القرآن والصورة وامريكا!
الياس خوري
انتهت اللعبة بهدوء بعد كل الضجيج الاعلامي الذي احيطت به. نجح القس المغمور تيري جونز في التحوّل الى نجم اعلامي، واثيرت ضجة في مشارق الأرض ومغاربها حول نية الرجل احراق مئتي نسخة من القرآن الكريم في كنيسته في ولاية فلوريدا. ثمّ انتهى كل شيء كما بدأ، ولكن على الطريقة الامريكية، التي تحوّل الافتراض واقعاً والواقع افتراضاً.
فالقس المتطرف وشبه المعتوه، لاقى رواجاً اعلامياً هائلاً، واحتلت صوره، بشاربيه الطويلين الهابطين، وشعره الأشقر، شاشات جميع فضائيات العالم، وصار نجماً لايام قليلة، ولقي خطابه الهستيري ضد الاسلام قبولاً واستنكاراً، بحيث تحولت كراهية الاسلام والمسلمين هي المسألة، في ذكرى الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر.
في اللحظة التي تلقفته فيها السلطة الاعلامية الامريكية، اي عندما تحول من قس مغمور يقود كنيسة لا يتجاوز اتباعها العشرات، الى نجم تلفزيوني، بطلت اللعبة ان تكون مجرد نزوة او حماقة، لتتحول الى حدث كبير.
حدث القس الامريكي دار في اروقة السلطة الاعلامية، والاعلام في امريكا سلطة وجزء من السلطة. بالطبع جرى استغلال حماقة هذا القسيس من قبل الجمهوريين واليمين المتطرف من اتباع حزب ‘الشاي’ عشية الانتخابات النصفية للكونغرس، بهدف اضعاف اوباما وحزبه الديمقراطي. لكن هذه هي لعبة الصراع على السلطة في امريكا. غير ان الاعلام، وخصوصاً في ميدان الصورة اتخذ منذ ‘عاصفة الصحراء’ شكلا جديدا. فهو لا يغطي الحدث فقط، بل هو جزء منه، وقد يكون الجزء الأكثر أهمية وفاعلية.
تلقفت الصورة قصة مهووس بكراهية المسلمين، فصار القس بطلاً، وصار احتمال احراق مئتي نسخة من القرآن، وكأنه حدث بالفعل.
لن احاول تخيّل ماذا كان سيحدث في العالم الاسلامي لو نفّذ الرجل فعلته الشنيعة. يكفي ان نتذكّر ردود الفعل التي اجتاحت العالم الاسلامي بعد حكاية الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية. لكنني استطيع ان اجزم، بأن المسلمين، رغم كل ما قيل ويقال عنهم، ما كانوا سيقومون بإحراق الانجيل او التوراة، لأنها كتب مقدسة بالنسبة اليهم، وهذه نقطة تفوّق اخلاقية، على الغرب ان يعترف بها.
لكن المسألة ليست هنا؟
المسألة ان اللعبة التي أطلق عليها اسم صراع الحضارات مستمرة، وهي تقوم بتغذية المتطرفين والحمقى في كل المعسكرات.
وما لا يتوقف عنده المحللون، هو ان هذه اللعبة هي بضاعة صنعتها الثقافة الكولونيالية منذ عهد الاستشراق. وهي قائمة على افتراض ان العرب والمسلمين، عاجزون وغير راغبين في التقدم. وان الصراع بين الشرق والغرب ابدي ازلي. لكن موازين القوى الحالية، فرضت على الولايات المتحدة تحييد الشرق الأقصى، اي الصين والهند، فخرجت الثقافتان الكونفوشية والهندوسية، من دائرة الهجوم، مؤقتاً على الأقل، ليتم التفرغ لبلاد النفط، التي يشكل دوام السيطرة الامريكية عليها، مفتاح الصراع الذي يلوح في الأفق مع التنين الاقتصادي الصيني.
