المفاوضات إذ تكشف غياب التصور الفلسطيني
نهلة الشهال
من باب الفضول: هل يهتم الفلسطينيون، أقصد عموم الناس، بالمفاوضات الجارية؟ وتعريف الاهتمام ليس متابعة ما يجرى من سفر ولقاءات وتبادل تصريحات، بل توقع نتائج عملية وواقعية تعدِّل في حياتهم كما هي قائمة. المرجح أن الجواب بالنفي. وأن الفلسطينيين يعرفون أن محركات التغيير تعمل في مكان آخر، وأنها في ذلك المكان – على الأرض – فاعلة وذات تأثير… ضدهم. فإن بُنيت غداً 1300 وحدة سكنية جديدة جنوب القدس، فسيكون لذلك تبعات على حياة الفلسطينيين في جوارها، وسيزداد اختناق المعابر القليلة التي ما زالت قائمة بين الأراضي الفلسطينية، هذه المرة باتجاه بيت جالا التي تقابلها جيلو المتوسعة. سيقول كل فلسطيني، بما في ذلك من يتبع السلطة، إن المفاوضات بلا طائل، وإن السلطة «مجبرة» على القيام بالدور. وسيقول من يعارض السلطة إنها متواطئة مع الاحتلال. والحق أنه لا فارق بين الأمرين! فهذا نقاش يشبه في السياق الحالي الخلاف على تحديد جنس الملائكة، لأن الجميع يتوافق علناً أو ضمناً على التقييم.
ليــس معنـــى ذلك أنه لا طائل من المفاوضات إجمالاً، كوسيلة من وسائل الفعل السياسي. فهذا موقف عدمي ولاسياسي تعريفاً، ولا يوجد مثال واحد في التاريخ عن صــراع أو نضال لم يمر بالتفاوض المديد. وفي المقام الثاني، فلا بد من عدم اختزال أو تبسيط الأمر إلى مفاوضات أو كفاح مسلـــح، فهما غير متناقضين، بمعنى أنه يمكن ممارستهما معاً – كما حدث في التاريخ – ويمكن استنباط وسائل نضال أخرى سواهما، من دون أن تكون متناقضة معهما (معاً!).
هل ذلك تشاطر كلامي كما يقول دعاة الحسم بين الموقفين (يسمونهما «خيارين»، وهما في الواقع ليسا كذلك). هناك «أخلاق» عامة باتت تنبذ التعقيد وتجنح إلى تبني هياكل واضحة ومرتبة. وهكذا يقول أتباع السلطة: حسناً، المفاوضات عقيمة، ولكن ما البديل؟ ويظنون أنهم أفحموا مجادليهم وبرروا أنفسهم. بينما يقول مناهضو السلطة إن الحل يرتكز إلى «قوة الإيمان والعقيدة والسلاح والصواريخ والأنفــــاق والاستشهاديين»، بحسب السيد أحــــمد الجعبري قائد كتائب القسام، في تعليقه على اجتماع شرم الشيخ أو الجولة الثانية من المفاوضات الحالية. وكلاهما يفترض انه يمكـــن توفير حلقة مفقودة في الوضع السياسي الفلسطيني كما هو قائم، تتعلق بامتــــلاك تصور ذاتي للمرتجى والممكن على السواء، يحدد الصلة بينهما بدل وضعهما في تنافر، ولا يتعلق بواحدهما دون الآخر، ويستند إلى خيال سياسي يبلور الخطوات الكفيـــلة بتحقيقهما: ما يقال له استراتيجية، بما هي ليست مجرد تكرار ببغاوي للأهداف العامة وتغنٍ بالمبادئ والحقوق، وليست براغماتية انتهازية فاقدة بوصلةَ توجهها وتقول لها ما هو المسموح والممنوع.
يمتلك الطرف الإسرائيلي مثل هذا التصور الذاتي. وهو يقوم في المرحلة الحالية على انتزاع اعتراف الفلسطينيين – أولياء الحق – بيهودية الدولة الإسرائيلية، ليس ضمناً كما هو الواقع، ولكن جهاراً وفصاحة، مما يظنه الإسرائيليون ترسيخاً لشرعية وجودهم. وقد بلوروا استراتيجية متناسبة مع هذا التصور، تقوم على استخدام القوة والواقع الاحتلالي لفرض تعديلات ديموغرافية وإنشائية على الأرض، وأيضاً لإرساء مألوف وشائع ومحرم… في مفردات اللغة السائدة وفي مرتكزات الخطاب المستخدم، بما يلائم مصالحهم وتصورهم ذاك. وهم يريدون من المفاوضات أن تعطيهم «صدقية واحتراماً» يسمحان لهم بالتغطية على ما يرتكبون، في ظل موقف دولي إن لم يكن متواطئاً معهم حباً بهم، فعجزاً وخضوعاً للأقوى، وتقديراً للمصالح المشتركة.
