لبنان وسورية.. «اعتذارات خجولة»
المراجعات اللبنانية ـ السورية بدأت مع الأسد بعد اغتيال الحريري الأب ثم انتقلت إلى لبنان وبدأت مع عون وجنبلاط انتهاء بالحريري الابن
بيروت: ليال أبو رحال
من اعتراف الرئيس السوري بشار الأسد في مارس (آذار) 2005 بوجود أخطاء في الممارسة السورية في لبنان طيلة السنوات الفائتة، مرورا بجملة المتغيرات والظروف التي قادت الزعيم المسيحي ميشال عون، الخصم الأشد مناهضة لسورية قبل عام 2005، وحليف حليفها الوثيق بعد عام 2005، إلى فتح صفحة جديدة مع دمشق في عام 2008، وصولا إلى اعتراف رئيس الحكومة سعد الحريري بخطأ فريقه السياسي في اتهام سورية في اغتيال والده منذ أقل من أسبوعين.. خمس سنوات خمس مرت، أعيد خلالها خلط الأوراق بين لبنان وسورية وشهدت ما يمكن وصفه بالـ«اعتذارات الخجولة» بين الطرفين.
وفي حين غاب مصطلح «الاعتذار» وكل ما يمت إلى حقله اللغوي بصلة عن اعترافات الرئيس السوري ورئيس الحكومة اللبنانية بالأخطاء المتبادلة، والتي فصلت بينها أعوام خمسة، كان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، المسكون بهاجس الحرص على خصوصية طائفته، سباقا في تجاوز الاعتراف بالأخطاء إلى الاعتذار في بداية عام 2010، تماما كما كان سباقا في عداء سورية ورفع سقف الخطاب السياسي تجاهها، بدءا من عام 2005. وفي موازاة تفرد جنبلاط بالاعتذار من سورية وشعبها، كان عون سباقا، ولم يسبقه أحد إلى ذلك، في المطالبة باعتذار لبناني نحو سورية، على الرغم من كل ما لحق به وبتياره من قمع واضطهاد وملاحقة خلال ما كان يعرف بمرحلة «الوصاية» السورية على لبنان.
في دمشق وأمام مجلس الشعب السوري عشية الخامس من مارس 2005، وعلى بعد أيام من اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005، أعلن الرئيس الأسد قرار سحب القوات السورية «المتمركزة في لبنان بالكامل إلى منطقة البقاع، ومن ثم إلى منطقة الحدود السورية – اللبنانية»، معتبرا أنه بإنهاء هذا الإجراء «تكون سورية قد أوفت بالتزاماتها حيال اتفاق الطائف ونفذت مقتضيات القرار 1559».
أقر الأسد، في الخطاب الذي فرضته آنذاك جملة من المتغيرات المحلية الإقليمية والدولية غداة اغتيال الحريري وما شهدته الساحة اللبنانية من تحركات شعبية وسياسية مطالبة علانية وللمرة الأولى بانسحاب القوات السورية من لبنان، بوجود أخطاء في الممارسة السورية في لبنان. واعترف بكل وضوح وشفافية أن «ثمة أخطاء ارتكبت على الساحة اللبنانية، حيث غرقنا ببعض التفاصيل والإجراءات واندفعنا بعض الأحيان في علاقاتنا مع بعض اللبنانيين على حساب البعض الآخر، لاعتقادنا أن التعاون مع الوضع الراهن يعزز الدور السوري في مساعدة لبنان على تحقيق الاستقرار، ولكن الواقع لم يكن كذلك».
ولم يغفل الأسد الإشارة إلى أن «استغلال البعض لوجود القوات السورية لاعتبارات مصلحية وضيقة مادية أو سياسية أو انتخابية أو غيرها، أدى إلى الكثير من التراكمات السلبية، وذلك من دون أن ننكر دور المخلصين الأوفياء من الأشقاء اللبنانيين الذين وقفنا وإياهم في خندق واحد في مواجهة أعداء لبنان وسورية وعملوا معنا جنبا إلى جنب من أجل خير لبنان وسورية».