اللعبة الايديولوجية واضحة المعالم، واذا كانت التكفيرية الاسلامية التي هي الوجه الآخر المتمم لنظرية صراع الحضارات تلجأ الى العمل الارهابي المسلح، فإن النيوكولونيالية تجمع ارهاب الدولة الى ارهاب الاعلام المعولم، وتقوم باستدراج خصومها الى معارك جانبية تستنزف مجتمعاتهم، واضعة اياهم دائما في موقع الدفاع عن النفس.
هل هناك من علاقة بين توقيت احراق المصاحف والمفاوضات الفلسطينية- الاسرائيلية؟ لا ادري، لكن ما بات واضحاً في ايديولوجيا اليمين المسيطرة في الغرب، هو قرار ضمني بتبرير جرائم اسرائيل الوحشية وليس نفيها. فالمرجع الأخلاقي لم يعد شرعة حقوق الانسان، بل صار يميل الى تبني الخطاب التوراتي، بكل ما فيه من دعوات الى الاحتلال وطرد السكان الأصليين.
الصراع الأبدي مع الاسلام هو التبرير الايديولوجي للصهيونية بحلتها اليمينية والدينية الجديدة. واصرار القس المعتوه على احراق القرآن، تضمن اضافة الى اثارة الغرائز الدينية في المجتمع الامريكي، دعوة الى ردود فعل اسلامية، تجعل الصراع يتمحور على الايديولوجيا والدين، بدل ان يكون صراعا من اجل العدالة والمساواة.
لكن القس لم يكن ينوي فعلا احراق القرآن، اوهذا ما صرح به عند وصوله الى نيويورك للمشاركة في ذكرى الحادي عشر من ايلول /سبتمبر، القس كان يمثّل كي يثير ضجة اعلامية.
‘ولدى وصول جونز الى نيويورك سأله صحافي عما اذا كان قد اكتفى بارجاء تنفيذ دعوته الى احراق المصاحف أو انه صرف النظر عنها نهائياً، فأجابه: ‘كلا، لن نعمد أبداً الى احراق المصحف… لا اليوم ولا أبداً’.
واوضح ان مجموعته هدفت من هذه الدعوة الى ‘اظهار ان ثمة عنصراً بالغ الخطورة ومتطرفاً جداً في الاسلام’، وقال: ‘لقد اتممنا هذه المهمة في شكل كامل’.
لم يكن القس يمزح، بل كان يمثّل، ولم يكن في استطاعته القيام بذلك لولا وجود الكاميرات التلفزيونية. لذا نستطيع ان نستنتج ان نسخ القرآن اُحرقت حتى لو لم تُحرق فعلياُ. ففي هذه الثقافة الافتراضية المهيمنة، يصير الحدث مجرد ايحاء، وتدور الحرب في ساحات جديدة لا تسيل فيها الدماء، لأن وظيفة هذه الساحات التغطية على الدم الفعلي الذي يسيل في فلسطين والعراق وافغانستان.
انها الحرب، لقد نجح جورج بوش الابن، الذي قاد بلاده الى كارثة حرب العراق، في رسم معالمها. وهي تتخذ في كل يوم شكلا جديدا، لكن هدفها واضح: استبدال الصراع من اجل العدالة والحرية بالصراع بين الحضارات والاديان. ولكن السحر قد ينقلب على الساحر مرة اخرى، حيث يهدد خطر الاصوليات القومية والعنصرية والدينية الصاعدة في الغرب، بأخذ المجتمعات الغربية الى شكل جديد من الفاشية.
لو لم يستول شيطان العنصرية على العالم، لجرى التعامل مع القس تيري جونز بوصفه معتوها يستحق الشفقة، لكن انقلاب الأزمنة يجبرنا على اعادة التأكيد على البديهيات، في زمن صارت فيه البديهيات في حاجة الى من يدافع عنها.
القدس العربي