متى يمكن الحديث عن نهاية الاستبداد العربي؟
فرج بو العَشّة
لو طُرح السؤال على عبد الرحمن الكواكبي (1854 – 1902) مثقف النهضة ورائد فكر المعارضة السياسية العربية الحديثة، لأجاب، في ظني، بأنه أمر أبعد مما يُتصور. وذلك بالنظر إلى رؤيتها المضمرة في تحليله المنهجي، بعفويته الفكرية الخلاقة، لطبائع الاستبداد الشرقي التي تطبع حياة المجتمعات العربية: اجتماعياً وثقافياً وسياسياً. حيث شخّص الكواكبي العظيم انحطاط الشرق (الأمة العربية) بأنه داء ومسببه هو: ‘الاستبداد السياسي’. ووصف ‘الشورى الدستورية’، أي الديمقراطية بلغة اليوم، بأنها الدواء المُعالِج.
واليوم في عامنا هذا (2010) يكون قد مرّ على على وفاة الكواكبي أكثر من مائة عام ولا تزال طبائع الاستبداد الشرقي، بوجهها العربي القح، تفعل مفاعليها في بنية سلطة الدولة والمجتمع والعائلة.
صحيح أن حركة المعارضة السياسية المدنية، دون أن نتطرق إلى حركات الرفض العنفي، صارت اليوم، في عديد الأمصار العربية، قوة مجتمعية مؤثرة بفعالية في الحياة السياسية والثقافية، إلا أنها لا تزال قاصرة عن تحقيق ثورتها الجذرية على الدولة الاستبدادية. ولا نقصد بالمعارضة، هنا، مفهومها السياسي التقليدي كونها أقلية تعارض حكومة الأكثرية تحت قبة البرلمان ضمن مواد القانون وبنود الدستور ومؤسسات الدولة، فتلك صيرورة مستقرة لم تتمظهر بعد في أي دولة عربية، بما في ذلك لبنان ـ حيث الطوائف سيدة المشهد السياسي والاجتماعي. المقصود بالمعارضة، هنا، حركة رفض جذري تستهدف الخلاص التام من مركّب دولة الاستبداد وطبائعه لكي يُصار إلى بناء سوي للدولة الديموقراطية الحقيقية. عندها فقط ينزل السلام أخيراً على روح الكواكبي العظيم في ضريحه المُبارك.
كتب الكواكبي بحثه غيرالمسبوق، عربياً، عن طبائع الاستبداد الشرقي، الذي استغرق منه 30 عاماً، فيما كان العرب خاضعين بشكل أو آخر تحت حكم ولايات مملوكية تابعة، بشكل أو آخر، للامبراطورية العثمانية المتهالكة. كانت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي ومصر تحت الاحتلال البريطاني. وسوف تكر السبحة. ولم يكن في تصور الكواكبي أن خلاص العرب من استبداد العثمانيين، أو قل الأتراك، سوف سيحولهم إلى تورتا يتقاسمها المسيو بيكو والمستر سايكس. وبالتالي لم يكن له أن يتصور أن المستعمر الفرنجي سوف يحرص، لفائدة مصالحه، على استمرارية منهجية حكم طبائع الاستبداد الشرقي، مع تزيين الوضع في بعض النماذج، كما في مصر الخديوية، بمظاهر ليبرالية مشروعه الكولونيالي، بواسطة تركيب حكومات محلية، يزينها بدستور وبرلمان وصحافة ونشيد وطن وشرطة وجيش…
ولم يكن الكواكبي العظيم حاضراً كي يستبشر خيرا في نهوض روح الأمة الاستقلالية التحررية: المقاومة الجهادية في ليبيا ضد المستعمر الإيطالي في ليبيا بقيادة عمر المختار (شيخ حرب العصابات الحديثة). المقاومة الجهادية في المغرب ضد المستعمر الإسباني ثم الفرنسي بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي محرر الريف المغربي من الغزاة الإسبان ومؤسس جمهورية الريف المستقلة العام 1921. وثورة العشرين الوطنية في العراق ضد المستعمر البريطاني…. وصولاً إلى الثورة الجزائرية التحريرية التي تفجرت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954 وانتهت بهزيمة فرنسا واستقلال الجزائر العام 1962، لتشكل رمزاً أسطورياً لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث. ثم كان انقلاب جمال عبد الناصر العسكري العام 1952 على النظام الملكي الخديوي بمثابة إعلان تاريخي عن دخول العرب في فكرة الوجود الوطني ـ القومي المستقل.
وإذ انتهت حقبة الاستعمار الغربي للعالم العربي، وشاعت فكرة أنظمة الاستقلال الوطني، وجدت الشعوب العربية نفسها خاضعة لحكم أنظمة ‘وطنية’ استبدادية أكانت موسومة بالرجعية العميلة أو بالثورية التقدمية. فقد قامت على إعادة إنتاج طبائع الاستبداد الشرقي بأدوات قمع حديثة لم تكن لتخطرعلى بال جدنا الكواكبي.. وها هم طغاة العرب اليوم، ‘رجعيون’ و’تقدميون’ يلتقون جمعيهم (تقريبا) على فهم واحد لمفهوم الأمن القومي بما يعني حماية أنظمة حكمهم وتوريثها في نسلهم، الأمر الذي يحتم عليهم، حسب عقيدتهم الأمنية السلطوية، الحرص على نيل رضى سيد البيت الأبيض أو على الأقل عدم إغضابه، كي يتركهم وشأنهم يستبدون بشعوبهم. ونتذكر كيف امتثلوا جمعيهم (تقريبا) لإملاءات السياسة الأمريكية عندما صاح بوش الصغير في وجوههم: من ليس معنا ضدنا. ارتعبوا جمعيهم (تقريبا) خوفاً على كراسيهم. فهم جميعهم (تقريبا) فاقدون لشرعية شعوبهم في الحكم كي يحتموا بها من غضب سيدهم الأمريكي.
