ساركوزي «يرمم» الدور الفرنسي في المنطقة… بـ«حجارة» سورية!
عماد مرمل
لم يستطع بعض رموز الموالاة في لبنان كتم غيظهم وهم يتابعون أنباء الزيارة التي قام بها موفدا الرئيس الفرنسي كلود غيان وجان دافيد ليفيت الى دمشق، في خطوة أذابت الجليد الذي كان يكسو الاقنية الدبلوماسية بين سوريا وفرنسا.
وقد كان الرئيس أمين الجميل صريحا في التعبير عن خيبة أمل «الاكثرية» ومرارتها، عندما انتقد تسرع باريس في معاودة الاتصالات مع الرئيس بشار الاسد، قبل الحصول على ضمانات حقيقية منه حول سلوكه في لبنان، معتبرا ان السياسة الواقعية يجب ألا تتعارض مع الالتزامات التقليدية لفرنسا حيالنا.
وأغلب الظن، ان شكوى الرئيس الجميل وحلفائه لن تغير في وجهة المسار الجديد الذي تسلكه العلاقة السورية ـ الفرنسية في مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة، ليثبت مرة أخرى ان «محدلة» المصالح الدولية لا تحسب حسابا لأي التزامات مبدئية ولا تتردد في السير على أجساد الحلفاء متى تطلب الامر تحويلهم الى ضحايا، وبالتالي فإنه من الوهم بل من العبث الافتراض ان أحدا في لبنان يستطيع توظيف هذه الدولة او تلك في مشروعه ولحسابه، كما قد يتراءى للبعض أحيانا، في لحظة إحساس خادع بالعظمة.
ولعل التعبير الابلغ عن قسوة «الأقدار» الدولية سيكمن في مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد الى جانب حوالى 50 رئيس دولة في الاحتفال بعيد الاستقلال الفرنسي، من قلب إحدى الساحات الباريسية، في الرابع عشر من تموز المقبل، بينما كان هناك من ينتظر ان يرى نظامه في قفص الاتهام أمام هيئة الادعاء في المحكمة الدولية.
ولأن الرئيس ساركوزي يبدو مستعجلا، لتعويض ما فاته، فهو لم يتأخر في إيفاد مستشاريه الاثنين للقاء الرئيس الأسد وفتح صفحة جديدة معه، متخذا من اتفاق الدوحة مظلة لهذا الانفتاح الذي يتجاوز بالتأكيد الملف اللبناني، باسطا ظله على ملفات أخرى.
وانفتاح ساركوزي على دمشق يأتي في سياق الاستراتيجية التي وضعها عند انتخابه رئيسا، خلفا للرئيس جاك شيراك، مستندا الى حصيلة تجربته السابقة كوزير للداخلية. حينها، نسج ساركوزي بحكم موقعه علاقات وثيقة مع المسؤولين السياسيين والامنيين السوريين، أتاحت له وضع يده على العديد من الخلايا والشبكات الإرهابية وجعلته يختبر أهمية الدور السوري في المساهمة في حماية الامن الاوروبي عموما، والفرنسي خصوصا، من خطر الارهاب.
ومع وصوله الى قصر الاليزيه، قرر ساركوزي وفريق عمله انتهاج سياسة خارجية جديدة، تجاه الشرق الاوسط، ولا سيما حيال لبنان وسوريا، تقوم على قاعدة الفصل بين متطلبات المصالح الاستراتيجية وحسابات العلاقات الشخصية التي كانت تحرك الكثير من مواقف الرئيس جاك شيراك. كان ساركوزي يدرك ان باستطاعته الاستثمار على دور فرنسي متمايز يجمع بين التحالف مع الولايات المتحدة الاميركية وتفهم خصوصية الموقف السوري، بما يتيح له في مكان ما ان يؤدي دور «الوسيط المقبول» وبالتالي المرور من «طرف الباب» هذا لإعادة الاعتبار الى الدور التاريخي لبلاده في المنطقة.
وبناء عليه، ارسل ساركوزي في بداية ولايته جان كلود كوسران الى سوريا ولبنان، في زيارات استكشافية، كانت تهدف الى اختبار إمكان تطوير العلاقة مع البلدين بعد «تنظيفها» من رواسب الحقبة الشيراكية، ويومها نجح كوسران في بناء صداقات مع بعض المعارضين اللبنانيين على طريق ترميم الثقة المتداعية تحت وطأة السياسة الشيراكية، الامر الذي أثار آنذاك امتعاض وزير الخارجية كوشنير المعروف بصلاته الوثيقة مع صقور الادارة الاميركية.
واصل ساركوزي مهمة إعادة هندسة الحضور الفرنسي في لبنان وسوريا، على إيقاع الازمة بين الموالاة والمعارضة، مرتكزا على خلاصة تقارير رفعت اليه من دوائر وزارتي الدفاع والخارجية ومديرتي الاستخبارات (الامن الداخلي والامن الخارجي)، وتقاطعت في فحواها حول النقاط الآتية:
ـ لا مصلحة في ان تظهر فرنسا طرفا منحازا.
ـ ضرورة بذل جهد خاص لتطوير الصلات مع حزب الله.
ـ القناعة بوجوب إعادة تفعيل الدور المسيحي في النظام اللبناني والذي كان يحظى تاريخيا برعاية فرنسية، مع ما يتطلبه ذلك من قانون للانتخاب يراعي الهواجس المسيحية.
تبلورت هذه الافكار لاحقا من خلال المبادرة الفرنسية التي وُلدت بالتوافق مع دمشق، ولكن باريس عجزت عن تسويق تلك المبادرة لدى الموالاة، ليتبين في ما بعد ان واشنطن والرياض لم تكونا مهيأتين للتجاوب معها، فجرى تعطيلها، وساير ساركوزي مزاج حليفتيه مبادرا الى وقف التواصل مع سوريا، حتى تسهل الحل في لبنان، وتم التعويض عليه بزيارة «عطل وضرر» الى السعودية عاد منها بمجموعة عقود واتفاقات تجارية.
توالت الاحداث بعد ذلك، لتفضي الى ولادة اتفاق الدوحة الذي يرى الفرنسيون أنه أنصفهم وأعاد الاعتبار الى مبادرتهم التي دفعت ثمن التوقيت السيئ، والاهم ان هذا الاتفاق عزز مواقع الفريق المحيط بساركوزي على حساب فريق كوشنير. وهكذا وجد ساركوزي ان التوقيت أصبح مناسبا لاستئناف ما كان قد بدأه مع سوريا، مستفيدا من التراجع في فعالية الدور الاميركي، لملء الفراغات في أكثر من مكان.
ومن الواضح ان مبادرة الرئيس الفرنسي الى مد الجسور مجددا مع نظيره السوري إنما تؤشر الى ان واشنطن فقدت بعضا من امتيازات الفترة السابقة، حين كانت تستطيع إلزام حلفائها بالسير على إيقاعها في مقاطعة دمشق ومحاصرتها، فإذا بالوضع يتحول الى حد ان ساركوزي لم يجد أي حرج في إيفاد مبعوثيه للقاء الاسد، غداة القمة التي جمعته مع الرئيس جورج بوش في قصر الاليزيه.
لقد أدرك ساركوزي ان عهد بوش انتهى، مع وقف التنفيذ، وأن المطلوب منه الآن ان يُعد بلاده لدور حيوي في المنطقة، يلاقي بالدرجة الاولى الادارة الاميركية الجديدة، ولعله يعتقد انه ليس هناك أفضل من سوريا كبوابة للعودة القوية الى الشرق الاوسط.
السفير