هل يمكن قول الشيء ذاته بخصوص الطرف الفلسطيني؟ بالتأكيد كلا، وبكل المقاييس. ليس فحسب لأن الأطراف الفلسطينية لم تتمكن من التوافق على حد أدنى وطني ضابط، بل لأنها تتصارع تحديداً من أجل أن يتحقق فشل الطرف الآخر بل ومحقه كهدف أسمى. وهي تتوسل العملية السلمية لهذه الغاية. ولذلك لا تعود هذه العملية (ومنها مرحلتها الحالية المسماة «مفاوضات مباشرة»، وسيكون لها غداً تسمية أخرى، وهكذا) سوى وسيلة لإثبات الوجود: السيد عباس عبر «شرعية» أنه المفاوض المعترف به دولياً وعربياً، وحماس ومعها سائر الفصائل المعارضة عبر «شرعية» المعارضة تحديداً. وكفى المؤمنين شر القتال. هل يمكن الوقوع على تواطؤ أكبر من هذا؟
نعم! هناك تعيّش الأطراف الفعلي على وضعية العجز هذه. السلطة الفلسطينية تتلقى بلايين الدولارات من مانحين رسميين ومنظمات متنوعة، بحجة أنها منخرطة في العملية السلمية، وأنها تقارع حماس الإسلامية، وأنها واجهة التعويض الدولي عن الظلم اللاحق بالفلسطينيين. وهي تدوِّرها للاغتناء الشخصي والتشغيل الذاتي وإعاشة الموظفين وعائلاتهم ودوائر أوسع من الناس، بحيث لا يموت أحد من جوع، ويعتاد الناس على حلقات التبعية المتداخلة، ويصبحون مُعالين بفضل تلك البقرة الحلوب (العملية السلمية). وسلطة حماس في غزة تعتاش على دورها كـ «ضد – العملية»، فتنال هي الأخرى تعاطفاً بسبب الوضعية الخانقة لغزة، وتمثيلها للجهة التي «تقاوم» وما زالت تتحدث عن الكفاح المسلح، وتتلقى مساعدات من مصادر متنوعة تدوِّرها للحيلولة دون موت الناس من الجوع (ولتدعيم سلطتها الذاتية وللاغتناء الشخصي أيضاً).
إنها بنية متكاملة إذاً، وهي متقابلة بحيث تُكمل الواحدة الأخرى، بل لا يمكن أن تزدهر الواحدة من دون رديفها/خصمها.
ما هي عناصر التصور الذاتي والاستراتيجية هذين؟ مثال: أن تدعى السلطة الى تقديم استقالة سياسية «مبنية» – أي تعلن وتوضح محاجّتها – أمام الأمم المتحدة. يُجاب بأن ذلك يُيتِّم الشعب الفلسطيني! وكأن مؤسسات الشعب الفلسطيني ستذوب، بينما يفترض أن يُعمل على تقويتها لمجابهة كل الحاجات اليومية وتحمُّل أعبائها. الاستقالة، كحركة اعتراضية على الضغوط الدولية والإملاءات الإسرائيلية، تضع كل تلك الجهات أمام مسؤولياتها. يجيب البعض بأن السلطة لا يمكن أن «توافق» على اتخاذ مثل هذه الخطوة، بينما المقصود أن تنشأ حالة نضالية عامة تستعيد زمام المبادرة (والأمل أو الطاقة عليه لدى الفلسطينيين)، وتولد دينامية ذاتية ذات قدرة توحيدية، تياراً طاغياً يبلور «غايات» النضال الفلسطيني اليوم، أي المطلوب والمسموح والممنوع، ويعيد في الوقت نفسه موضعة المسألة الفلسطينية على الساحة الدولية حقاً، وليس الوصاية الأميركية، ويسجلها كمادة حارقة غير محتواة، تضغط لإيجاد حل لها.
بغيـــر مثــــل ذلك، سيبقى توازن القوى بين إسرائيل والطرف الفلسطيني المفاوض مختلاً إلى حد مذهل، كما هو حالياً. وهو مختـــل ليــــس لأن إسرائيل أقوى عسكرياً، بل لأن الطــــرف الفلسطيني يذهب إلى المفاوضات عارياً إلا من ابتزاز أوحد: «لا تفشّلوني أمام حماس»، و «إذا فشلت فسينتصر التطرف»، أي مختبئاً خلف عدائه… لنفسه. أي بؤس هذا؟!
الحياة