اعتراف سورية بأخطاء في لبنان، أرفقه الأسد بالتأكيد على أن «كل ذلك لن يعني تخلي سورية عن مسؤولياتها تجاه الإخوة والأصدقاء في لبنان، والذين جمعتنا وإياهم وحدة الهدف والإرادة في لحظات حرجة من تاريخنا المشترك»، مشددا في الوقت عينه على أن «انسحاب سورية من لبنان، لا يعني غياب الدور السوري، لأن هذا الدور تحكمه عوامل كثيرة جغرافية وسياسية وغيرها، بل بالعكس تماما، نكون أكثر حرية وانطلاقا في التعامل مع لبنان».
واستغرب الأسد آنذاك كيف أن «لكل جريمة يكون هناك عدد من الاحتمالات إلا في هذه الجريمة (جريمة اغتيال الحريري)، فكان هناك احتمال واحد هو سورية وهذا أمر مستغرب»، معتبرا أن «يبدأ البعض سواء تحت تأثير الصدمة التي أحدثتها الفجيعة أو بفعل مخطط مسبق مشبوه أو بفعل سوء نية باستخدام هذه الجريمة استخداما دنيئا من أجل تأجيج المشاعر العلنية ضد سورية وتصعيد الاتهامات نحوها،..».
في بداية الشهر الأخير من عام 2008، أعلن النائب ميشال عون طي صفحة العداء مع سورية، وفتح صفحة جديدة لا مهزوم فيها ولا منتصر إنما «عودة لعلاقات طبيعية مرتكزها الانفتاح». وأجرى عملية «قلب مفتوح لتنقية الوجدانين اللبناني والسوري»، على حد تعبيره آنذاك، مع الرئيس الأسد، الذي خصه باستقبال سياسي وشعبي مميز. وأثناء مؤتمر صحافي عقده في القصر الرئاسي في دمشق، ثارت حفيظة الزعيم الماروني لدى سؤاله من إحدى الصحافيات، في عداد الوفد الصحافي اللبناني المرافق، عما إذا سمع اعتذارا سورية للبنانيين على كل «المرحلة الدامية بين البلدين». وأجابها قائلا: «هل اعتذر الموجودون في بيروت، وكانوا شركاء مرحلة معينة مع الذين كانوا مسؤولين في حينه عن الوضع اللبناني؟ هل اعتذروا منا كلبنانيين أو (بعدن نازلين فينا ضرب)». وأضاف: «ما حصل من استقبال لي في سورية هو تكريم وليس اعتذارا، ويجب أن يبدأ اللبنانيون الموجودون في بيروت بالاعتذار أولا حتى نلزم من أصبح خليفة للذين كانوا بالحكم بالاعتذار. نبدأ ببيروت حتى نصل إلى الشام».
وأثار موقف عون صدمة في الأوساط اللبنانية في تلك الفترة، التي بلغت فيها قطيعة بيروت السياسية مع دمشق أوجها، خصوصا أن المطالبة بالاعتذار صدرت عن عون، الذي خاض ضد سورية ما أسماه بـ«حرب التحرير»، في عام 1989، قبل دخول الجيش السوري في عام 1990 إلى جميع المناطق اللبنانية ونفيه إلى باريس لمدة تجاوزت 15 عاما. وكان عون استمر خلال فترة وجوده في باريس في عدائه لدمشق، والذي تجلى في أبرز حلله في الشهادة التي أدلى بها في الكونغرس الأميركي ضد سورية، في إطار إصدار الولايات المتحدة «قانون محاسبة سورية».
بعد نحو العشرة أشهر على عودة المياه السورية – العونية إلى مجاريها، فاجأ وليد جنبلاط كوادر حزبه وقيادييه في الثاني من آب (أغسطس) 2009، خلال جمعية عمومية للحزب التقدمي الاشتراكي الذي يرأسه، وبعد أقل من شهرين على انتهاء الانتخابات النيابية، بإعلان انعطافته السياسية وتكريس ابتعاده عن قوى «14 آذار» التي كان مكونا قياديا فيها، معتبرا أن تحالفه معها كان «بحكم الضرورة»، ومشددا على وجوب «إعادة التفكير في تشكيلة جديدة من أجل الخروج من الانحياز، وعدم الانجرار إلى اليمين».
