذا الهامش الذي أخذ جل وقت مبدعي من أطلقوا على أنفسهم فلاسفة ما بعد الحداثة! وأعتقدنا تيمنا بهم” اننا ايضا خارج الحداثة، وهذا غير صحيح مطلقا، لأننا جزء من هذا العالم ففينا من هو في المتن وفينا من هو في الهامش.
دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية لم يمضي سوى عقدين فقط على تخلصها من السلطات الديكتاتورية، فهل هذا يعني أنها كانت خارج الحداثة؟
هل ما هو داخل الحداثة منسقا بطريقة منسرحة، لا يوجد داخلها قوى متصارعة ومتنافسة؟ هل الإسلاميون في الغرب هم خارج حداثته؟ ربما توحي مصالح السياسة بذلك، ولكن الاجتماع والقوانين وماشابه، لا تميز بين من هو داخل الحداثة ومن هو خارجها، لأن الحداثة لم يعد لها خارج في كوكبنا، وتراتبية القوة داخلها لا تعني أن الضعيف هو خارج هذه الحداثة. والدليل أنه لا تنتصر أي توجهات سياسية في العالم المعاصر دون إسناد من داخل قوى الحداثة ذاتها، الحداثة ليست إيجابية للجميع، الحداثة الآن هي ظاهرة العالم الراهن المستمرة.
أليست الحداثة هي مجتمع رؤوس الأموال، وما أنتجه هذا المجتمع؟
أليست الحداثة أسما ذاتيا للرأسمالية؟
لماذا الهروب من الواقع عبر تحميله معايير ذاتية؟
أليس مصطلح الحداثة هو مصطلح غربي؟ العقل الحداثوي، ليس عقلا معرفيا محضاً، وليس واعدا بالحرية فقط كما يزعم، وإنما هو متورط في ممارسات القوة والسيطرة والهيمنة والسلطة، هذه السلطة التي تتخلل كل مستويات الوجود الإجتماعي للبشر. وليست الحرية رسالة مطلقة بالنسبة له بعيدة عن نزوعات السيطرة لديه، فهي في قلبه ومحايثة لسلوكه وممارساته. أليس مصطلح الحداثة هو نفسه منتج ذات العقل التنويري “عمانوئيل كانط”؟ ما هذه الكذبة التي نستمر في تردادها، جميعا ولا استثني نفسي بالطبع، نرددها دون أن نتفكر، ولو لحظة أنه عندما نحاول إقصاء الآخر بأنه لا يعيش في جناتها، ولا يتنعم بعقلها، إنما نحن بذلك ننكر، سلطة هذه الحداثة، لست فوكويا في هذا المجال، لأنني لا أرى من الحداثة فقط جانبها الغاشم سلطة وممارسات تتخلل البنية الاجتماعية، في قطيعة مع نفسها ومع روادها، لا أبدا، بل هي فعل متواصل، ولن يتوقف، ونحن جزء منه، وبدوننا لا وجود لحداثة غربية مصمتة، ومنعزلة كما يراها علمانني الشرق أبدا.
ولا اتحدث هنا بوصفي منعزلا يسارا أو يمينا في بوتقة أيديولوجية، ترى في الحداثة مجتمعا منفصلا عن العالم أو أقله عن عالمنا، ما كان يمكن للحداثة أن تتبوأ المشهد الفلسفي لعصر الأنوار لو لم ندخل نحن شعوب العالم الثالث، من بوابة استعمارها التقليدي، وتوفير الوفرة للحرية الحداثوية” مجتمع الوفرة” هذا كله يطرح علينا مفارقة بسيطة” هل الحداثة متضمنة في الرأسمالية كطور كوني وعالمي؟ أم الرأسمالية هي متضمنة بالحداثة؟ أم هل الحداثة هي كل ما أنتجه العقل التنويري في ظل الرأسمالية الصاعدة وبقوة كونية؟ الدول الاسنكندنافية، السويد والنرويج…لم تكن ضمن كوكبة المجتمعات المنتجة للحداثة في اوروبا، وأقصد بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بل كانت مسرحا لجيوش الأخيرة وتفوقها الحداثي وسلطتها، حتى أن أسرة برنادوت المالكة السويدية، ليست من أصول سويدية، وكذلك البلجيكة والنرويجية…الخ
ولم تنتج هذه المجتمعات رموز حداثوية مهمة، بل أنتجت مجتمعات حداثوية وهنا بيت القصيد، الحداثة علاقة اجتماعية، بكل ما تحمله هذه المسألة من معاني.
نحن منذ أن جاء نابيلون إلى القاهرة وربما قبله عبر البعثات التبشيرية التي أتت المنطقة كنا نضع أقدامنا في الحداثة، نحن ظواهر حداثية، ولكن تراتبية القوة الحداثية ذاتها، تسلسلها الهرمي في السيطرة والقوة والأنموذج كلها على مافيها من سلبيات مدمرة وإيجابيات تطلق الروح من سجونها، ووفقا لما يراها كل منا، نحن فيها ونتوق ليس لأن نكون فيها، بل لكي نمتلك قوتها. لهذا ليس الإسلام عقبة في وجه دخولنا الحداثة، في النهاية هو دين مثله مثل بقية الأديان، بل تراتبية الحداثة نفسها يمكن أن تكون عائقا أمام حرية مجتمعاتنا أكثر من الإسلام السياسي نفسه، بل ما نشاهده أن التعبيرات الإسلامية أكثر التصاقا بتقليد المجتمعات الغربية من تيارات سياسية أخرى!
أوليست هذه الذي نتحدث عنها كلها تدور في مجتمع رؤوس الأموال الكوني؟ أما أنها تدور في مجتمعات لا توجد سوى في أذهاننا؟
لماذا إذن المجتمع الماليزي او الهندي يمتلك ما يمتلكه ومجتمعاتنا العربية لا تمتلكه؟ نترك السلطة السياسية ونتجه لكي نرى في الإسلام عائقا؟
وهذه قضية فصل الدين عن السياسية في المشهد العلماني الجديد، إنما تحمل عنفا أحيانا في طياتها تجعل المشاهد العادي يرى أن هؤلاء يطالبون المسلمين بالتخلي عن دينهم. هل فصل الدين عن الدولة، تتطلب كل هذا العنف الرمزي والقهري للمواطن المسلم؟ من يمنع العلمانية الجديدة من الذهاب إلى السلطة والتدخل وفق منهجيتهم من أجل إقامة فصل بين الدين والدولة؟ هل الإسلاميون من يمنعهم من الوصول للسلطة؟ لا نسطح الأمر بل نحن نضعه على أرضية فجاجة الدعوة، التي تخرج شبيهة لا بل مطابقة لما تدعي انها نقيضها” الإسلام السياسي” الحداثة ليست تيمة خارجية” نتبناها أم لا، بل الحداثة نحن فيها كما هي فينا، ولكن سلطة الحداثة الرأسمالية تعمل وفق تراتبيات القوة والسلطة، وهنا نعتقد أن البحث يجب أن يجري، إنها الرأسمالية، ونحن نريد ان نكون فيها لاعبا أساسيا، والإسلام لا يمنعنا، بل من يمتلك زمام القوة في مجتمعاتنا هو الذي يحول دون أن تكون مجتمعاتنا أعلى درجة في سلم التراتبية هذه وأقصد نخب الحكم بكل تداخلاتها؟
نحن ندرك أن الموضوع يحتاج إلى إعادة صياغة لفكرنا بعيدا عن الجاهزيات التي تقدمها لنا سلط الحداثة نفسها، ولكن ما لم ننتبه له، أن سلطة الحداثة هذه تسمح لنا بالحرية والتحرك النسبيين.
ماذا يعني مثلا أن سلطة عربية ما تسرق المال العام وعلى عينك ياتاجر، ما الذي يمنعها أن ترتقي بدولتها ومجتمعها لكي تصبح مثل ماليزيا أو حتى مثل تركيا؟ هل يمنعها الإسلام والمواطن المسلم؟
نحن ننقد سلط الحداثة بكل مصالحها وتنوعها، ولا ننقد الحداثة لأننا فيها ومنها ولها.