المثقف العربي والسلطة السياسية والعلاقة اللامتزنة
منى جعبوب
منذ الخمسينيات والستينيات وصولا إلى السبعينيات من القرن الماضي والعلاقة بين المثقف العربي والسلطة السياسية واضحة المعالم، وهي علاقة تتسم بالعداء والجفاء والحرب السرية والمعلنة بلغة الحديد والنار غالبا والعصا والجزرة أحيانا، وكان للمثقف العربي نشاط وقوة وسلطة معنوية تفوق في بعض الأحيان سلطة الساسة وله تأثير وفعالية يتجاوزان تأثير الساسة، والسر في ذلك يكمن في الثلاثية الأزلية لحراك الأمم: السياسة والمجتمع والثقافة.
فمثقف ذلك العصر كانت قوته تأتي من تأثيره على المجتمع ومن سعيه الحثيث والدؤوب لاستمرارية هذا التأثير من أجل تحقيق أفكاره ورؤاه للمجتمع الذي ينشده وسعيه لإحداث التغيير الاجتماعي الذي سينتج عنه تغيير في المدى المتوسط والبعيد على كافة الصعد والأدوار. وفي ذات الوقت كانت السلطة السياسية سواء المحتلة أو المحلية تستمد قوتها وتضمن بقاءها من التخلف الذي يرزح تحت وطـــــأة أفــــكاره المجتمع العربي، ومن هنا كان المثقف العــــربي ناقوس خطر يدق بقوة تكاد تثقب طبلة اذن ذوي السلطة السياسية وتقضّ مضاجعهم.
ولذلك وجدنا أناسا من عامة الشعب مثقفين انطلقوا بأفكارهم مزاوجين بين الخطاب السياسي والاجتماعي من منظور تقدمي أو ديني أو اشتراكي، واستطاعوا أن يؤثروا وأن يصنعوا حركات لا أبالغ إن قلت غيرت خارطة العالم بأسره وزلزلت كثيرا من مواقعه.
المثقفون العرب بأيديولوجياتهم المتباينة والمتضادة كانوا يتجهون في خطاباتهم ورؤاهم إلى المجتمع ذاته، وحتى خطابهم السياسي لم يكن خطابا موجها لمن هم على هرم السلطة، بل كان خطابا للمجتمع حول ما هو الفكر السياسي المناسب لتسيير دفة السلطة، سواء أكان طرحهم ديمقراطيا أو اشتراكيا أو إسلاميا أو غيره. وكان هؤلاء المثقفون ينطلقون بلغة ومفردات تتناسب وشرائح المجتمع ومفاهيمه، ومن هنا مثّل هذا المثقف خطرا في دعواه التنويرية حسب فكره وطرحه وتأثيره على المجتمع.
وقد ضعف تأثير المثقف العربي عندما قل عدد حملة الثقافة المخاطبة للمجتمع والداعية للتغيير الاجتماعي، فللأسف الشريحة المثقفة الأكثر مساحة في المشهد الثقافي العربي هي فئة من إحدى اثنتين:
1. فئة تعي الثقافة على أنها مجرد معلومات مجردة تلقيا ونقلا.
2. وفئة أخرى تعي الثقافة ودور المثقف على أنه فقط صوت مخاطب للسلطة السياسية.
عندما يسجن المثقف نفسه في برج عاجي مهما أعجبنا بلغته الشاعرية وحديثه المنمق إلا أنه ليس المثقف الذي يحتاجه الوطن العربي في المرحلة الحالية، الحديث عن السريالية والفن والتجريد والمدارس الثقافية المختلفة التي يستعرض بعض المثقفين حاليا عضلاتهم الثقافية بالحديث عنها بطريق التلميذ النجيب في تسميع ما يحفظ ليست هي المطلوب من المثقف العربي، بل المطلوب هو نقل الثقافة للمجتمع كسلوك وطريقة حياة واهتمام وتنوير. وكذلك الخطاب الموجه للساسة بالنقد الهجومي المعادي من دون تقديم حلول أو مقترحات أو رؤى أو طروحات، والذي ينتهجه بعض المثقفين من دون فعالية على المستوى الاجتماعي ‘الشعبي’ ليس شكلا سليما على ما يبدو. إن كثيرا من المثقفين العرب ينتقدون الساسة أكثر مما ينتقدون سياساتهم، وهذا خطر جسيم ينم عن إفلاس فكري لا يليق بالمثقف عموما لأنه يفترض أن يكون هذا المثقف داعيا للتغيير وعليه أن يعي أن المشكلة الحقيقية ليست مع الأفراد بل مع السياسات نفسها. فلا فائدة من تغيير الأفراد مع بقاء السياسات وللعالم العربي في ذلك تجارب كثيرة ليت المثقف العربي يستفيد منها ليخرج من دائرة نقد الأسماء والتهكم، لنقد السياسات والمطالبة بتغييرها وتقديم رؤى واضحة المعالم يمكن أن تستلهم منها السياسات عملها. فكل المذاهب السياسية قامت على أساس تنظير المثقفين في عصور مختلفة ولم تقم بناء على نقد المثقفين لشخوص الساسة وهذا ما يجب أن نعيه كمثقفين عرب.
العلاقة الحالية بين المثقف العربي والسلطة السياسية علاقة غير متزنة وليست حميدة وليست طبيعية لا من حيث العداء ولا من حيث الولاء، فالطبيعي في الأمم المتقدمة أن المثقفين على اختلاف شرائحهم ومهنهم وأفكارهم مكرمون في بلدانهم ولا عداء بين السلطة السياسية والمثقفين، بل هي علاقة تكامل وبناء. ولقد أصبح من الضروري أن يتم التصالح بين السلطة السياسية والمثقف العربي فالتغيير الاجتماعي أصبح مطلب الجميع، وعلى المثقف العربي أن يؤجل الأجندة السياسية والأحلام الشخصية بالوصول للسلطة إن لم يستطيع أن يلغيها ويلتفت نحو مهمته الحقيقية التي بها يكسب الراهن ويصنع التغيير، عليه أن يلتفت لدوره في صناعة التغيير الاجتماعي والريادة الثقافية في المجتمع، لقد فقدنا وافتقدنا للأسف، كمجتمعات عربية، أولئك المثقفين الذين يحملون على عاتقهم لواء التغيير الاجتماعي ويسعون لإحداث تغيير في طريقة تفكير الناس وممارساتهم اليومية، نحن اليوم بحاجة ماسة للمصلحين الاجتماعيين أكثر من أي فترة زمنية من عمر مجتمعاتنا، بحاجه ماسة للمثقف الذي يخاطب المجتمع ويركز على الهوية والثقافة والمضامين الأخلاقية الوطنية والإنسانية بعيدا عن التعنت والتهكم على شخوص الساسة، بحاجة للتنويرين الذين يعلمون الناس طريقة التفكير العقلاني الناقد، بحاجة للمثقفين الذين يخلصون للمجتمع ويحلمون بتغيير ينبع من القناعات والثقة الراسخة بعيدا عن المصالح الشخصية والتبعية العمياء.
فإذا حدث ذلك التغيير في المجتمع في طريقة تفكير الناس وتعاطيهم مع الأمور وتكون الوعي الناقد للسياسات والأفكار وليس للأسماء والشخصيات، يمكن أن نشاهد تغييرا حقيقيا في العالم العربي، ويجب أن يكون المثقف العربي نموذجا لمثل فكر ناقد كهذا يتناول في نقده جوهر الأشياء، وعندها فقط يمكن أن نشاهد علاقة طبيعية متزنة بين المثقف العربي والسياسي العربي على غرار الدول المتقدمة لأننا حينها نكون قد أحدثنا تغييرا في طريقة التفكير في المجتمع، ولأن الجميع سيدرك حينها أن المثقف يستمد قوته وسلطته من المجتمع الذي ساهم في صناعة التغيير فيه والسياسي سيصبح فقط مجرد مدير لتغيير رسمه المثقف ووضع قواعده.
‘ كاتبة وباحثة عمانية