الذكرى التاسعة لـ11 أيلـول: أعوام المبالغات
إعداد وترجمة: ديما شريف
استعاد الأميركيون الذكرى التاسعة لأحداث 11 أيلول 2001 قبل أسابيع كثيرة من حلول موعدها. فمخطط بناء مركز ثقافي إسلامي يحوي مسجداً في «المنطقة صفر» حيث وقعت الاعتداءات، أعاد تأجيج مشاعر الغضب والكراهية الموجّهة ضد المسلمين. التظاهرات اجتاحت المكان، وتوالت الاعتداءات على المسلمين، وصولاً إلى قرار جرى التراجع عنه في اللحظة الأخيرة، بحرق نسخ من القرآن. ولم تمنع مشاعر التعاطف مع أهالي الضحايا بعض الأصوات العاقلة من نقد ردّ الفعل الأميركيّ على الحدث الأبرز في تاريخها الحديث. فأميركا، بشعبها وحكومتها، بالغت في استجابتها لما أصابها، فأنفقت أموالاً لا يمكن تخيّلها لمطاردة عدو خفيّ، لتكتشف بعد آلاف القتلى ونشوب حربين، أنّ ذاك العدوّ لا يزال بعيداً جداً عن منالها
بين يدي بن لادن
تيد كوبل *
نجحت اعتداءات 11 أيلول أكثر مما أمكن أسامة بن لادن أن يتوقعه. والسبب ليس الثلاثة آلاف قتيل، أو ضرب قلب القوة المالية والعسكرية الأميركية وحسب. فهذه النتائج كانت مجرّد طُعم بقي على الولايات المتحدة بعده أن تحضّر الفخ.
هدف أي اعتداء من منظمة إرهابية هو حث عدو أقوى منها على الردّ بتهوّر. وخلال السنوات التسع السابقة، تخبطت الولايات المتحدة في كمين 11 أيلول وانتقلت من مبالغة إلى أخرى. يستحق بن لادن أن يكون محط عدائنا ومعاناتنا الوطنية وازدرائنا، ويستحق أن يؤخذ على محمل الجد كشخص بارع في التكتيك الحربي. لكن معظم ما حققه هو ما فعلناه ونستمر في فعله بحق أنفسنا. لا يستحق بن لادن أن نحقق، عن غير قصد، معظم أحلامه التي لم يكن يتخيلها.
ما كان يجب أن تسير الأمور على هذا النحو. كانت استجابة إدارة بوش الأولى بالكاد صحيحة. المزيج المحدد من عملاء الـ«سي. آي. إيه»، القوات الخاصة والقوة الجوية، فرّق طالبان في أفغانستان وأرسل بن لادن وبقايا القاعدة عبر الحدود إلى باكستان. كانت ردة الفعل الأميركية سريعة، قوية وفعالة. ومثّلت تحذيراً واضحاً لأيّ منظمة تفكّر في اعتداء إرهابي آخر ضد الولايات المتحدة. هنا كان على الرئيس جورج بوش الابن أن يعلن «انتهاء المهمة» والتحذير من أنّ بعض الوكالات الأميركية وفروع من الجيش ستستمر في مطاردة قائد تنظيم القاعدة. كان العالم سيفهم، وعلى الأرجح، كان معظم الأميركيين ليشعروا بالرضى.
لكن الجانب الغدار في الإرهاب هو أنّه لا أمن مطلقاً. كلّ حادث يدفع إلى التفكير في الأسوأ منه وبما يمكن أن يحدث. أقنعت إدارة بوش نفسها بأنّ العقول التي تواطأت لتحويل طائرة مدنية إلى صواريخ بالستية قد تكتشف وسائل لتسليح هذه «الصواريخ» بحمولة كيميائية، بيولوجية أو نووية. أصبح هذا كابوساً وجودياً، أدى، خلال وقت قصير، إلى توالي استنتاجات لا أساس لها: صدام حسين طوّر أسلحة دمار شامل، منها أسلحة نووية، وهناك علاقة بين الرئيس العراقي والقاعدة.
لم يكن لبن لادن علاقة في تعزيز هذه المفاهيم الخاطئة. لم يكن لكلّ هذا صلات حقيقية بـ11 أيلول. لم يكن هناك مجموعة تدعى «القاعدة في العراق» في ذلك الوقت. لكنّ المناخ السياسي آنذاك تغلب على أي معارضة ضعيفة لاجتياح العراق، وانطلقت الولايات المتحدة في مسرح حرب ثانية. حرب ستكون عسيرة ومؤلمة ومستنزفة، أكثر مما تخيله مناصروها.
أعلن الرئيس أوباما أخيراً انتهاء الدور الأميركي القتالي في العراق، وجمّل واقع بقاء عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين هناك، لسنوات مقبلة، لأنّ العراق يفتقر إلى القدرة العسكرية على حماية نفسه من الاعتداءات الخارجية (المقصود الاعتداءات الإيرانية). وقمّة المفارقة هي أنّ صدام حسين سمح للعالم أجمع بالاعتقاد أنّه يملك أسلحة دمار شامل، من أجل تخويف جيرانه. وبالتالي، كان وراء هلاك نفسه، وثمة حاجة اليوم إلى القوات الأميركية لملء الفراغ الذي أمّنه وجوده المهدد.
سيبقى عدد كبير من المئة ألف جندي الموجودين في أفغانستان لسنوات طويلة. ليس بسبب التزام أميركا بديموقراطية فاعلة هناك، وليس لحماية الفتيات والنساء الأفغانيات مما قد يحصل لهن إذا استعادت طالبان زمام السيطرة. السبب هو الأسلحة النووية. تملك باكستان ترسانة تقدر بين 60 و100 رأس نووي. إذا وقع أي منها في أيدي حلفاء القاعدة الراديكاليين في باكستان، فلا أحد يعرف ما ستكون النتيجة.
مجدداً، فإنّ هذه المعضلة من صنع أيدينا. تعتبر حرب أميركا على الإرهاب كحرب ضد الإسلام في باكستان. التطرف الإسلامي يكسب تأييداً هناك، ويهدد استقرار الحكومة التي نعتمد عليها لتأمين الحماية لهذه الرؤوس النووية. وبما أنّه لا يمكن الدفاع عن وجود عسكري أميركي كبير في باكستان بالنسبة للحكومة في إسلام أباد، فسيبقى آلاف الجنود في جارتها أفغانستان لبعض الوقت.
ربما تنبأ بن لادن ببعض هذه النتائج حين أطلق عمليات 11 أيلول من قواعد طالبان المحمية في أفغانستان. وبما أنّ الدول التي تستهدفها المجموعات الإرهابية تتخلى روتينياً عن قيمها الأغلى، قد يكون توقع ما حصل في أبو غريب، السجون السرية، الترحيلات والإخفاءات القسرية وسجن غوانتانامو. لكن في كل هذه الأمور، كان بن لادن بحاجة إلى تعاوننا غير المقصود، ونحن زودناه به. فأنفقنا أكثر من تريليون دولار على حربين، قتل فيهما أكثر من خسمة آلاف من جنودنا، وعشرات الآلاف من العراقيين والأفغان. تمدد جيشنا لدرجة أنّ التعاقد الدفاعي، من الاستجواب إلى الأمن إلى جمع المعلومات الاستخباراتية، أصبح من بين صناعاتنا القليلة النامية.
لقد سارعنا للذهاب إلى أفغانستان والعراق، وأخيراً إلى اليمن والصومال. خلقنا جهاز أمن قومي متضخماً، وغرقنا في غضبنا وأصبحنا غير واعين لنيات عدوّنا، لدرجة أنّنا نحوّل بناء المركز الإسلامي في مانهاتن إلى نقاش وطني، ونشاهد، عاجزين، كيف يغضب قس في فلوريدا أصدقاءنا في العالم الإسلامي عبر تهديده بحرق القرآن.
إذا لم يتوقع بن لادن كل هذا، فقد فهمه بسرعة. في رسالة تلفزيونية في 2004، افتخر بدفعه الأميركيين إلى طريق التدمير الذاتي. قال «كلّ ما علينا فعله هو إرسال اثنين من المجاهدين… لرفع قطعة صغيرة من القماش كتب عليها «القاعدة» لنجعل الجنرالات يهرعون إلى هناك، ولنجعل أميركا تعاني خسائر إنسانية، اقتصادية وسياسية».
صرف بن لادن بضعة آلاف من الدولارات، درب وضحى بتسعة عشر من جنوده، وشاهد كيف تحوّلت مجموعته الصغيرة المشهورة المؤلفة من بضع مئات من المتعصبين إلى امتياز دولي أعظم من سلسلة مطاعم الوجبات السريعة «مكدونالد». هل كان بإمكان أي عدو للولايات المتحدة أن يحقق أكثر من هذا بأقل من ذلك؟
هل كان بن لادن، في أكبر أحلامه، يتمنى أن يحدث فوضى أكثر؟ فات وقت التفكير بما سعى عدونا لتحقيقه ولا يزال، وكيف لبّيناه في ذلك.
* عن صحيفة «واشنطن بوست»
يوم واحد لا يكفي
ديفيد روثكوف *
قبل أسبوع، كتب فريد زكريا مقالاً في مجلة «نيوزويك» تحت عنوان «ما فقدته أميركا». عنوان المقال الفرعي كان «من الواضح أنّنا بالغنا في ردّ فعلنا على 11 أيلول». وكما تعوّدنا مع زكريا، فإنّ المقال رصين بطريقة استثنائية وحججه مقنعة. يركّز المقال على الأكلاف الكبيرة المرتبطة ببناء جهاز الأمن الأميركي الكبير الذي استهدف التهديدات الإرهابية المبالغ فيها. يحيل زكريا على سلسلة «أميركا السرية» التي نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» وأظهرت كيف «خلقت الولايات المتحدة، أو أعادت تركيب، بعد اعتداءات برج التجارة العالمي، 263 وكالة على الأقل لتعالج بعض أوجه الحرب على الإرهاب. زادت كمية المال المخصصة للاستخبارات بنسبة 250% لتصل إلى 75 مليار دولار (وهذا هو الرقم الرسمي، أي تقدير أقل من الحقيقة). وهذا أكثر مما يصرفه العالم أجمع».
حتى اليوم، بعد تسع سنوات على 11 أيلول، تطلّب الأمر قدراً كبيراً من الشجاعة ليقول زكريا إنّنا بالغنا في ردّ فعلنا تجاه الأحداث الرهيبة التي حصلت في ذلك اليوم. نظراً إلى مداها وتأثيرها الكبير في كلّ أميركي، بدا في الأيام التي تلت الاعتداءات أنّ المبالغة في ردّّ الفعل مستحيلة. لكن في السنوات اللاحقة، لم تتراجع المشاعر قط، وكلّ الانتقادات لردّ الفعل العام عُدّت غير وطنية ومدنسة باستثناء ما يشبه الإجماع على خطأ اجتياح العراق.
لكنّي أرى أنّ مقال زكريا قلّل من المشكلة. وأعتقد أنّ ذلك يعود إلى تركيزه المحدّد لا إلى ضيق في وجهة نظره. فكان ذلك عموداً واحداً ركّز فيه على البحث في نقطة مهمة في ما يتعلق بأولويات أميركا الأمنية والأكلاف المرتبطة بالمبالغة الاستراتيجية في ردّ فعلنا. إنّ الضرر الحاصل نتيجة تركنا المشاعر والأدرينالين يتحكمان فينا في الشهور والسنوات التي تلت الاعتداءات، يمتد أبعد من التحريف في أولويات السياسة الخارجية أو الأثر في الموازنة الفدرالية الأميركية.
نرى هذا التأثير مثلاً في العروض المروّعة التي سيطرت على الأخبار الوطنية الأميركية في الأسبوعين الماضيين: النقاش بشأن بناء مركز ثقافي إسلامي في منطقة مانهاتن وقصص قس بغيض، غير مهم، يتاجر بالكراهية ويريد أن يشتهر عبر تهديده بحرق القرآن. يبدو تأثير 11 أيلول على هذه القضايا بطرق عدّة، ويُظهر قباحة الندوب التي تركتها الاعتداءات في مجتمعنا، على السطح وفي العمق. هناك كره، عدم ثقة وعنصرية. وهناك، حتى بين الناس العقلاء، رغبة مستمرة في استخدام 11 أيلول عذراً لتعليق دستورنا وانتهاك حرمة أهم حقوق الأميركي وقيمه.
نتحدث عن «قدسية» 11 أيلول وننسى غالباً التزامات أكثر قدسية تتعلق بالتسامح والحرية التي بنيت عليها هذه الدولة. يدين المتحدثون هذا الرجل المنحط الذي يهين كل إنجيل يلمسه في فلوريدا، ويرون أنّه يجب توقيفه أو حرمانه حرية التعبير بما أنّه يمثّل خطراً على الجنود. رغم أنّ حقه في التعبير عن نفسه هو بالتحديد ما يعرّض هؤلاء الجنود حياتهم للخطر من أجله. الوضع مماثل في ما يتعلق بخطة بناء المركز الثقافي في مانهاتن. قد يكون ذلك كريهاً للبعض، لكن إن لم تكن حرياتنا تشمل مَن نعارض تصرفاتهم، فهي ليست حريات أبداً. وبالطبع، إذا تخلّينا عن قيمنا في أوقات مماثلة، فإنّنا نرمي بأنفسنا في أيدي أعدائنا.