ويبقى السؤال: ما طبيعة طبائع الاستبداد الشرقي هذه التي تجعل هؤلاء المستبدين الشرقيين سادرين في حكمهم الاستبدادي المستمر عن عن عن… عن استراتيجية معاوية السلطوية: ‘إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي. ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني. ولو أن بيني وبين العامة شعرة لما انقطعت. قيل له: وكيف ذلك ؟! قال: إن جذبوها أرخيتها وإن أرخوها مددتها’.
وبسؤال ملموس: لماذا لم ينجز الشعب المصري بعد، وهو رائد النهضة العصرية قبل اليابان بعقود؟! السبب الجوهري يعود، في رأيي ودون الدخول في تفاصيل تاريخية، إلى أن النهضة المصرية قامت من منظور المستبد الشرقي محمد علي لرغبته الشخصية في إجراء تحديثات عسكرية وتعليمية واقتصادية تخدم ترسيخ دولته الاستبدادية لصالح إدامة حكمه وحكم ذريته من بعده، ولم يكن معنيا بالنهضة كمشروع مجتمعي. وكانت حملاته العسكرية، في محاربة الوهابيين في الحجاز ونجد والمشاركة في الحرب على اليونان، التي تدمر فيها الأسطول المصري الناشئ، تنفيذا لأوامر السلطان العثماني على أمل أن يجازيه الأخير بضم ولاية الشام (سوريا الكبرى) إلى حكمه. لكن السلطان لم يحقق له مطمحه خوفا من أطماعه. فقام محمد علي بالاستيلاء على الشام من السلطنة العثمانية بالقوة، ووصل إلى تهديد الأستانة نفسها. فتحالف السلطان العثماني مع روسيا وبريطانيا وفرنسا لمحاربة محمد علي، الذي أُجبر في نهاية المطاف على الانحسار داخل دولته في مصر ورضخ لشروط مؤتمر لندن العام 1840 التي فرضت عليه تقليص عداد جيشه وتركوا له حكم مصر حكمًا ذاتيًا يتوارثه أولاده من بعده. والنتيجة تحول مصر إلى دولة خديوية متأصلة في طبائع الاستبداد والفساد. واقتصار التعاطي مع النهضة العصرية (الحداثة الغربية) على إصلاحات محدودة والاستغراق في تقليد مظاهر الحياة الغربية. وخصوصا في عهد الخديوي إسماعيل الذي بطر في تبذير أموال الخزانة العامة على رغباته وأهوائه وأغرق البلاد في الديون التي استقرضها من البيوت المالية والمرابين الأجانب بفوائد باهظة، مما أدى إلى إفلاس الدولة ومن ثم التدخل الأجنبي في شؤون إدارة المال العام، وصولا إلى الاحتلال الإنكليزي المباشر العام 1882. عكس مشروع النهضة اليابانية التي قامت على رؤية استراتيجية شاملة لمتطلبات النهضة في الدولة والمجتمع. عُرفت باستراتيجية ‘الدولة التنموية’ ذات المبادئ والمنطلقات والخطط والأهداف الواضحة، في مداها القصير والبعيد، بقيادة امبراطور شاب (1868 1912) استحق عن جدارة لقب ‘الامبراطور المصلح’، الذي كان شعاره: ‘جيش قوي ليابان غنية’ معتمداً على الانفتاح الكامل على التقنية الغربية ولكن بروح يابانية من لدن شعب شغوف بالتعلم من الآخر المتفوق وتقليد صنائعه وصولاً إلى القدرة على الابتكار الذاتي، بل والتفوق على ‘المعلم’. وكان المفتاح العلمي: وضع سياسة تعليمية أوصلت نسبة التمدرس في اليابان إلى أكثر من 95 في المائة مع بداية القرن العشرين. مع توفير مناخ الاستقرار السياسي والاجتماعي اللازمين لمشروع ‘الدولة التنموية’. فلم تدخل اليابان في مغامرات عسكرية خارجية إلا بعدما امتلكت أسباب القوة الامبراطورية. وكان نظامها السياسي عنوانا لنهوض دولة عظمى رغم استبداديته السلطوية النسبية ثم فاشيته الآيديولوجية التي ظهرت في ثلاثينات القرن الماضي وغامرت بالنهضة اليابانية في اتون الحرب العالمية الثانية التدميرية…. لتنهض اليابان من جديد كطائر الفينيق فتصبح القوة الاقتصادية الثانية كونياً، بنظام سياسي ديمقراطي نموذجي بالمفهوم الرأسمالي. وما كان لها أن تصل إلى ما وصلت إليه لو لم تؤصل نهضتها منذ انطلاقتها كمشروع شامل لصالح كامل الأمة أفقه المستقبل المفتوح، وليس تلبية لمتطلبات محصورة في مصلحة المستبد الشرقي (العربي) بما يخدم إدامة استبداده في عهده وعهود ذريته.
‘ كاتب ليبي
القدس العربي