منذ ذلك التاريخ، بدأ جنبلاط يعيد تموضعه السياسي، الذي توجه مؤخرا بلقاء رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، الذي لا يزال صدى شعار جنبلاط المناهض له وللأسد «يا بيروت بدنا التار.. من لحود ومن بشار» يتردد في ساحة الشهداء في وسط بيروت.
في الفترة التالية لانعطافة أغسطس 2009، عمل جنبلاط بشتى الطرق والوسائل وعبر وسطاء عدة، في مقدمهم حزب الله، على إعادة وصل ما انقطع مع النظام السوري والرئيس الأسد. وفي 13 مارس 2010، أطل جنبلاط على شاشة «الجزيرة»، واصفا خطابه خلال إحياء الذكرى السنوية الثانية لاغتيال الحريري حول الرئيس الأسد بأنه «كلام غير لائق قيل في لحظة تخل»، وأنه خرج فيه «من العام إلى الخاص في ظرف انقسام وتوتر داخليين».
وتساءل جنبلاط آنذاك «عما إذا كان الرئيس السوري قادرا على تجاوز تلك التصريحات وفتح صفحة جديدة»، لافتا إلى أنه سينتظر «إذا كانت القيادة السورية راغبة في تجاوز تلك اللحظة، وإذا وجهوا دعوة فلن يكون لدي مانع وقتها». ونفى أن يكون قد أعلن عداءه للشعب السوري، متوجها إليه بالقول: «مصيرنا مشترك».
وبعد أيام على إعلان جنبلاط موقفه، الذي تلقفته سورية كاعتذار مباشر، أسقطت مجموعة من المحامين العرب المستقلين برئاسة المحامي حسام الدين الحبش دعوى ملاحقة وجلب سبق ورفعوها على جنبلاط بتهمة التحريض والعدوان على سورية خلال التصريحات التي أدلى بها قبل سنوات. ورأت «لجنة الادعاء القومي العربي» التي يترأسها الحبش في تصريحات جنبلاط على شاشة «الجزيرة» «اعتذارا للرئيس والشعب السوريين».
وفي موازاة عودة المياه إلى مجاريها بين المختارة ودمشق، وإشباع جنبلاط «اشتياقه» إلى الشام، بدأ الرئيس الحريري، بعد تكليفه برئاسة حكومة الوحدة الوطنية، فتح صفحة جديدة مع الرئيس الأسد ودمشق، بناء لمضمون البيان الوزاري لحكومته وما نادى به فريقه السياسي منذ عام 2005 لناحية إعادة بناء العلاقة الثنائية وتنقيتها من الشوائب التي اعترتها.
وبعد خمس زيارات متتالية إلى دمشق، وعلى خلفية ارتفاع وتيرة السجال السياسي حول القرار الظني والمحكمة الدولية وطلب حزب الله ملاحقة «شهود الزور» ومعاقبتهم لتضليلهم التحقيق، أطل الرئيس الحريري، منذ أقل من أسبوعين، في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، أطلق خلالها سلسلة مواقف أعادت رسم المشهد السياسي في الأسبوعين الفائتين، واستدعت جملة من الردود وصلت إلى حد تهديد اللواء جميل السيد، أحد الضباط الأربعة، الرئيس الحريري بـ«أخذ حقه بيده»..
اعترف الحريري بـ«خطأ توجيه الاتهام السياسي» إلى دمشق وبوجود شهود زور «سيسوا الاغتيال وضللوا التحقيق»، من دون أن يقدم اعتذارا، مما حدا بقوى سياسية عدة وفي مقدمتها حزب الله إلى مطالبة الحريري بتقديم اعتذار علني. وقال مسؤول العلاقات الدولية في حزب الله النائب السابق عمار الموسوي، مطلع هذا الأسبوع، إن اعتراف الحريري بالخطأ حيال اتهامه لسورية «غير كاف وليس سوى مجرد بداية»، مشددا على «أن الاعتراف بالخطأ لا يكفي لأن المطلوب تصحيح المسار وتقديم اعتذار علني لسورية».
