صفحات مختارة

“محافظون جدد” هناك وهنا وفي كل مكان

عقل العويط
مات محمد أركون. هذا صحيح. الصحيح أيضاً أن موته يشكل خسارة فكرية كبرى. لكن الصحيح، الأصحّ، أن فكره هو في أيدي العرب والمسلمين، وأمام عقولهم. بدل الرثاء والتبجيل، فليتفكروا فيه، أو فليأخذوا به. بل لنتفكرنّ فيه، ولنأخذنّ به جميعنا، ما دام المفكر الراحل قد وضع إصبعه على الجرح العقلي الكبير، المفتوح على آخر نقطة دم من وجودنا الوجودي.
***
ما جرى أخيراً في الولايات المتحدة الأميركية مع القس تيري جونز وجماعته الدينية الأصولية، كان إنذاراً بأن المخفيّ أعظم، وبأن نار الأصوليات الدينية يمكن أن تظهر فجأةً (!) الى العلن ويمتدّ هشيمها الى العالم كلّه فتجعله قاعاً صفصفاً.
لكن ما جرى ليس في رأيي حادثاً “دينياً” عرضياً وجزئياً، كما أنه ليس حادثاً سياسياً أميركياً معزولاً. لو كان كذلك، لما اتخذ هذا الحجم الخطير، ولما اضطررنا جميعاً الى أن نضع أيدينا على قلوبنا، لا كأفراد فحسب إنما كأمم ودول وجماعات وأديان وحضارات.
بعيداً من منطق الدسائس والمؤامرات، قد لا أرى بعيدةً من هذا الحادث، أيدي المخابرات، والصهيونية العالمية. هناك جهات وأطراف في هذا العالم، يهمّهم كثيراً أن تنجح نظرية هنتنغتون حول تأجيج الصراع بين الحضارات، بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحية. هناك جهات وأطراف، لا ينتعشون ولا يحيون إلاّ إذا نجحت هذه النظرية.
“المحافظون الجدد”، أكانوا رجال سياسة أم رجال دين، يحكمون العالم في ثياب وأسماء مختلفة، لا في الولايات المتحدة فحسب، إنما في كل مكان تقريباً. ولولا بعض “الواحات” في العالم، التي باتت مياهها معوكرة، وملطخة بعقول هؤلاء الأصوليين وأفكارهم، لكان في إمكاننا أن نصف العالم الأرضي اليوم بأنه بات في أيدي هؤلاء “القياميين” من كل حدب وصوب.
كنتُ كتبتُ قبل ثلاثة أسابيع مقالاً عن كذبة الحوار الإسلامي المسيحي. أعيد اليوم، بدون تعميم مقصود، تكرار التأكيد أن هذا الحوار كذبة، بمعنى أن نتائجه الإيجابية الفعلية على أرض الواقع إن هي سوى فقاعات صابون، وذلك بدليل ما نحن عليه من وقائع محزنة ومخزية ومخيفة. قد يكون مجتمعنا اللبناني تحديداً، هو الأرض المباشرة للقصد، لكني أنظر بقلبي وعقلي الى الأوسع، والأشمل، والأعم: الى مشهد العالم العربي والإسلامي، الى المشهد اليهودي الصهيوني، الى المشهد المسيحي، الى المشهد الروسي والقوقازي، الى المشهد الآسيوي، الى مشهد الشرق الأقصى، الى المشهد الأوروبي، الى المشهد الأميركي، الى الكرة الأرضية وهي تتلوى بأسرها على جمر الأصوليات والعرقيات والاتنيات والجحيم العقلية والروحية والدينية والسياسية، على رغم العلامات الظاهرة التي تناقض هذا الرأي.
باختصار شديد أقول: لولا الأصوليات، الغربية منها والشرقية على حدّ سواء، لكان العالم تقريباً بألف خير.
الدين، استخدامه، قد يكون أحد الأسباب الكبرى لصعود الأصوليات الراهنة. لكنها أيضاً السياسة العالمية والمصالح وصراعات الامم وأنظمة الحكم والحكّام، ومعها المعايير والمفاهيم والقيم.