حثّ العقلاء منا على أن تكون الاعتصامات التي ستنظَّم في ذكرى 11 أيلول غير سياسية، وعلى تكريس اليوم للتفكير في الأرواح التي أُزهقت. هذا ما يجب أن يحصل. لكنّنا نحتاج إلى أكثر من يوم للتفكير في ما فعلته 11 أيلول بأميركا، وما سمحنا لها بأن تفعله بنا.
يجب أن نكرس السنة المقبلة، أي الذكرى العاشرة للاعتداءات، لمحاولة فهم الضربة التي تلقّيناها وردّنا عليها. وليس فقط بما حصل، كيف ولماذا، بل بماهية الأمة التي نريد أن نكون.
من السهل الالتزام بقيمنا حين يكون كلّ شيء على ما يرام. وكان أسهل علينا أن نروّج لها حين شعرنا بأنّنا أهم أمة. لكنّنا الآن في عالم يسوده الخوف وعدم الأمان بسبب الغضب الذي سببته الأعمال الشريرة في ذلك اليوم من أيلول قبل تسع سنوات. هو عالم تظهر فيه أشكال جديدة من عدم الأمان كلّ يوم، ما يضاعف الحالة الوطنية العامة من اضطراب ما بعد الصدمة الذي نعانيه.
وبالتالي، يتحوّل خوفنا من الإرهابيّين على حدودنا، إلى خوف من المهاجرين الذين قد يأخذون الوظائف الأميركية القليلة. ويؤدي استعدادنا للتفريط بقيمنا وقوانيننا في الحالة الأولى إلى استعدادنا للقيام بذلك في الحالة الثانية. عدم ثباتنا في مشاعرنا تجاه الأشخاص الذين قد يعبرون حدودنا يترجَم إلى خوف من البضائع التي قد تعبرها، وننساق بالتالي إلى تطبيق تدابير تطيح نظاماً دولياً من القوانين ساعدْنا على خلقه لمعاقبة مصدر هذه التهديدات دون التفكير في كيف ستنقلب أعمالنا ضدنا. سيحكم التاريخ على ردّ فعلنا على 11 أيلول، وقد يقرر أنّنا دخلنا فعلاً فترة هستيريا وطنية خلال العقد الذي تلاها (إلى جانب ذلك هناك اجتياح العراق، انتهاكات غوانتانامو وأبو غريب والترحيلات القسرية العديدة، قانون الوطنية، بناء الدولة الأمنية، اعتبار الإرهاب أولوية أكثر من تهديدات أكبر لأمّتنا، صرف تريليونات الدولارات التي أثّرت في صحتنا المالية، استعدادنا لمعارضة روح وأساس دستورنا والقيم التي تميّز أميركا). من المبكر الحكم إذا كانت الاعتداءات قد حقّقت الهدف الأساسي للإرهابيين بإلحاق الضرر الدائم بمركزنا في العالم. لكنّه ليس من المبكر الاستنتاج أنّه يمكن أن تكون قد حققت ذلك، وأنّه من الممكن ألّا نعود إلى ما كنا عليه من قبل.
بالطبع، بعد مأساة كهذه، ربما كان من الأفضل أنّنا تغيّرنا. هناك الكثير لنتعلمه من 11 أيلول مما يمكن أن يجعلنا أقوى وأكثر أمناً ويساعدنا على أن نفهم بطريقة أفضل طبيعة العالم والتهديدات الشائعة فيه. لكن، كما رأينا، حين تُغيّرنا الأحداث، نواجه كلنا خيارات مهمّة، لا الرؤساء فقط، بل الجميع. ورأينا أنّه حين نترك اندفاعاتنا غير المنطقية تتحكم في هذه الخيارات، حتى لو كانت ذات نية جيدة ومن القلب، فسنرتكب أخطاءً فادحة في الحكم. لحسن الحظ، الوقت يمنح المسافة التي تفسح المجال أمام العقلانية.
إذا كنا محظوظين، فستعطينا السنة المقبلة هذه المسافة والعقلانية. لسوء الحظ، نظراً إلى الأحداث الحاصلة والخطابات وهستيريا الأسبوع الماضي المتجددة، يجب أن نرى كلّنا أنّه إذا لم نتصرف ونستغلّ اللحظة ونستعِد السيطرة على أنفسنا، فلن يحصل كلّ هذا.
* عن مجلة «فورين بوليسي»
الأخبار