وفي موازاة توجس قوى «14 آذار» من جملة لتقويض إنجازات «انتفاضة الاستقلال»، ومع عودة لغة التهديد والوعيد والدعوات للعصيان على عدد من المؤسسات الأمنية والقضائية، اعتبر النائب في كتلة المستقبل، نهاد المشنوق، الذي كان مقربا من الحريري الأب ويواكب مسيرة الحريري الابن، أنه «لم يكن من ضرورة لاستعمال تعبير الاتهام السياسي». وقال المشنوق لـ«الشرق الأوسط» أن «العلاقات بين لبنان وسورية من الناحية العملية أعمق من ذلك، وتاريخيا لا تستقر سورية إذا كانت علاقاتها مع لبنان صعبة، ولا يستقر لبنان إذا كانت علاقاته مع سورية متوترة».
ويرى المشنوق أن «العلاقة الثنائية بين لبنان وسورية وضعت على السكة السليمة، وثمة ملفات تعني البلدين موضوعة اليوم على الطاولة للمرة الأولى على قاعدة الحوار الإيجابي، بصرف النظر عن الخلاف حول هذه النقطة أو تلك». وعلى الرغم من وجود مواضيع لم تحسم بعد منها: «الاتفاقية الأمنية، وضرورة الإبقاء على المجلس الأعلى اللبناني السوري، وملف المفقودين، ومسألة العمالة السورية في لبنان»، فإن من «شأن الحوار حولها أن يؤدي إلى نتائج، لا سيما أن حديث الحريري يساعد على مزيد من الإيجابية والاعتدال للبحث في هذه العناوين»، على حد تعبير المشنوق.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي علي الأمين لـ«الشرق الأوسط»، إن «الاتهامات التي وجهت إلى دمشق بعد اغتيال الحريري عكست الوضع القائم في تلك الفترة والأخطاء التي اعترفت سورية بالقيام بها لاحقا»، مذكرا بسلسلة من الأحداث التي «لعبت فيها سورية دورا في المعادلة اللبنانية انطلاقا من فرض التمديد للرئيس إميل لحود، مرورا بالمواجهة مع الرئيس الحريري ومنعه من تشكيل الحكومة». وشدد على أن «الاتهام اللبناني لدمشق لم يأت استجابة لطلب زعيم أو جهة سياسية، ولم يكن المقصود أنها اغتالت الحريري بقدر ما كان مقصودا دورها في تهيئة المناخ الملائم».
ورأى أن «إنجازات (14 آذار) على صعيد خروج الجيش السوري وطرح شعارات السيادة والاستقلال وإعادة بناء دولة المؤسسات وعلاقة مع سورية قائمة على أساس الاحترام المتبادل، كلها اليوم أمام تحديات في ظل ما نشهده من عودة النفوذ السوري بشكل متزايد على الساحة اللبنانية، انطلاقا من عجز القوى السياسية الداخلية عن التوصل إلى تفاهمات راسخة في إدارة شؤون البلد من جهة، ومحاولة استفادة سورية من هذا الاختلاف من جهة ثانية».
ورجح الأمين أن يكون الحريري «يسعى إلى وضع مسافة بينه وبين المحكمة الدولية في حديثه عن شهود الزور، انطلاقا من رغبته في ألا يتحمل مسؤولية أي قرار يصدر عنها، ويريد بالتالي الفصل بين ما يمكن أن تذهب إليه في آليات عملها وبين العلاقات التي تتصل بمصلحة الدولة اللبنانية، وبينها العلاقة مع سورية». وعن مطالبة الحريري بالاعتذار، أعرب الأمين عن خشيته من «تزايد الضغوط على الرئيس الحريري في المرحلة المقبلة ومطالبته باتخاذ المزيد من المواقف في كل مرة يقدم فيها تنازلا جديدا»، معربا عن تخوفه من أن «يؤثر ذلك سلبا على عمل المحكمة باعتبار أن من تصدر عنه المواقف هو ابن الشهيد رفيق الحريري».
الشرق الأوسط