لا أستثني ديناً ولا متدينين من هذه الأصوليات، لا شرقاً ولا غرباً، لا شمالاً ولا جنوباً، وإن تكن الأديان السموية الثلاثة وأتباعها هم في رأس القائمة.
لا أستثني دولةً ولا سياسةً ولا نظام حكم، وإن كنتُ أصوّب خصوصاً على الدول العظمى التي تحرّك سياسات العالم وتضطلع بتأجيج الكوارث والمآسي.
كنا نعتقد لعقود “رومنطيقية” قليلة خلت أن الرهاب الديني الى خفوت، وأن الحضارات والمجتمعات والدول والسياسات والشعوب أدركت أن الحياة تستحق أن تعاش متحررةً من الرهاب، لكن يبدو أن اعتقادنا يخطئ كثيراً حين يتوهم أن العالم “الحديث” قد بات “حديثاً”، فعلاً وواقعاً.
العالم “الحديث” هذا، يمتلئ شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، بمليون قسّ وحاخام وشيخ، من طراز “ملهِم” كنيسة “دوف وورلد آوتريتش سنتر” في غينسفيل بولاية فلوريدا الاميركية القسّ تيري جونز. يجب أن نقول ذلك بصوت جهوري، اعترافاً، ثم تنديداً بهذا القسّ وبنظرائه الكثر جداً جداً بين اليهود والمسلمين والمسيحيين والهندوس، وتحذيراً من الأسوأ. يجب ألاّ يتلطى أحدنا وراء إصبعه. لولا الخجل والعيب والمكابرة والأمل، أكادني أقول، ولا قصد في هذا التعميم سوى التركيز على كارثة الحالة الكونية الراهنة والمستمرة: الجميع، بطريقة أو بأخرى، يشبهون تيري جونز، وإن وضعوا قفازات في أيديهم وأقنعة على الوجوه.
هذا ليس تعميماً. إنه تقريباً واقع الحال، مرئياً من تحت الكذبة الدولية، التي نسمّيها “حوار الحضارات”. أرجو أن أكون مخطئاً. أرجو ذلك من صميم عقلي وفؤادي.
لكن التنديد والتحذير لا يكفيان، لأنهما غير فاعلين.
إنها أخلاقيات الكون “الحديث”، ومسؤولية الدول والقوانين والأنظمة والحكّام. وهؤلاء لا يفعلون شيئاً حقيقياً حاسماً لمنع استمرار هذه الكذبة الدولية التي نسمّيها “حوار الحضارات”، بسبب المطامع الانتهازية السياسية والاقتصادية والعسكرية، كما بسبب المأزق الذي يعصف بالعقل “الحديث”.
هذا ليس كلاماً في الهواء. خذوا هذا السؤال: هل كان القس تيري جونز ليتجرأ على التفكير – محض التفكير فحسب – في ما قام به، لو أن السلطات الاتحادية (أو المحلية) الأميركية قامت، أو تقوم، بدورها الطبيعي والقانوني في حفظ المجتمع؟
أعرف تماماً أين يجب أن لا تتدخل الدولة، وأين يجب أن تتدخل. لكنْ، هذه من المسائل التي لا يمكن التلطي فيها وراء شعارات من مثل “الديموقراطية” و”الحرية”. إنها مسألة أمن المجتمعات البشرية. إنها مسألة حياة أو موت.
لستُ أدري من يقف وراء تيري جونز هذا. ربما لا أحد. ربما العته العقلي والديني فحسب. لكني بسبب الرهاب، أقول: الدسائس السياسية والمخابرات الأميركية والموساد والصهيونية. لكن المشكلة قد تكون أعمق من ذلك بكثير. قد تكون بنيوية: الناس، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، قد يكون بعضهم يفكر في ضمائره هكذا. ولولا “المعوقات” العملانية، لكان هذا البعض ينتقل من هنا وهناك وهنالك الى مرحلة التنفيذ. وهذه هي الفاجعة الإنسانية الكبرى.
ما أقوله عن القسّ الاميركي، يمكن أن يكون هو أيضاً من علامات آخر الأزمنة. فلنحذر جميعاً علامات آخر الأزمنة!
النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى