أية أكثرية جديدة لحل المشكلات الطائفية؟
ياسين الحاج صالح
لا يبدو أن سياسيي العراق المقررين بعد عهد صدام اهتموا ببناء أكثرية عراقية جديدة، أو أدركوا الحاجة إلى ذلك. ولعلهم ظنوا أن الوطنية العراقية التي انبنت على نظام صدام وحزبه البعثي وعشيرته الأقربين ومحلة تكريت، والتي كان تماهي السنيين فيها أسهل من غيرهم، الوطنية هذه يمكن أن تبنى من باب أولى على الأكثرية الشيعية. ففوق سوابق التمييز ضدهم على يد نظام صدام أو منذ الأيام الأولى لقيام الكيان العراقي الحديث، الشيعة قبل كل شيء أكثرية العراقيين. ما هو جيد للشيعة إذن جيد للعراق أيضا. بيد أن التفجر الطائفي الوحشي واللاعقلاني في عراق اليوم يكشف كم أن هذا غير صحيح. وما لا يبدو أن قادة عراق ما بعد صدام قد أدركوه، هو أن نظام صدام لم يكن طائفيا لأن قاعدته الموثوقة من أصول سنية، أو لأن سنيي العراق أقلية سكانية. لقد طور نظام صدام خصائص أقلوية وطائفية ودكتاتورية نتيجة إخفاق عملية تكون أكثرية وطنية عراقية متجاوزة للجماعات الدينية والمذهبية في العراق. بعبارة أخرى، ليس النظام طائفيا وأقلويا لأن جهات القرار فيه تنحدر من جماعة مذهبية أقلية، هي المسلمين السنة؛ بالعكس، صار النظام طائفيا وأقلويا، وبصورة ما “سنيا”، لأن عملية تكون أكثرية وطنية عراقية مستقلة عن الدين والمذاهب تعثرت ولم تستكمل. إن نظاما يهتم ببقائه، بينما تضيق قاعدة ارتكازه الاجتماعية الوطنية، سيبركن من كل بد إلى قاعدة أهلية ويتوسع في توسل الإكراه، أي سيغدو طائفيا ودكتاتوريا. لقد بدا لبعض الوقت أن الأكثرية هذه كانت تتكون على أرضية العروبة التي تتجاوز التمايز الشيعي السني، ومبدئيا التمايز الإسلامي المسيحي (وإن كانت تثير مشكلة كردية). بيد أن العروبة البعثية في العراق (وفي سورية) افتقرت إلى مضمون سياسي وحقوقي واجتماعي إيجابي يوحد العراقيين (والسوريين) أو تتكون عليه أكثرية حقيقية. ولم تلبث العروبة الخاوية من المضمون أن امتلأت بعبادة الحاكم وأهله وعشيرته من جهة، وجُعِل منها قاعدة عزل الداخل المحلي عن الخارج “المعادي” و”المتآمر” من جهة ثانية. وليس إلا طبيعيا أن تتفكك الأكثرية الوطنية التي بدا أنها قد تتكون عليها. القصد أن طائفية نظام صدام تنامت بتناسب طردي مع فشل تكون أكثرية وطنية عراقية، وقد سارت يداً بيد مع تفاقم طغيان النظام وتعامله الوحشي مع شعبه. القصد أيضا أن الحل الوحيد لمشكلات الطائفية المهددة للمشرق العربي برمته هو العمل على تكون أكثريات وطنية جديدة. وهذا شيء مختلف تماما عن الأكثريات الأهلية التي لا يضمن وصول نخب منحدرة منها إلى السلطة حل المشكلة الطائفية بحال. بل إن هذا أقرب في الواقع إلى أن ينميها ويطبّعَها. وهو لا يعدو كونه حلا طائفيا للطائفية. والمثال العراقي يظهر أن الحل الطائفي قد يعني انحلال البلد ذاته. ما يمكن أن يكون حلا وطنيا يجنب بلداننا الانحلال هو نشوء أكثريات متعالية على الطوائف. هل كان من الممكن أن تتصرف النخبة العراقية ذات الأصول الشيعية بطريقة تسهل قيام أكثرية عراقية غير طائفية؟ ندرك كم أن هذا صعب. كانت رعونة نظام صدام والنظام البعثي طوال 35 عاما قد حطمت صيغ الانتظام العقلانية والمدنية للمجتمع العراقي، وجعلت الأطراف المعارضة الأقوى هي القوى الدينية والطائفية الصريحة. فالسياسة المدنية شأن “كمالي”، يكتسب اكتسابا، فيما السياسة الطائفية شأن أكثر “طبيعية”، يتعذر على أي طاغية اجتثاث منتظماتها. وفي العموم، يبدو أن الطائفية نتيجة لتعثر العروبة السياسية في المشرق التي كانت الأساس الوحيد للوطنية ولقيام أكثريات محتملة في دوله. ويبدو أن التاريخ يؤكد ذلك. فبعد سنوات من حرب حزيران التي أضعفت الجاذبية السياسية والمعنوية للفكرة العربية، وولدت أزمة هيمنة هائلة تزداد اليوم تفاقما، تفجرت الحرب اللبنانية وفي تطور دكتاتوريات المشرق الوطنية إلى دكتاتوريات طائفية. ما هي الأكثرية التي يمكن أن تقوم اليوم في المشرق أو المنطقة الشامية العراقية لحل مشكلات الطائفية؟ أو على أية أرضية تقوم الأكثرية المأمولة؟ على العروبة مرة أخرى؟ يقول قوميون عرب إن تهميش العروبة لم يقد إلى تصليب قوام “الدول القطرية” القائمة، بل إلى انبعاث الطائفية والهويات الفرعية. هذا صحيح، ويؤكد ما نذهب إليه من أن الطائفية نتيجة تحلل الأكثرية العربية (وعدم قيام أية أكثرية أخرى). بيد أن جل ما يمكن أن يبرهن عليه رأي القوميين هو الحاجة إلى أرضية إجماع أو أكثرية جديدة. أما كون العرب هم الأكثرية في منطقتنا فلا يكفي كي تكون العروبة هي أرضية الأكثرية الجديدة، تماما كما أن كون الشيعة أكثرية العراقيين والسنة أكثرية السوريين.. لا يكفي لقيام أكثرية وطنية مبنية عليهما تحل المشكلة الطائفية مبدئيا. لقد كانت العروبة أرضية أكثرية في الستينات لا لأن العرب أكثرية السكان، ولكن لأن العروبة ارتبطت بقيم التحرر والاستقلال والمساواة والتغير الاجتماعي والاشتراكية، أي لأنها كانت فكرة تقدمية ومهيمنة. بعد ذلك، وعلى يد الأنظمة ذاتها ارتدت العروبة إلى سياسة هوية مفرغة من أية مضامين اجتماعية وحقوقية وسياسية، تهمش قطاعات من السكان غير العرب، دون أن تضمن للعرب منهم حقوقا فعلية. وليس في وسع سياسة هوية تقوم على أساس قومي أن تقف في وجه سياسة هوية أخرى تقوم على أساس قومي مختلف أو ديني أو مذهبي. ما يمكن أن يقف في وجهها هو سياسة وطنية وديمقراطية، تنفتح على التعدد الذاتي لمجتمعاتنا، لكنها لا تردها إلى جمع حسابي لهذا التعدد. هذا يقتضي جهودا فكرية وسياسية ومعنوية كبيرة. ما يهمله القوميون أيضا أن الوطنيات المحلية في المشرق قلما كانت موضع استثمار عقلاني إيجابي، وأن من شأن الاشتغال عليها أن ينصب الحواجز الأقوى في وجه الطائفية وتشكيلات ما دون الدولة، وأن إضعافها من فوقها العربي أو الإسلامي لا يعزز إلا تداعيها من تحتها الطائفي والإثني. ولا نرى قاعدة ممكنة لأكثرية جديدة غير السورية والعراقية واللبنانية وما إليها. لكن لا نفكر في هذه كقوميات تحل محل القومية العربية، وفقا لما تدعو إليه شعارات “سورية أولا” و”لبنان أولا” و”الأردن أولا” وما إليها. نفكر فيها كوطنيات ديمقراطية متصالحة مع تعددها الداخلي، ومنفتحة على كونها وحدات ضمن متعدد إقليمي وسع، عربي أساسا، ضمن متعدد عالمي. فلا ننتقد القومية العربية انحيازا إلى قوميات أخرى، عراقية (أو سورية) أو إسلامية… ما ننتقده هو القومية ذاتها التي ترد مجتمعاتنا المركبة إلى هويات بسيطة، سواء كانت عربية أم عراقية… أم إسلامية. وكما لم يغد العرب أكثرية في خمسينات القرن العشرين وستيناته في سورية والعراق.. إلا بفعل انفتاح العروبة على قيم اجتماعية وسياسية وفكرية عصرية، فإنه لا تتكون أكثرية بديهية حول السورية والعراقية في كل من سورية والعراق لمجرد أن سكان سورية سوريون وسكان العراق عراقيون. وقد يكون لب المشكلة اليوم أن اجتماعنا السياسي مولد لأقليات من كل نوع، ومفكك لأية أكثريات، بما فيها الأكثريات المذهبية والإثنية. ما أصل هذا الشرط؟ تقتضي الإجابة تناولا مستقلا.